د. لوتس عبدالكريم تكتب: عبدالوهاب.. عبقرى الألحان الذى اتهمناه بالكذب

لا يحتاج الموسيقار محمد عبدالوهاب أن يسرق لحنًا من أحد كى يتحقق؛ لأنه خالد وباقٍ بما قدم من أعمال لحنية وموسيقى بحتة ستظل موجودة فى حياتنا ما استمر الدهر وتعاقبت الأجيال، وليست مصادفة أن يُطلق عليه موسيقار الأجيال، لكننى أطالع بين الحين والآخر كتابات صادرة عن أناس غير متخصصين فى الموسيقى والغناء أو الفن والإبداع بشكل عام تتهمه بالسرقة.

محمد عبدالوهاب لا يحتاج تبريرًا منى لما فعله، كما أنه لا يحتاج دفاعى وأنا لا أرفع ظلمًا عنه أو أدفع جهلًا وقع عليه؛ وهو الذى صار اسمًا وعلامة ورمزًا فى حياتنا الشعرية قبل الموسيقية والثقافية بشكل عام؛ لأن موسيقاه خير مدافع عن مسيرته مع الخلق والابتكار، لكننى أكتب بحكم معرفتى العميقة به شخصًا وإبداعًا، فأذكر أننى لم أفوّت يومًا دون أن أخصص ساعة على الأقل لسماعه، كما أننى استمعت آلاف المرات لكل ما قدم من موسيقى، سواء كنت موجودة فى مصر أو خلال سنواتى الطويلة التى عشتها فى الخارج، وقد ألّفت عنه كتابًا.

وعندما يأخذ «عبدالوهاب» مقطعًا مدته ثوانٍ معدودات من سيمفونيات عالمية أو موسيقى غربية، فإنه يفعل ما فعله سواه من كبار أهل الموسيقى فى الغرب، بل إن هناك الكثيرين فى الغرب قد نقلوا موسيقى محمد عبدالوهاب، وهذا معروف ومثبت ومرصود فى مراجع الموسيقى.

والاقتباس- كما هو معروف للجميع- جزء مهم من ثقافتنا، وثقافات غيرنا منذ بدء الفن والكتابة، وهو أساس التلاقح والتداخل والتواصل والتقارب بين الشعوب، وقد استخدمه الشعراء والكُتَّاب والموسيقيون، وهو باقٍ ما بقى الفن، ولو عدنا إلى المعاجم والقواميس العربية سنجد أن: «اقتباس أفكار من كتاب كذا»، أى أخذها وتحويرها، أى نقلها نقلًا غير حرفى، و«اقتباس مسرحية» أى استيحاء أحداثها وأجوائها من قصة أخرى، و«اقتبس من الشعر أو النثر» أى أخذ فكرة أو عبارة وصاغها صياغة أخرى.

وقد لجأ محمد عبدالوهاب مبكرًا إلى التراث الغنائى القديم واستلهامه والاطلاع على موسيقى شعوب العالم بحكم علاقته مع الشاعر أحمد شوقى، الذى كان متصلًا بالشعر العربى القديم، وأظن أن «عبدالوهاب» قد سلك الدرب نفسه، إضافة إلى سماعه الدائم إلى الموسيقى العالمية، وكانت روحه تشتغل وتشتعل موسيقيًا وهو نائم، إذ اعتاد أن ينام فى أجواء الموسيقى، كما كان يقول لى، وكأن محمد عبدالوهاب كان يؤمن بمقولة لا برويير La Bruyere: «لقد قيل كل شىء.. لكننا نحن من جئنا متأخرين كثيرًا».

ومن قرأ أو درس تاريخ الموسيقى الغربية سيعرف جيدًا أن رموز الموسيقى الغربية قد اقتبسوا الكثير من موسيقاهم من الذين سبقوهم فى مجال الموسيقى، ومن أشهر من اقتبسوا «يوهان سباستيان باخ، وفولفجانج أماديوس موتسارت، ولودفيج فان بيتهوفن، وبيتر إليتش تشايكوفسكى، وفرانز ليست، ويوهانِسْ برامس، وسيرجى رخمانينوف، وإيمانويل شابرييه، ودميترى شوستاكوفيتش» والقائمة طويلة، لكننى أحببت أن أذكر رموز التأليف الموسيقى فى العالم من أعراق وجنسيات مختلفة من عصور متباينة ومن خلفيات ثقافية متعددة ومتنوعة.

وما اتهام «عبدالوهاب» بالنقل أو السرقة إلا تهجم على رائد ومؤسس ومجدد ومغير، ناهيك عن الحسد والغيرة وتشويه الصورة، خصوصًا من بعض الموسيقيين الذين ظهروا مع حركة يوليو سنة ١٩٥٢، الذين اعتبروا «عبدالوهاب» أحد رموز الماضى، ولم يتصوروا يومًا أنه سيقدم أعظم ألحانه لأم كلثوم: «إنت عمرى، أمل حياتى، فكرونى، هذه ليلتى، دارت الأيام، ليلة حب، أغدًا ألقاك»، من سنة ١٩٦٤ حتى سنة ١٩٧٣، أى قبل وفاتها بنحو عامين.

بهذه الألحان نقلت أم كلثوم إلى منطقة ومكانة أخرى ما كانت لتبلغها لولا موسيقى «عبدالوهاب»، بل كان سينقصها الكثير لو لم تتعامل مع «عبدالوهاب» منذ «لقاء السحاب» الذى تم بإيعاز من جمال عبدالناصر.

من أشهر ما لحن لعبدالحليم حافظ أغنيات وقصائد: «أهواك، فاتت جنبنا، نبتدى منين الحكاية، يا قلبى يا خالى، توبة، لست قلبى، قولّى حاجة، أنا لك على طول، شغلونى، ظلموه، فوق الشوك، كنت فين، يا خلى القلب»، وسواها الكثير.

وقدَّم الموسيقار «عبدالوهاب» الأغنية التعبيرية التى تمثلت فى أغنيتى «نبتدى منين الحكاية، فاتت جنبنا»، وهو أسلوب جديد لم يكن متحققًا قبله، وهو موجود أيضًا فى قصيدة كامل الشناوى «لا تكذبى»، التى غناها كل من نجاة وعبدالحليم وعبدالوهاب نفسه.

«عبدالوهاب» فى هذه الأغنيات والقصائد، وغيرها بالطبع، سعى إلى أن يحمل المعنى داخل اللحن ويعبّر بحيث يكون التعبير سابقًا على الموسيقى، ولعله هنا قدَّم طريقًا جديدًا للآخرين من بعده كى يمشوا فيه.

«عبدالوهاب» الذى تمنحه جمعية الملحنين والمؤلفين فى باريس لقب «فنان عالمى» سنة ١٩٨٣، وأعطته قاعة «ألبرت» الملكية فى لندن «عصا القيادة الفضية» سنة ١٩٨٨، كما كان أول مطرب عربى يحصل على «الأسطوانة البلاتينية» فى سنة ١٩٧٨ من اتحاد شركات الإنتاج الموسيقى العالمية «EMI»، كما حاز لقب «الموسيقار العربى الأول» سنة ١٩٧٥- لا يمكن أن يكون ناقلًا أو سارقًا.

وهناك قول معروف ومتداول للموسيقار محمد الموجى، الذى استضفته فى بيتى «صالون الشموع» للحديث فى ذكرى «عبدالوهاب»، حيث قال عنه فى حضور كمال الطويل وسيد مكاوى وعمر خيرت وفاروق حسنى ومرسى سعدالدين، شقيق بليغ حمدى، وأحمد عبدالمعطى حجازى وفاروق شوشة وغيرهم، إن محمد عبدالوهاب هو أستاذ المدرسة الحديثة التى تعلمنا فيها جميعًا من رياض السنباطى إلى بليغ حمدى وكمال الطويل، كما أن ألحانه أعتبرها مدرسة لنا جميعًا.

وسأفترض جدلًا أنك أو أننى حذفت الأغنيات الثلاثة عشرة، التى أشارت إليها منظمة اليونسكو فى سنة ١٩٧٩ فى اللائحة التى وضعتها عن الألحان، التى اقتبس فيها «عبدالوهاب» من مجموع ألحانه التى بلغت الآلاف، منها ما هو متاح، ومنها ما هو مفقود أو مجهول أو منسى- «فهل ستكون المحصلة صفرًا؟، بالطبع لا، سيبقى عبدالوهاب شامخًا بما قدم من موسيقى صارت إرثًًا فى الشرق والغرب».. لأنَّ عبدالوهاب عاش مبدعًا خلاقًا ما زال يؤثر فى الروح الإنسانية.

أنا واحدة من الملايين التى تعشق موسيقى محمد عبدالوهاب على مدى سنوات العمر، ومنذ طفولتى وأمى تعزف موسيقاه على البيانو بخبرة وحب وحماسة وجمال يذهب باللُب، وكانت تشرح لى ما غمض علىَّ فهمه فى النوتة.

