الدجاجة الصغيرة الحمراء


بقلم: مهدي رابح

هنالك معضلتان متداخلتان ومتكاملتان تعترضان امكانية تسريع عملية توحيد الصف المدني المقاوم بشكل مؤسسي للمضي قدما في اسقاط الانقلاب ومن ثم الرجوع إلى ما يشبه مسار الانتقال الديموقراطي، اولهما التفويض الشعبي وثانيهما التموضع الذاتي، وهو ما ساحاول تفصيله تباعاً هنا.
معروف بالضرورة انه وما لم تدار انتخابات شفافة ونزيهة فليس لاي كيان الحق اليوم في ادعاء تمثيل الجماهير وهو امر يصبح اكثر تعقيدا في سياق وضع انقلابي تسعى فيه هذه الجماهير الي إسقاط نظام ديكتاتوري عسكري جديد قيد التخلق، وهي معضلة بعض أسبابها موضوعية يمكن إيجازها ببساطة في تدهور البيئة السياسية بشكل عام لعوامل عدة لا مجال لحصرها في هذه المساحة المحدودة، وأخرى ذاتية تتحمل مسؤوليتها قوي الحرية والتغيير بشكل كبير، وهنا اقصد ان هذا التحالف السياسي، الأعرض والأكثر تنوعا في تاريخ السودان والذي كان يمتلك تفويضا عقب اسقاط النظام السابق الي درجة مقبولة مكنه من إدارة التفاوض والدخول في علاقة سلطوية مع المكون العسكري على أساس وثيقة دستورية تمهد الطريق للتحول التدريجي الي نظام حكم ديموقراطي مدني وتعددي يتم فيه تبادل السلطة سلميا بالتفويض الانتخابي، والذي رغم بعض التحفظات والاخفاقات المعترف بها اصلا ، والعقبات الطبيعية المتمثلة في الإرث الثقيل للإنقاذ واهمها هشاشة جهاز الدولة وتلك المصنوعة من قبل الكارتيل المخابراتي العسكرواقتصادي الانقلابي، فإنها استطاعت تحقيق عديد النجاحات المهمة في ملفات اساسية كالعلاقات الخارجية واستقرار الاقتصاد الكلى وغيرها ، اهمها على الإطلاق هو انتزاع السلطة التي تغول عليها الكارتيل خلال فترة الحكومة الإنتقالية الأولى، ورغم ان قيادات قوي الحرية والتغيير واجهت الانقلاب منذ أشهر سبقت الخامس والعشرين من اكتوبر ظهرت تجلياته للجمهور العريض لاحقا في منتصف سبتمبر، وانها استطاعت بذلك تفريغه، اي الانقلاب، من اي اساس دستوري مقبول ليولد شائها وضعيفا، كان أكثرها وضوحا وتأثيرا علي التعبئة الجماهيرية الحالية هي مواقف وتصريحات بعض قياداته التي ردت على ادعاءات زعماء الكارتيل بوصايتهم على الشعب السوداني ودفعت نتيجة لذلك قمعا وزجا في المعتقلات ما زال بعضهم يرزح تحت وطأتها اليوم، اقول رغم ذلك فإن الحرية والتغيير رضخت للمزايدات المبذولة في الفضاء العام و للخطاب العدائي المسموم ونمط تشويه الشخصيات بل للتشكيك في التحزب السياسي كمفهوم لاغني عنه لاي تحول ديموقراطي ممكن، والذي غذته جهات عديدة على رأسها قوي الردة المحلية ومخابرات اقليمية داعمة للانقلاب، واختارت لنفسها موقع الدفاع و التبرير بدلا عن مواجهة هذا التيار المدمر بحزم وجرأة، وهو ما نتج عنه في نهاية الامر تهميشا لدور هذا التحالف وتحقيقا لأحدي اهم أهداف الانقلابيين، اي اضعاف الصف المدني وزرع البلبلة و انعدام الثقة والشقاق بين مكوناته.
المعضلة الثانية، وفي ظل الفراغ الذي انتجه تهميش دور الحرية والتغيير بفعل الخيارات الخاطئة والقمع لاحقا، هو ظهور كيانات سياسية تقدم نفسها كبديل وقيادة جديدة للعملية السياسية، وهو ما يفسر هذه الاعداد المهولة من المواثيق والمبادرات التي فاقت الثلاثين حسب ما توفر لدي من معلومات، والتي يشترك العديد منها في سمات خطيرة في تقديري، في مقدمتها ادعاء الجهة التي اصدرتها لنوع من انواع التفويض وبالتالي تقديم هذه المبادرات ك (الحل الاوحد) السحري الوطني الذي ينتظره الشعب بفارغ الصبر  ومن ثم دعوة الآخرين الي التوقيع عليه، وهو ما يضع الجهة التي تصدر هذه الوثيقة في مركز الفعل السياسي وبالتالي في قيادة عملية التغيير ويضمن لها ايضا – اي الجهة المصدرة للمستند، ايا كان – دورا مركزيا في السلطة الانتقالية القادمة ما بعد الاسقاط، ولتعزيز هذا التموضع حرصت كثير من هذه الجهات الي إقصاء اهم تحالف سياسي، وهو الحرية والتغيير من العملية بوضع شرط تعجيزي يشبه الاستتابة والذي يحمل في محتواه اعترافا مستترا بوصمة الخيانة ما يجعل من هذا الشرط كما يقول المثل البليغ مثل بيضة ام كتيكي” لو أخذتها ماتت أمك ولو تركتها لمات أبوك”.
اطلعت الأسبوع الماضي على ما يزيد عن العشرين وثيقة ومبادرة، من أقصى الحلول الجذرية التي من الواضح أن بعضها يطمح الي إعادة إنتاج ثورة ١٩١٧م، الي أقصى التماهي مع الحكم الانقلابي والعسكريين، وإذا إستثنينا الأكثر تطرفا في الجانبين واستثنينا كذلك الشروط الاقصائية للبعض الآخر منها فإن غالبها يتفق علي ما يزيد عن الثمانين في المئة من القضايا والمبادئ وماهية الأزمة وتحليلها ، وبما أنه ليس من بينها اي حل سحري بالفعل، أو من بين من أصدرها من يمتلك اي تفويضا من غالبية قوي الثورة فإن الخطوة الصحيحة القادمة هي، دون أدني شك، التعبير عن الترحيب بكل هذه المجهودات المخلصة والثرة وتكوين منصة مشتركة تضع كل هذه المقترحات الجيدة على الطاولة ليخرج منها إعلان سياسي متوافق عليه يصلح كمحدد للملامح الرئيسية للإعلان الدستوري القادم والأهم من ذلك توفر جسما تنسيقيا موحدا يدشن البداية الجادة للعمل المحكم بين جميع القوي المقاومة للمشاريع الشمولية ولانجاح عملية التحول المدني الديموقراطي، لكن قبل ذلك، اولاً وثانياً وثالثاً، لاسقاط الانقلابيين، فلو استمرت عقلية (الدجاجة الصغيرة الحمراء، التي تريد أن تزرع الحقل وتحصده وتأكله وحدها حسب قصة مدارس الكتّاب من القرن الماضي) هي السائدة، فلا انقلاب سيسقط ولا سلطة مدنية  ستأتي حتى يتسني للجميع الاصطراع حولها.

تاريخ الخبر: 2022-02-28 15:22:04
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 55%
الأهمية: 66%

آخر الأخبار حول العالم

مجلس الحكومة يصادق على مقترحات تعيين في مناصب عليا

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-02 18:25:15
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 54%

مركز دراسات مصري : المغرب رائد إقليمي في مجال صناعة السيارات

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-02 18:25:06
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية