كيف اخترع المصريون فرحة رمضان؟

لم يستسلم المسحراتى للدق على الطبلة أبدًا؛ كان طوال الوقت يفتّش عن كلمات وألحان جديدة وهو يجول فى الشوارع خلال ليالى رمضان، كلمات تعجب السلطان وأخرى تغضبه، ألحان تروّج لاختراعاته وولائمه واكتشافاته، وأخرى تحرّض الناس على الثورة ضده.. لم تكن أغنيات رمضان دينية أو صوفية فقط، إنما كان لها وجه سياسى واجتماعى، ويمكن أن تقول إن التاريخ المصرى هو تاريخ أغنيات رمضان منذ ظهور «وحوى يا وحوى» فى عهد الفراعنة، مرورًا بعهود الولاة المسلمين.. تطور الطعام حتى ظهور الياميش وكعك العيد الملازم لنهاية شهر الصوم وثورة يوليو وحرب العاشر من رمضان، وحتى الآن.. ظهر التاريخ والجغرافيا والسياسة والمجتمع بكل حالاتها فى أغنيات رمضان. 

 

هكذا بدأت «ليالى رمضان».. من قصر المعز وسيفه وذهبه

كان ذلك عام ٩٧٢م، حين حوَّل المعز لدين الله الفاطمى جولته فى مصر من بين القصرين حتى باب النصر إلى طقس سنوى ليلة أول أيام رمضان. يخرج بموكبه وفى طريق العودة إلى قصره يوزّع حلوى وصدقات على الفقراء الذين يستميتون فى الغناء لخليفتهم لعله ينفحهم مزيدًا من ذهبه أو يرحمهم من سيفه، وتحفّه موسيقى وأبواق لا تُعزف إلا فى حضرة المعز.

ومن هذه الليالى الجميلة، صدحت أصوات المصريين بأغنيات رمضان لأول مرة. 

يقول الرحالة دى بريدنباخ إنه حين زار القاهرة- قبل منتصف القرن الـ١٩- كان رمضان على الأبواب، حسب المقولة المصرية، فلم يزُرْه النوم طوال الليل بسبب الغناء والطبول، وخاف أن تكون كل ليالى القاهرة غارقة فى الصخب، وحين سأل عن السر، أبلغوه بأن «هذه طبيعة ليالى رمضان»، طبقًا لكتاب «المجتمع المصرى فى عصر المماليك» لعبدالفتاح سعيد عاشور.

وظل الولاة، طوال عصر الدولة الطولونية، كما يروى الدكتور على إبراهيم حسن، ضمن كتاب «مصر فى العصور الوسطى»، يخرجون إلى الجامع الكبير الذى أنشأه أحمد بن طولون، احتفالًا بقدوم رمضان، وحولهم «اثنا عشر من المكبرين ويجعلون الليل نُوَبًا بينهم، فيكبّر كلّ أربعة من ذوى الأصوات الشجيّة معًا.. ويسبحون ويحمدون الله، ويقرأون القرآن بألحان مطربة وأنغام شجية استقبالًا للشهر الكريم».

طقوس الشهر الكريم.. معركة صلاح الدين الخاسرة

طقوس رمضان، الاحتفالات والياميش وقمر الدين وكعك العيد، ضاربة فى عمق التاريخ المصرى، من عصور الدولة الأموية، وبلغت ذروتها فى عهد الفاطميين الذين كانوا يبالغون فى إغراء المصريين بالاحتفالات والموالد والأغنيات والمظاهر الآسرة، واكتسبت قوتها من محبة الناس لها، واعتبارها جزءًا من الطقس الدينى، والإسلام المصرى، الذى يحرس المصريين دائمًا من التطرف، ويأخذهم من حافة الجنون إلى قلب الصوفية، فهذا سر من أسرار الحكم فى مصر، أمسك به صلاح الدين الأيوبى، ورأى أنه كى يقضى على الفاطميين لن ينفعه القتل أو التشريد أو الفوز بالحرب، فحاول القضاء على طقوس رمضان. 

خصَّص الفاطميون ٢٠ ألف دينار لصناعة كعك العيد، وبلغت مائدة الخليفة العامرة ١٣٥٠ مترًا تحوى كل أصناف الكعك والغُريّبة. قرر صلاح الدين القضاء على عادات طعام رمضان والعيد، وأشهرها صناعة الكعك، فألغى الموائد المجمعة، لكنه فشل، وظل المصريون يأكلون ويحتفلون بالأغنيات والطرق التى عشقوها.

وجوه «وحوى يا وحوى».. «معاكسة» الأميرات بالنفحات الربَّانية

لم يكتف أهل مصر برمضان، الذى ورثوه عن المسلمين الأوائل، فجعلوه رمضانًا مصريًا بطقوس ملوّنة بميراثهم من عصور الفراعنة والرومانيين والبيزنطيين والأقباط، فاختلط الإسلام بالصوفية والفرعونية فى أغنية «وحوى يا وحوى»، التى غنَّاها المطرب أحمد عبدالقادر عام ١٩٣٤، من كلمات حسين المانسترلى. 