وأنا لست متخصصة فى الموسيقى، ولكننى ابنة الفلسفة التى فتنتها الموسيقى ومستمعة جيدة لما يصل إلى أذنى من أنغام، كما أننى مطلعة على ما يُكتب حول الموسيقى والغناء فى مصر والعالم، وأرى أن من عاداتنا القبيحة فى الشرق مهاجمة العبقرية بشتى أنواعها وانتقاد كل نجم يبزغ.

والموسيقار محمد عبدالوهاب مثل غيره من البشر، لا بد ألا تخلو عبقريته من هفوات أو نزوات تقتضيها الظروف وتفرضها الأحوال والأمزجة، لكنه يظل بيننا وفى تاريخ الفن «موسيقار الأجيال».

وقد انتقده الكثيرون إما بدافع الغيرة أو الشهرة، ومسألة اتهامه بالاقتباس الموسيقى من سواه هذه تكررت من عديدين بدافع الحسد أو الكراهية أو النقد غير المنطقى، وأنا أعرف بعضًا من هؤلاء، لكننى لا أريد ذكر الأسماء هنا للحياد، فبعضهم موسيقيون، وبعضهم كُتّاب، والصنف الأخير من الجهلاء بالموسيقى وطبيعة عملية الفن بشكل عام.

إن عبدالوهاب عبقرى فى فنه، وللعبقرية ثمن كبير، وهو يدفع ثمن نجاحه وذكائه وتفوقه غير المحدود، وبالنسبة للاقتباس فأنا خبرت هذا النوع حين استمعت إلى موسيقى كبار مؤلفى الموسيقى مثل بيتهوفن وموتسارت وتشايكوفسكى، وإن بعض الأنغام تنتشر مثل النسائم فى ألحان الآخرين، وذلك لكثرة التكرار، وقد عرفت هذه الحالة بنفسى حين رأيتنى أكرر فى كتابتى جملة ما، لا أدرى من أين أتتنى، وتكرر ذلك معى، واكتشفت أننى قرأتها مرات فى كتب أحبها، وهكذا تلتصق بالأذن أو القلم لا شعوريًا، جملة ما نبنى عليها ونطورها وتصبح جزءًا أصيلًا من نسيج النص، وليس ناتئًا عنه أو زائدًا عليه.

فعبدالوهاب كان ينام فى غرفة منفردًا؛ لأنه يشغف بامتلاء جو الغرفة بالموسيقى طوال الليل، وهنا تأتى نقطة انتقاده بالاقتباس، وينشط فى الصباح فيكتبها فورًا دون أن يدرى من أين أتت.

ومن يتأمل رحلة محمد عبدالوهاب الموسيقية يدرك بسهولة ودون عناء لماذا أُطلق عليه موسيقار الأجيال، لأنه لم يشأ أن يتوقف عند مرحلة ما، بل طوّر وغير وحدَّث موسيقاه، وثار على قديمه، وتمرد على القوالب، وعاش طوال مسيرته وهو يبحث عن الجديد والمختلف، وسلك الطرق الوعرة، ولم يستسهل ويمشى فى الدروب الممهدة من قبل.

ومحمد عبدالوهاب من أكثر الموسيقيين الذين طوروا تجاربهم ولم يتوقف عند شكل أو أمام اتجاه بعينه، وكان التجديد فلسفته، والتحديث عقيدته؛ إيمانًا بالخلق وليس تماشيًا مع تيار سائد دون تكلف أو استجابة إلى عصر من العصور، لقد أبدع فى كل مراحله وقدم ما لم يقدمه غيره.

بعد أن تأمل محمد عبدالوهاب تجاربه السابقة كان يقول لى: «لماذا أطول وأكرر وأعيد وأزيد وأحمِّل اللحن أكثر مما يحتمل»، ولذا نراه- سواء له أو فى ألحانه لسواه- قد صار يختصر ويوجز فى جمله الموسيقية ويعبر دون شرح يعتمد على الحليات والزخارف والزركشات والبهرجة، صار يدخل إلى الموضوع مباشرة؛ ليبرز صوت من يغنى ويظهره جليًا، ومن هنا صارت لموسيقاه شخصية معبرة تدل عليه، وتشير إليه متخلصًا من الاستعادات والتكرارات والإطناب الذى لا يفيد اللحن.

لقد أسهم عبدالوهاب فى تطوير شكل الأغنية العربية، وانتقل تأثيره إلى الجميع بعد أن أنصت إليه كل مصرى وعربى وتمرد على الأداء التقليدى للغناء، فتخلص من الزركشة المبالَغ فيها.

سأذهب الآن إلى محمد عبدالوهاب لنرى كيف يتكلم عن سعيه الدائم إلى التطوير وكيف يفهم الحداثة فى الموسيقى، يقول: «إن الموسيقى مثل الفنون الأخرى تحيا بالتلاقح وتفنى بالركود، لأن التلاقح يعطى أشكالًا جديدة تتجدد معها الأذن والسماع»، و«يجب أن يكون تطور موسيقانا من عندنا، من نبضنا، ولا ينبغى أن يكون مستوردًا».

ورأى أن «التراث هو الأصل والمعاصرة هى الواقع»، وأن «العلم لا وطن له أما الفن فله وطن، وكل وطن له فن».

ويقول: «أحس بأن الفن والخاطر شىء مجهول، يتعقبنى إلى أن يصل إلىَّ فينطبق علىَّ ولا يتركنى حتى يعصرنى».

ويقول عن اقتباسات الموسيقى: «شىء من غيرك يلهمك شيئًا جديدًا، وشىء منك يلهم غيرك شيئًا جديدًا، إنه التفاعل وهذا اسمه الفن».

يفسر عبدالوهاب أكثر قائلًا: «إنك تاخدى جملة موسيقية وتحطيها ده يبقى اسمه نقل، ووفقًا للمعيار الذى وضعته جمعية الموسيقيين لتقدير حالات السرقة، اشترطت نقل أربع موازير كاملة- المازورة هى الجملة الموسيقية- ده خطأ؛ لأن العبرة بصدارة الحتة- يقصد الجملة الموسيقية- وبشخصيتها، فمن الممكن أن تتكون الحتة من مازورة أو اتنين لكن شخصيتها تحسسك إنها متاخدة كاملة، أنا عملت كده فى بداياتى، وتحديدًا فى (يا ورد مين يشتريك)، اللى خدتها من بيتهوفن، و(أحب عيشة الحرية) اللى خدتها من فلكلور روسى، كان لازم أقول أنا اقتبستهم من مين، ودى كانت حركة بايخة منى».

ومن كان سمّيعًا مثلى لعبدالوهاب يعرف أنه كان يتأثر بما يسمع، وإذا اقتبس فكان اقتباسه مقبولًا خصوصًا فى بداياته كما قال هو، ولعل معرفة عبدالوهاب بترتيل وتجويد القرآن منذ طفولته جعلته يذهب فى منطقة موسيقية أخرى لا يعرفها العالم، لأن فى القرآن موسيقى وإيقاعًا غير موجودين فى سواه، كما أن مدرسة التلاوة المصرية التى تربى عليها عبدالوهاب جعلته ابنًا لها، وقد تأثرت ألحان كثيرة له بها.

وكان عبدالوهاب قد أعلن أكثر من مرة أن الغرب أيضًا يقتبس من ألحانه، وأعطى دليلًا على ذلك مثلًا أغنية «القمح الليلة»، حيث صار لحنها يعتبر النشيد القومى فى أمريكا، وأن أى حفل لموسيقى عربية فى أمريكا يطلب الحضور الأمريكان سماع أغنية «القمح الليلة»، وأيضًا من لحن «مجنون ليلى» اقتبس الموسيقار الروسى أميروف جزءًا كبيرًا، إضافة إلى سيمفونية من تأليفه، وقد عزفتها الفرقة الموسيقية الروسية فى القاهرة.

وإن المقطوعة الموسيقية «هدية العيد» أو «فرحة العيد» لمحمد عبدالوهاب، التى ألفها لفرقة الموسيقى العسكرية المصرية؛ للمشاركة فى مهرجان الموسيقى العسكرية الدولى، الذى كان يقام سنويًا فى إحدى الدول الأوروبية، وقد فازت هذه القطعة الفنية بالجائزة الأولى طوال ثلاث سنوات متتالية أعوام «١٩٦٤، ١٩٦٥، ١٩٦٦»- تعتبر هذه الموسيقى هى الرسمية لجميع دول العالم للموسيقى العسكرية والمراسم الخاصة.

إن خصائص التجديد والتطوير وعلاماته فى موسيقى عبدالوهاب تفوق الحصر، وقد درسها باحثون ودارسون وأكاديميون، وهى دليل دامغ على أصالته. يمكن أن ألخص عبدالوهاب فى غِناه وتنوعه وسبق عصره وإرساء قيم وتقاليد موسيقية ستبقى طويلًا ولن يطويها الزمن بل سيفردها على بساط الدنيا، حيث اعتاد ارتياد الآفاق الصعبة والمستعصية ليطوع موسيقاه، ويقدمها كأنها الماء القراح الصافى دون زوائد، وبحرية كاملة غير مشروطة.

تاريخ الخبر: 2022-03-11 21:21:11
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 48%
الأهمية: 70%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية