تُلعب الشطرنج بـ 32 قطعة فوق رقعة تحتوي 64 مربعاً. وما أن يتخذ كلا الجانبين خطواتهما الأولى ينشأ على الفور 400 احتمال مختلف، لكن ما أن يتم إجراء حركتين جديدتين حتى يتجاوز عدد الاحتمالات 72 ألفاً. وهكذا، تتصاعد الاحتمالات إلى أرقام فلكية مع كل حملة جديدة، فعند الحركة العاشرة للطرفين يصل عدد الاحتمالات إلى 170 أوكتليون (27 صفراً).

نفهم من هذه الأرقام أن الشطرنج لعبة تخطيط بامتياز، فأثناء القيام بالخطوة الأولى من الضروري التفكير مسبقاً بأهم الأبعاد والاحتمالات التي قد تنتج عن افتتاحية اللعب.

وبالعودة إلى العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، على الرغم من أن بوتين كان يعلم جيداً صعوبة قول "مات" للولايات المتحدة ومن خلفها الناتو في خطوة واحدة، فإنه بدأ بافتتاحية مكنته من قول "كش" من اللحظة الأولى، وهو ما اكسبه التفوق النفسي حتى اللحظة.

اللعبة الشعبية الأولى في روسيا

الشطرنج جزء أصيل من الثقافة الروسية. وبحلول الثورة السوفييتية، وإلى جانب إدخال الشطرنج ضمن المنهج في المدارس العسكرية منذ 100 عام كأداة تعليمية، استخدم الشطرنج أيضاً من أجل المساهمة في التنمية الفكرية للمجتمع الروسي بشكل عام، بدءاً من أطفال المدارس مروراً بعمال المصانع ووصولاً إلى موظفي الدولة وأعضاء الحزب، الذين كانوا يحصلون على الترقيات داخل الحزب بناءاً على مستواهم في الشطرنج.

وخلال الحرب الباردة، استخدم الروس لعبة الشطرنج كأداة دعاية من أجل ترويج أنفسهم، فكُتب عن الشطرنج في الصحف اليومية وطبعت مئات الكتب الخاصة باللعبة الشعبية، بالإضافة إلى لعبهم لأول مباراة شطرنج بين الفضاء والأرض عام 1970. عندما يتعلق الأمر بالشطرنج كانت روسيا أول دولة تتبادر إلى الذهن في العالم.

ومنذ القرن الماضي تحول الشطرنج ليصبح اللعبة الشعبية الأولى في روسيا وعموم الاتحاد السوفييتي، والتي ولغاية اليوم ما زال اللاعبين الروس يهيمنون على الصدارة العالمية منذ منتصف الأربعينيات، مع اختراق أوحد وحيد للأمريكيين في عام 1972. واليوم إذا تفحصت قائمة أعظم أبطال اللعبة ستجد أن الروس يهيمنون وبلا منازع.

شطرنج أوكرانيا

بالعودة إلى الافتتاحية التي بدأها بوتين على الرقعة الأوكرانية أمام خصمه الغربي المتمثل في الناتو بقيادة الولايات المتحدة، نرى أن هذه الخطوة لن تقتصر فقط على الحصول على التفوق النفسي على المدى القصير وحسب، ولكن يبدو أن روسيا، التي اعتادت على العقوبات والحصار الاقتصادي الغربي، ستخرج من هذه اللعبة أقوى من خلال سيطرتها على امتدادات النفط والغاز ولو بشكل غير مباشر، خصوصاً مع وجود عملاق مثل الصين يرقب طاولة اللعب عن كثب بالقرب من بوتين.

من جانبه يرى الصحفي التركي نجدات ساراج، أن اللعبة الدائرة في أوكرانيا حالياً ستنتهي بظهور "النظام العالمي الجديد" الذي نشأ إلى حد كبير مع ظهور الصين أولاً كقوة اقتصادية وعسكرية كبرى واستعادة روسيا في السنوات الأخيرة قوتها العسكرية. ويشير ساراج أيضاً إلى أنه على الرغم من عدم وجود فصل أيديولوجي وسياسي كامل مثل "الرأسمالية والاشتراكية" أو حتى "الديمقراطية والسلطوية"، فقد تكون هذه اللعبة سبباً في تحول العالم مرة أخرى إلى عالم متعدد الأقطاب.

فيما تُظهر التطورات أن هدف بايدن المتمثل في استعادة "النظام أحادي القطب" الذي تقوده الولايات المتحدة لن يعود ممكناً إذا فرضت روسيا وجهة نظرها بالمسألة الأوكرانية، التي سعى كلاً من بايدن وجونسون قصارى جهدهم لتصعيد التوترات سواء من خلال إرسال المساعدات العسكرية أو إعطاء مواعيد مغلوطة للهجمة الروسية من أجل إظهار "خطر" روسيا وكسر مقاومة ألمانيا وفرنسا وإعادة هيكلة الناتو مجدداً، لكن يبدو أن هذه الإستراتيجية لم تنجح بعد اصطدامها بالجدار الروسي، وفقاً لنجدات ساراج.

متى تنتهي لعبة أوكرانيا؟

اعتبرت روسيا دائماً توسع الناتو باتجاه الشرق تهديداً مباشراً لسيادتها ووجودها، وهو ما دفعها للتدخل عسكرياً ووضع حد لمثل هذه الخطط في جورجيا عام 2008 أولاً، ثم في أوكرانيا عبر شبه جزيرة القرم منذ عام 2014. واليوم، يمكن اعتبار إعلان روسيا أوكرانيا "أراضي روسية" وما تلاه من اعترافها باستقلال دونيتسك ولوغانسك ودخولها هاتين المنطقتين تحدياً عسكرياً للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.

وبعد هذه المواجهة والاحتلال الروسي لدونيتسك ولوغانسك بعد شبه جزيرة القرم، يوجد من يتوقع حدوث حرب كبرى، لكن التجارب تُظهر أنه لن تكون حرب كبرى، لأن كل الحروب السابقة كانت حروباً بالوكالة، فلا توجد حرب واحدة شنتها الولايات المتحدة ومعها الناتو بشكل مباشر ضد روسيا.

أما بخصوص سؤال متى يقول بوتين "كش ملك" أو "مات"، فالجواب يكمن بمدى صمود الحكومة الأوكرانية في كييف. فحسب الباحث التركي إيرول مترجملار: "بوتين لا ينوي احتلال أوكرانيا عسكرياً، لأنه إذا ما أراد ذلك فهو بحاجة إلى نشر أكثر من ثلثي جيشه على الأراضي الأوكرانية". ويشير مترجملار إلى أن خطة بوتين تتمثل بإسقاط حكومة زيلينسكي وطردها إلى الخارج والمجيء بحكومة أوكرانية تأتمر بأوامر الكرملين.

TRT عربي