ويروى كتاب «لولى ومرجان» للكاتب محمد العسيرى تاريخ أغنيات رمضان، ويقول إن المانسترلى استلهم «وحوى يا وحوى إيّاحة» من الفلكلور المصرى.. «وحوى» كلمة فرعونية تعنى أهلًا ومرحبًا، و«إيّاحة» تعنى القمر، الذى حملت اسمه «إياح حتب»، أم القائد العسكرى أحمس، أول امرأة مصرية جمعت شتات الجيش، وضحَّت بزوجها، وابنها، فى معارك الفراعنة ضد الهكسوس قبل آلاف السنين، فخرج المصريون القدماء لاستقبالها بعد النصر، مهللين «وحوى يا وحوى.. إياح»، وتعنى «مرحبًا يا إياح».. وأصبحت نشيدًا مصريًا يستقبلون به كل جيش منتصر، أو زائر خير. 

ولأن كلمة إياحة تعنى قمر، التصقت الأغنية بشهر رمضان، الذى يبدأ برؤية القمر فى أجمل أشكاله حين يتحول إلى هلال. 

تحولت «وحوى يا وحوى» إلى تيمة تجمع أغلب أغنيات رمضان، فاستوحى الملحن أحمد شريف من مقام «البياتى» الشعبى، لحنًا لأشهر أغنيات رمضان «يا قمر طالع/ بفانوس والع/ أنت حبيبى إملالى جيبى سكر أحمر/ وصميت أسمر/ ويا غندورة/ فى المقصورة/ زى الوردة فى البنورة/ جيبك عمران/ بياميش رمضان/ إدينى حنان». 

بدت الأغنية غزلًا فى أميرات مصر فى عصر الخديوية؛ هن اللائى يشاهدن سباقات الخيل من المقصورات الملكية.

صارت «وحوى يا وحوى» ملجأ لكل شاعر يريد أن يصبح شعبيًا، ولا ملاذ له إلا رمضان، الذى ينفح الأغنيات من نفحاته فتنتشر، وترفع صاحبها إلى سابع سماء، وإن كان متيَّمًا بالصوفية يصيغ كلمات رمضانية، ويستبدل الكلمات القديمة بكلمات جديدة.

بينما يتجه الجميع إلى الروح المصريّة بعد ثورة يوليو، استُبدلت «هاتى فانوسك/ يا أختى يا إحسان» باسم فلاحة مصرية، فأصبح على يديه «يلا يا نعمات إنتى وبركات/ هاتوا الفوانيس/ ونقول وحوى».

وظلَّ محمد عبدالمطلب يعتقد أن أغنية «رمضان جانا» أهم من بيان مفتى الجمهورية عن رؤية هلال رمضان، ويعتبرها «البيان الشعبى» للترحيب برمضان، فهى أشهر أغنياته وأكثرها جماهيرية، لأنها ارتبطت بعدما غنَّاها باستقبال رمضان. وكانت الأغنية رزقه الذى اختصه به رمضان بعدما خسر كل أمواله بسبب الحرب العالمية الثانية.

كان مسئولو الإذاعة يبحثون عن أصوات جديدة لغناء أغنيات رمضان، وكان مطرب واحد يحتكرها، فوقع الاختيار على عبدالمطلب حين ذهب إلى الإذاعة يبحث عن عمل، فانتشرت «رمضان جانا» وصارت الأشهر، حتى قال عبدالمطلب فى حوار مع وجدى الحكيم: «لو أخذت جنيه عن كل مرة اتذاعت فيها كنت بقيت مليونير». 

كنافة وقطايف وفول مدمس.. الإفطار أهم من الصيام أحيانًا

ليس جديدًا تأصيل رمضان باعتباره شهر طعام، وليس صيامًا فقط، ففى أيام الملكية، لم تنقطع عادة الملك فاروق فى دعوة طلبة الأزهر إلى وليمة سنوية كبرى فى قصر عابدين، كان يريد أن يجذبهم إلى صفِّه ويسترضيهم باعتباره خليفة المسلمين وليس ملكًا عاديًا، وباعتبارهم شيوخ السلطان القادمين.

أصبحت الوليمة من علامات شهر الصوم، تحفها التواشيح وقراءة القرآن وأغنيات رمضان.. وأطباق عامرة؛ بط ولحوم وحمام وأطباق فول مدمّس، ولم يكن مفهومًا وَلَه الملك بالفول المدمس، لكن هذا العشق السرى تحوّل إلى أغنية ارتبطت بالإفطار ثم السحور، حين قامت الثورة، وزال حكم فاروق، ونال الفول مكانة ملك أطباق «وجبة المسمار» التى تسند المعدة حتى اليوم التالى، فغنى صلاح عبدالحميد أشهر أغنيات الفول:

«زى اللوز ولذيذ يا مدمس/ شغل إيديا وزيه مافيش/ خدلك منه بقرش وغمس/ فول متنقى عليه تحابيش». 

أغنيات الفول فتحت الباب للتغنى بمأكولات وحلويات رمضان، فجاء دور الكنافة والقطايف، وتصدّى له محمود إسماعيل جاد بأغنية «كنافة وقطايف»، ولم يفُت إسماعيل يس أن يغنى شيئًا عن الياميش، فأبدع الشاعر مصطفى عبده والملحن عزت الجاهلى مونولوج «الحاج أمين قال للصايمين أنا عندى التين والقمر الدين».

المسحراتى.. من «قوموا كلوا» لـ«عبدالحليم حافظ» 

قبل ميلاد فؤاد حداد، كان المسحراتى موجودًا بشخصه وطبلته وأغنياته وفنه. 

يحكى المؤرخ وليم لين فى كتاب «المصريون المحدثون» حكاية المسحراتى فى القاهرة، فكان رجل يقطع الطريق من مدينة الفسطاط حتى جامع عمرو بن العاص بالطبلة يوميًا ولا يتقاضى أجرًا أو بقشيشًا، ينشد مدائح ويطرق على الطبلة، ولكل منطقة «مسحّراتى» خاص ينشد مديحًا نبويًا أو كلمات شائعة بينهم جميعًا، فلم يكن أحدهم يخترع شعرًا أو لحنًا جديدًا. 

ومرَّت مهنة المسحراتى بعشرات المراحل، من جندى يكلفه الجيش بإيقاظ الناس للسحور أو مندوب عن الخليفة، أو شيخ شاب، حتى أصبحت وظيفة يؤديها رجل معروف وأجره لم يعد عند الله، فكان لزامًا أن يؤلف نصوصًا وألحانًا لإيقاظ الصائمين ليلًا، حتى وصفتهم موسوعة «وصف مصر» بـ«جماعة من الرواة والمنشدين يعلنون كل يوم طيلة شهر رمضان عن اللحظة التى يوشك فيها نور الفجر على الظهور، وهم مثل البونوبيل الذين اشتهروا فى غرب فرنسا وكانوا يقرعون الأجراس خلال تجولهم ليلًا فى الشوارع عشية الأعياد وأثناء الصيام.. لكنهم فى مصر يدقّون الطبول أربع دقات قبل الغناء».

أصبحت للمسحراتية نقابة، ثم تحولوا إلى طائفة تضم أعضاء جددًا بشروط، أهمها ما ذكره أيمن عثمان فى كتاب «تراث مصرى»: أن يجيد المسحراتى صنعة الزَجَل، ويملك صوتًا طروبًا. 

وشهد مطلع القرن العشرين أول أنشودة للمسحراتى تشبه الأغانى، من تأليف مسحراتى مصرى مجهول، ولم يكن المسحراتى مبدعًا، لكن الزمن نفحه تراكمًا جعله فنانًا متفردًا. قبل أن ينتهى عهد مسحراتى الشارع فى مصر، لم يكتف بنداء اليقظة، إنما امتدّت أغنيات السحور إلى التغنى بحكايات الأبطال الشعبيين، أدهم الشرقاوى وسعد زغلول وغيرهما، أو ينادى النبى محمد باعتباره «المخلّص المنتظر»، وهى فكرة قبطية قديمة تستهوى المصريين. 

سلم مسحراتى الشارع الراية لمسحراتى الإذاعة، وجاء عدد من المسحراتية عبر «الميكروفون»، أشهرهم محمد فوزى باسم «مسحراتى الشعب» ثم «مسحراتى النجوم» وكان يوقظ النجوم بكلمات بأسمائهم كما نادى عبدالحليم حافظ: «يا عندليب يا أسمر ياللى ملكش نظير.. قوم صلّى واتسحر.. يزيد عليك الخير.. الليل طلع له نهار.. لما تقول يا حليم.. نار يا حبيبى نار».

الدور الرمضانى لثورة يوليو هنا «المسحراتية الأولى»

الذى حدث أن ثورة قامت، خلعت الملوك وأسقطت الباشوات، وكان على الأغنيات أن تترجم ما جرى ليصل إلى الجميع. ومن مصر، انطلقت أول سيدة تعمل مسحراتية، لتثبت أن ثورة يوليو غيَّرت كل شىء، سياسيًا واجتماعيًا، وكانت ثريا حلمى، ونشرت مجلة الكواكب قصتها وصورتها بتاريخ ١٠ أبريل ١٩٥٦. 

وبعد الوحدة العربية التى جمعت مصر بسوريا، كان يجب أن يشعر أطفال سوريا بأنهم وأطفال مصر واحد، كلهم يلعبون بالفانوس نفسه ويعيشون متاعب الصيام معًا، وأنتجت أغنيات الوحدة الرمضانية للبث على إذاعة الأغانى. وكان أشهرها من ألحان محمود الشريف: «هنوا بعض فى سوريا ومصر/ بشهر الصوم/ شهر التقوى». وبنهاية الوحدة مع سوريا، اختفت أغنيات كثيرة، رمضانية وغير رمضانية.

تاريخ الخبر: 2022-03-26 21:21:21
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 56%
الأهمية: 60%

آخر الأخبار حول العالم

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:39
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:45
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية