نقاشات حول رؤى التنمية: أطروحات وتواريخ «2- 4».. محمود محمد طه وجوليوس ك. نيريري: لقاءات شتى


نقاشات حول رؤى التنمية: أطروحات وتواريخ «2- 4»..

قصي همرور

قصي همرور

محمود محمد طه وجوليوس ك. نيريري: لقاءات شتى

في 2015م، نشرت مقالاً بعنوان “الأستاذ محمود والمعلم نيريري: صديقان لم يلتقيا” ذكرت فيه “في بالي كتابة، يوماً ما، عن مساحات التوافق بين هاتين الشخصيتين العجيبتين، بحيث أنهما لو كانا التقيا لكانت الصداقة اتجاهاً بديهياً بالنسبة لهما.”

في تلك المقالة، أشرت إلى منطقة لقاء عجيبة، تتعلّق بالعبارة الشهيرة عند طه: “ساووا السودانيين في الفقر إلى أن يتساووا في الغنى”، وهي عبارة تختصر سياسة اقتصادية عامة في توطين العدالة الاقتصادية أثناء عملية النماء الاقتصادي وليس بعد تحقيق النماء الاقتصادي (والسياسة الثانية هذه تبنّاها عدد من الاشتراكيين وليس الرأسماليين فحسب)، وكيف أن نيريري كانت لديه نفس النظرة، وعبّر عنها بصورة قريبة وحاولت إدارته تطبيقها في تنزانيا في المستويات الممكنة. لاحقاً، قمت بتفصيل بعض نقاط التقارب بين فهمي طه ونيريري بخصوص التنمية الاقتصادية وتنزيل الاشتراكية، في كتاب “حوكمة التنمية” (2020)، وخاصة الفصلين الخامس والسادس من الكتاب. من النقاط التي ذكرتها أن الاثنان كانا رائدين للاقتصاد التعاوني في سياق تاريخي (زمان ومكان) كان فيه قليلون جداً الّذين يتحدثون عن الاقتصاد التعاوني باعتباره خياراً تنموياً واسعاً.

وفي كتاب “التحرّر والتكنولوجيا” (liberation and technology) الصادر باللغة الانكليزية في 2018، تناولت أيضاً التقارب بين طه ونيريري وغاندي بخصوص مفهوم “التقانة الملائمة” (appropriate technology) وذكرت أن الأسس الفكرية لهذا المفهوم- وهو مقاربة تنموية تُعنى بتوطين التكنولوجيا في مستوى التنمية المحلية المجتمعية وتطوير القدرات التكنولوجية المحلية عبر التعليم المرتبط بالبيئة وترويج الحلول المرتبطة بالموارد والقدرات المحلية- موجودة عند هؤلاء، في كتاباتهم وممارساتهم التي امتدت منذ خمسينات وستينات القرن العشرين، ليأتي لاحقاً فريتز شوماخر ويؤطر المفهوم في كتابه الشهير (Small is Beautiful) في أوائل السبعينات- وقد سمّاه حينها “التكنولوجيا الوسيطة”- فكأن هذا المفهوم مثال إضافي لكيفية أن حواء العالم الثالث كانت وما زالت والدة وأن التأطير والشهرة التي تظهر للمؤلفات الصادرة من الغرب لا تعني بالضرورة أن الأفكار والمفاهيم دائماً جديدة ولم يأتِ بها آخرون مسبقاً (ذلك مع التقدير المستحق لمساهمات شوماخر، والذي كان كذلك مقتنعاً بقدرات الاقتصاد التعاوني على استعادة النظم الاشتراكية بصورة أفضل وديمقراطية، أي كذلك مثل نيريري ومثل طه).  وفي كتاب “سعاة أفريقيا” (2020)، تحدثت عن الأستاذ محمود محمد طه باعتباره أحد الأفروعموميين العصاميين، أي تشابهت منطلقاته ومواقفه الاجتماعية- سياسية المتعلقة بأفريقيا مع منطلقات ومواقف الحركة الأفروعمومية إجمالاً مع غياب الاتصال المباشر بينه وبين شبكة الحركة الأفروعمومية العالمية وقتها. وهذه الأفروعمومية منطقة تلاقٍ أخرى بين طه ونيريري.

إذن فحديثنا عن التلاقيات الجادة بين طه ونيريري ليس جديداً، وقد علّلناه ووثّقناه ونشرناه، في كتابات متنوعة موضوعاً ولغةً ومتحدةً في مضامينها العامة. وما زالت هنالك كتابات قادمة- بإذن الله- تتناول تلك التلاقيات ضمن مواضيعها.

وبصورة مختصرة، يمكن أن أضع قائمة بسيطة للتلاقيات المتعدِّدة بينهما، والتي قد تكون عادية إن كانت واحدة أو اثنتان أو ثلاثة، لكن أن تكون بهذا الحجم، بين شخصين لم يلتقيا حسّاً لكن تقاطعت همومهما وسياقهما التاريخي تقاطعاً كبيراً، فهذا أعتقد أنه مما يدعو للتأمل بعض الشيء. مثلاً:

  • كلاهما، طه ونيريري، تحدث وكتب عن التنمية كمحور مهم وأساسي في زمن متقارب (بيد أن طه أقدم عموماً بحوالي عقد من الزمان)، وبلغة متقاربة (فقط أحدهما باللغة العربية أكثر وكذلك بالانكليزية، والثاني باللغة الانكليزية والسواحيلية)، ومن سياقات محلية متقاربة (فقد كانا جيراناً، على مستوى المناطق الجغرافية، وكلاهما كان جزءاً من حركة التحرُّر الوطني في مجتمعه، وكلاهما كان ضمن إحدى مستعمرات بريطانيا، وكلا بلديهما كانت في مستوىًّ تنموي متقارب، وكلاهما كان متابعاً مهتمّاً بالحركة التحرّرية العالمية إجمالاً والأفريقية خاصةً)؛
  • كلاهما كان اشتراكياً واضحاً، لكن بنموذج فكري مختلف عن المدارس الاشتراكية السائدة حينها، وكلاهما دعم تيار الاقتصاد التعاوني في وقتٍ لم يكن ذا شعبية كبيرة؛
  • كلاهما كان متديّناً، عميق التديّن، ثم جعل من تديّنه منصة لتغيير المجتمع الحديث ومعالجة مشاكله بأدوات الحداثة وبمحركات الأصالة المحلية (بيد أن طه أسّس مدرسة فكريّة مرجعيّتها ومنطلقاتها الأساسية دينية، أما نيريري فانخرط في العمل العام، ممارسةً وتنظيراً، جاعلاً من تديّنه موجّهاً أخلاقياً عاماً له، إذ أنه في بداية حياته المهنية أراد أن يكون قسّاً كاثوليكياً، وقد كان جاداً في ذلك الاتجاه خاصةً أيام دراسته للماجستير في جامعة أدنبرة- وقد كان كاثوليكياً ملتزماً منذ أيام الجامعة الأولى، في جامعة ماكيريري- كما أنه كذلك كان نشطاً سياسيّاً، فاستطاع بعض من حوله من الثقاة إقناعه بأنه يمكنه أن يخدم مجتمعه أكثر عن طريق العمل العام الاجتماعي- سياسي بدل العمل عبر الكنيسة)؛
  • كلاهما كان قريباً من الآخر في فهم أهمية المزج بين الاشتراكية والديمقراطية، وكلاهما تعامل مع الماركسية تعاملاً نقدياً كمدرسة اشتراكية يستفاد منها ولا تؤخذ كلها بالضرورة لأن بها مناطق عيوب ودواعي مراجعات، وكلاهما اهتم بالمدرسة الفابية الاشتراكية (ولم يكن الكثير من الأفارقة في حركات التحرر الوطني مهتمين بها)، كما كان كلاهما ناقداً للاقتصاد السياسي للنظام العالمي المسيطر (وللرأسمالية تحديداً)؛
  • أكثر من ذلك، في تعاملهما مع قضية التنمية، ربط كلاهما بين التنمية والحرية، كما استعمل كلاهما التمييز بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، مع الربط بينهما. وفي كل هذه التشابهات كانا أقرب لبعضهما بعضاً (وأقدم من الكتابات الشهيرة اللاحقة في دراسات التنمية)؛
  • تشابه آخر نراه نحن جليّاً وهو أن منطلقاتهما ومواقفهما في ما يخص أفريقيا- حاضرها ومستقبلها- كانت منطلقات ومواقف أفروعمومية؛
  • كلاهما، بأدواته وحسب سياقه، حرصا على تقوية حضور المرأة في المجال العام، ووكالتها عن نفسها بنفسها، والاعتراف بمساهمتها الاقتصادية التي تستوجب لها حقوقاً عادلة.
  • وآخر مثال: من الطرائف كذلك أن كليهما يحمل لقب “الأستاذ” في وسطه وتاريخه المحلي، فمحمود محمد طه معروف بالأستاذ، كما لقّبه بذلك تلاميذه وكما صار معروفاً في التاريخ السوداني، بينما نيريري مشهور بلقب “المعلم” Mwalimu في تنزانيا والدوائر الأفروعمومية وهو اللقب الذي اكتسبه حين كان معلّماً في المدارس الثانوية إبان بدايات حقبة التحرر الوطني والتصق اللقب به بقية حياته السياسية.

ذلك بجانب أشياء أخرى، يمكن لمن تعرّف على تراثهما عن قرب أن تظهر له في عدة زوايا. وهذا كله لا ينفي الاختلاقات العديدة بينهما أيضاً، فهما لم يكونا شخصيتين متطابقتين، ولا كان شغلهما ودورهما في المجال العام متشابهين إجمالاً، لكننا نتحدث عن التلاقيات حالياً وهي لا تنفي الاختلافات.

ويكفي أن نقول إنه في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، حين كانت مفاهيم التنمية، وإدارة التنمية، والتنمية الاجتماعية، لا تعتبر في الدراسة والممارسة أكثر من عملية فوقية، إدارية واستعمارية، موجّهةً ناحية الشعوب فاقدة القرار، كان طه ونيريري وقتها يضعان لبنات الفكر  والممارسة للتنمية كعملية قاعدية، مملوكة للشعوب، وهو التيّار الذي نما لاحقاً وتطوّر وصار صاحب الحجة الأقوى في دراسات التنمية…. وللحديث شجون..

نقاشات حول رؤى التنمية: أطروحات وتواريخ «1- 4».. نيريري والحرية والتنمية وأوجاما

تاريخ الخبر: 2022-04-01 21:22:08
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 46%
الأهمية: 51%

آخر الأخبار حول العالم

الشعباني: "سنواجه فريقا متمرسا في نهائي الكونفدرالية"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:27:21
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 60%

الشعباني: "سنواجه فريقا متمرسا في نهائي الكونفدرالية"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:27:20
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 57%

رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:26:13
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 63%

سانشيز يتراجع عن قرار الاستقالة ويقرر البقاء في منصبه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:26:37
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 50%

سانشيز يتراجع عن قرار الاستقالة ويقرر البقاء في منصبه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:26:31
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 53%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية