فى الذكرى العطرة لرحيل البابا كيرلس السادس


فى يوم الثلاثاء 9 مارس 1971 وفى تمام الساعة الحادية عشر إلا الثلث صباحاً رحل عن عالمنا البطريرك القبطى العظيم البابا كيرلس السادس (1902 – 1971) البطريرك 116. وبعد ظهر يوم الخميس 11 مارس 1971 ودعه المصريون بصفة عامة والأقباط بصفة خاصة بالكاتدرائية المرقسية الكبرى بالعباسية.


ينتمى البابا كيرلس السادس إلى عائلة “زيكى” التى نزحت من “الزوك الغربية” فى صعيد مصر فى أواخر عهد المماليك، إلى بلدة طوخ النصارى بالمنوفية. كان والده “يوسف عطا” يعمل لدى أحد كبار المُلاك وكيلاً عاماً لجميع أعماله بالغربية والمنوفية والبحيرة، ثم أستقر فى مدينة دمنهور. وفى 2 أغسطس سنة 1902م أنجب أبنه الثانى “عازر” (الذى صار فيما بعد البابا كيرلس السادس). وجعل من بيته مقراً لأستضافة الآباء الرهبان الذين وجدوا كل الترحيب وكرم الضيافة من أهل البيت. أنتقلت أسرة الوالد يوسف عطا إلى الإسكندرية حيث عمل وكيلاً لدائرة “أحمد يحيى باشا” وكانت الدائرة مركزاً من مراكز الحركة الوطنية، ومقراً لرجال الوفد بالإسكندرية، وكان للشاب عازر دور فى هذا المجال الوطنى، فأظهر فيه حبه للوطن وتفانيه فى خدمته. بعد أن أتم دراسته الثانوية التحق بشركة “كوكس شيبنج للملاحة” (حالياً مبنى البنك الأهلى بشارع صلاح سالم بالإسكندرية). كان الشاب عازر يُعد نفسه للحياة الرهبانية، فكان يقضى وقت فراغه فى الكنيسة المرقسية الكبرى بالإسكندرية مواظباً على حضور الصلوات بها، ويمضى الليل فى حجرته الخاصة ساهراً يطالع الكتب المقدسة أو مصلياً، أعد حجرته بطريقة خاصة تشبه قلاية الراهب فى الدير حيث البساطة فى ترتيب الحجرة وإعدادها لحياة الصلاة الدائمة. وفى يوم من الأيام تلقى شقيقه الأكبر “حنا” مكالمة تليفونية لمقابلة مدير عام الشركة التى يعمل بها شقيقه “عازر”، وعندما توجه لمقر الشركة، أبلغه المدير أن عازر قدم أستقالة والتى جاءت فى عبارة موجزة: ( بما أن لدى أعمال هامة لا يسعنى أن أتخلى عنها، فلذلك أقدم أستقالتى من العمل، وارجو أن يتم قبولها حتى نهاية يونيو 1927). لكن لم يعلم المدير ولا شقيقه سر هذه الأستقالة على الرغم من مركزه الممتاز بالشركة ومحبة الجميع له. فى المساء التفت العائلة حول الشاب عازر وسألوه عن سر الأستقالة فقال: (أيهما أفضل حياة البر والقداسة والسعادة الحقة، أم حياة الشقاء والكد والتعب فيما لا ينفع. وماذا يفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يعطى فداء نفسه). تحقق له ما أراد وتوجه إلى دير البراموس بوادى النطرون فى صباح 27 يوليو سنة 1927. وبعد رحلة سفر طويلة وصل الدير نحو الساعة الثامنة مساءً ومعه الراهب بشارة البراموسى (فيما بعد الأنبا مرقس مطران طهطا وأبوتيج). أرشده أمين الدير إلى القلاية المخصصة له ليقيم فيها، فقام بإعدادها أفضل إعداد كما أنه أنتظم فى الصلوات اليومية بالدير مع بقية الرهبان. وفى الدير تتلمذ على يد أحد شيوخ الدير وهو القمص عبدالمسيح المسعودى من الآباء المتبحرين فى العلوم الكنسية وله العديد من المؤلفات التى تُعد مرجعاً هاماً حتى يومنا هذا. شجعه الأب المرشد على إصدار مجلة دينية باسم “ميناء الخلاص”، فكان يكتبها بخط يده وكان عدد النسخ لا يقل عن خمسين نسخة مكونة من أثنى عشر صفحة، وكانت تصدر شهرياً لعدة سنوات. بعد أن أطمأن شيوخ الدير على قوة عزيمته فى تحمل مطالب الحياة الرهبانية من صبر وجلد ونسك وصوم وصمت وطاعة وزهد فى المناصب، زكوه جميعاً ليكون راهباً بينهم، فتمت رهبنته فى يوم 25 فبراير سنة 1928 وتمت طقوس رهبنته ودعوا اسمه “مينا البراموسى”. ومنذ ذلك الوقت وضع لنفسه قانوناً التزم به طوال حياته: (أن يحب الكل وهو بعيد عن الكل).

فى عام 1932 طلب من آباء الدير السماح له بحياة الوحدة، وفعلاً توحد فى مغارة تبعد عن دير البراموس مسافة ساعة سيراً على الأقدام وهى عبارة عن نقر فى الصخر لعمق ثلاث أمتار. عندما توجه إلى المغارة أخذ تعهداً من رهبان الدير ألا يزوره أحد أو يهتم به أحد، كما تعهد بالحضور إلى الدير مساء كل سبت للأشتراك فى الصلوات حتى صباح الأحد ثم يعود إلى وحدته مرة أخرى. فى عام 1933 زاره فى مغارته د. حسن فؤاد مدير الآثار العربية فى ذلك الوقت ومعه مدير كلية اللاهوت بنيويورك، فحدثهما الراهب مينا عن الرهبنة القبطية ومؤسسى الرهبنة، وعند أنصرافهما أعطاه السيد مدير الآثار كارته الشخصى. ثم زاره بعد ذلك فى مغارته البابا يؤانس 19 البطريرك 113 ومكث معه بعض الوقت.

حدثت بعد ذلك أحداث أدت إلى أن يستأذن الراهب مينا المتوحد من البابا يؤانس أن يسمح له بالسكنى فى طاحونة هواء على مرتفع من جبل المقطم يطل على القاهرة. وبينما هو يتجول بين الطواحين سأله الغفير المنوط بحراستها عما يرغب فيه. ولما عرف قصده أبلغه بأنها من مخلفات المماليك وهى تابعة لمصلحة الآثار العربية، وممنوع قطعياً لأى شخص أن يسكن فى إحداها ما لم يحصل على أذن من مدير المصلحة نفسه. وفى اليوم التالى قصد الراهب مينا المتوحد إلى مصلحة الآثار وقدم كارت د. حسن فؤاد للساعى الواقف ببابه وقال له: (من فضلك قل للسيد المدير أن من أعطيته هذا الكارت يرجو مقابلتك). وكم كانت دهشة الساعى كبيرة إذ رأى مدير الآثار يخرج بنفسه ويعانق الناسك المتوحد بحرارة ويدخله إلى مكتبه. وما أن عرف مطلبه حتى كتب خطاباً إلى الغفير يطلب فيه أن يدع الراهب العابد يتخير الطاحونة التى يريدها ويقيم فيها. وقد أعد مدير الآثار عقداً معه لحمايته من أية مضايقات فى المستقبل. وكان الراهب مينا المتوحد قد أختار طاحونة لا سقف لها ولا باب! وبمعاونة بعض القاطنين بالمناطق المحيطة تم بناء سقف للطاحونة وفوقه دور ثان ليكون كنيسة صغيرة، كذلك وضعوا لها الباب والنوافذ اللازمة.

كان بجبل القلمون دير باسم الأنبا صموئيل يرجع تاريخه إلى العصور الأولى، ثم أنطوى هذا الدير فى طى النسيان إلى نحو منتصف القرن العشرين. وأراد أنبا أثناسيوس مطران بنى سويف أن يعيد تعميره، فقصد إلى الأنبا يوساب مطران جرجا وكان فى ذلك الوقت قائمقاماً بطريركاً وأطلعه على رغبته. وأقترح وضعه تحت رئاسة الراهب القس مينا المتوحد، فوافقه أنبا يوساب على طلبه وعلى ذلك قصد الناسك إلى الدير ووجده فقيراً لا أوقاف له وبه عدد ضئيل من الرهبان، فبدأ بتعميره وأقبل إليه عدد من الشباب الجامعى للرهبنة تحت رئاسة الراهب القمص مينا المتوحد، وفى عام 1948 توجه الصيدلى يوسف اسكندر والذى ترهبن باسم الراهب متى الصموئيلى (فيما بعد القمص متى المسكين)، وكانت جميع مراسلات الدير باسم “القمص مينا البراموسى المتوحد”. وبعد أن أطمأن على دير الأنبا صموئيل عاد إلى طاحونته بالجبل.

بنشوب الحرب العالمية الثانية طلب منه قائد الجيوش البريطانية أن يترك الطاحونة، فنزل من الجبل وبمعاونة بعض مريديه تمكن من شراء أرض مساحتها 500 متر مربع بمنطقة مصر القديمة أقام عليها كنيسة باسم القديس مينا العجايبى (مازالت قائمة إلى الآن أمام محطة مترو الزهراء)، وبجوارها سلسلة من الغرف بعضها لتعليم أولاد الحى من الفقراء الحرف البسيطة كالحدادة والسباكة والنجارة، ونصفها الثانى للطلبة المغتربين وبذلك يكون الراهب مينا المتوحد أول من فكر فى إنشاء بيوت للطلبة المغتربين. فى تلك الفترة تعرف على مجموعة من الشباب السكندرى المثقف المهتمين بنشر الثقافة القبطية وكان لديهم مشروع تأسيس جمعية ثقافية، فأوحى اليهم باسم القديس مينا، وفى نوفمبر 1945 تأسست جمعية مارمينا العجايبى للدراسات القبطية بالإسكندرية بإرشاد الراهب القمص مينا المتوحد، واستمرت العلاقة بين الراهب المتوحد (وبعد ذلك البابا كيرلس السادس) بمؤسسى الجمعية وأنجالهم حتى نياحته فى عام 1971.

وتمر الأيام ويشاء الله أن يختار الراهب المتوحد مينا البراموسى ليجلس على الكرسى المرقسى فى 10 مايو 1959 فكان يوم ذو رنين خاص، فقد أُذيعت صلوات السيامة من محطات الإذاعة مباشرة أثناء تأديتها (لم يكن التليفزيون قد أُدخل بعد فى مصر). إذ كانت سيامته حدثاً جليلاً تهلل له قلوب المصريين لأنها كانت رسامة قانونية بعد العديد من المخالفات التى حدثت منذ تنصيب البابا يؤانس 19 فى ديسمبر 1928. وحين علم الشعب كله بأن البابا الجديد اسمه “كيرلس” كتب عباس محمود العقاد مقالاً فى جريدة الأهرام، قال فيه: (إن اسم كيرلس ذو رنين خاص فى تاريخ الكنيسة القبطية: فكيرلس الأول عامود الدين، والثانى مشرع حكيم، والثالث مرشد يقظ، والرابع أبو الإصلاح، والخامس زعيم روحى قومى من الطراز الممتاز). فى فترة بطريركته أهتم بالعمل الروحى والعمل التعميرى ولم يتوقف عن الدور الوطنى.

ما أن جلس على الكرسى المرقسى حتى بدأ بالآتى: (1) زار إيبارشيات القطر المصرى حتى أثيوبيا مبشراً بعهد جديد يرجع فيه لكنيسته قوتها وعظمتها وجلالها. (2) أزاح ستار النسيان عن المدينة الرخامية القابعة بمنطقة مريوط باسم مدينة “بومنا” أو مدينة القديس مينا العجايبى، فبادر بزيارة المنطقة عدة مرات ثم فى يوم الجمعة 27 نوفمبر 1959 وضع حجر أساس الدير الحديث بالمنطقة باسم دير القديس مينا العجايبى، ثم الحقه ببيت خلوة ليخلو فيه قصاده فى سكون وهدوء فى تأمل روحى عميق. (3) أيقن أن كنائس أفريقيا ستتلفت نحو كنيسة الإسكندرية – بعد زوال الأستعمار من أراضيها – فبالتعاون المثمر مع الرئيس جمال عبدالناصر بدأ بإنشاء كاتدرائية كبرى بمنطقة الأنبا رويس بالعباسية تحمل اسم كاروز الديار المصرية القديس مرقس. وهذه الكاتدرائية تُعد نصباً تذكارياً خالداً لهمة ذلك البطريرك العظيم. (4) التفت إلى العلم والثقافة والعمل الأجتماعى فخطى بثلاث خطوات إيجابية: رفع من شأن الأكليريكية – العمود الفقرى للإصلاح الروحى – برسامة أسقف فاضل عليها أشتهر بالعلم والورع وهو الأنبا شنودة أسقف التعليم والمعاهد اللاهوتية (فيما بعد البابا شنودة الثالث)، الأهتمام برسالة المعهد العالى للدراسات القبطية فأقام عليه أسقفاً للدراسات القبطية والبحث العلمى هو الأنبا غريغوريوس، من أجل الفقراء والمحتاجون والأستقرار العائلى والخدمة الروحية للأسرة فخصص لهم أسقفاً للخدمات العامة والأجتماعية الذى كان له باع طويل فى هذا الميدان وهو الأنبا صموئيل. فيكون قد أتم بذلك مثلث النهضة الكنسية الحقيقية. (5) شكل لجان للغة القبطية وللتاريخ وللآثار وللفن وللعمارة من رجال الفكر والأدب والعلم، فأحاط هذه الأسقفيات الثلاثة بتلك الصفوة حتى يعمل الجميع فى صعيد واحد بروح الجماعة. (6) فى عام 1970 كلف أبناء الكنيسة بالمانيا بإحضار مطبعة من مدينة هيدلبرج أشرف على إحضارها المهندس فؤاد خليل بطرس، ثم بادر بتدشين دار خاصة لها فى حفل أقيم بمنطقة الأنبا رويس بالعباسية أستشعاراً منه أن المنطقة ستتحول فيما بعد إلى خلية نحل فى العمل الكنسى، وهذا ما نراه اليوم. (7) فى عام 1969 كلف أعضاء جمعية مارمينا العجايبى بالإسكندرية –التى تخدم التاريخ القومى والثقافة منذ عام 1945 – بإعداد مرجعاً شاملاً لقواعد اللغة القبطية، فكان كتاباً فريداً فى موضوعه وتحمل قداسته تكاليف طباعته وخصص إيراد الكتاب لتعمير دير مارمينا بمريوط. (8) توجه بنظره إلى القارة الأمريكية فأقام عدداً من الشباب المثقف بالعلوم اللاهوتية والكنسية وأقامهم كهنة عام 1964 على كنائس بمدن تورنتو الكندية ومونتريال الكندية ونيوجرسى الأمريكية، ثم فى عام 1968 توالى الأهتمام بأبناء الكنيسة بلوس أنجلوس الأمريكية. كما توجه بنظره نحو القارة الأسترالية فأنتقى واحداً من خيرة الشباب وأقامه كاهناً ليخدم أقباط الجالية الأسترالية وذلك فى عام 1969. (9) رأى أن دير القديس أنبا مقار – من أقدم أديرتنا القبطية – قد بدأ فى الأنهيار من حيث عدد الرهبان الذين تقلص عددهم إلى خمسة فقط!! وأيضاً الأنهيار المعمارى، فبادر بمبادرة طيبة فى 9 مايو 1969 وأسند للأب متى المسكين وجماعة رهبانه وتلاميذه المقيمون بمنطقة وادى الريان وطلب منهم إعادة تعمير وإحياء الدير. وهو ما قد تم حتى تبوأ الدير مكانته الأولى. (10) أهتم بإرسال مبعوثين إلى جميع المؤتمرات الكنسية التى تُدعى إليها ليعبروا عن حيوية الكنيسة بعد أن كان العالم لا يعرف أن بمصر كنيسة وطنية حية. (11) فور نشوب حرب 1967 كلف أسقف الخدمات العامة والأجتماعية الأنبا صموئيل (1962 – 1981) بالذهاب إلى جنيف والتباحث مع مجلس الكنائس العالمى للحصول على أدوات طبية وأغذية ومساعدات للجرحى والمشردين.

وبعد انتهاء رحلة البابا كيرلس السادس أُطلق عليه لقب “رجل الصلاة”. وهكذا كمُلت أيام الرحلة المقدسة التى أمتدت من 2 أغسطس 1902 حتى يوم الثلاثاء 9 مارس 1971 وقد بلغ من العمر 69 عاماً فقط. حدث أن ظلت جريدة الأهرام – على مدى أربعين يوماً كاملاً – تنشر تعازى الهيئات المختلفة وأفراد الشعب على مدى عدةصفحات، الأمر الذى لم يحدث من قبل ولا من بعد.

تاريخ الخبر: 2022-03-10 00:21:02
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 57%
الأهمية: 57%

آخر الأخبار حول العالم

عاجل.. تأجيل انتخاب اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال 

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 21:26:06
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 69%

رسميا.. انسحاب اتحاد العاصمة الجزائري من مواجهة نهضة بركان

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 21:26:04
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 57%

عاجل.. تأجيل انتخاب اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال 

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 21:26:10
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 63%

رسميا.. انسحاب اتحاد العاصمة الجزائري من مواجهة نهضة بركان

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 21:25:56
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 67%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية