نقاشات حول رؤى التنمية: أطروحات وتواريخ «3- 4».. مراجعة نقدية لكتاب "التنمية كحرية" لأمارتيا سن: لماذا


نقاشات حول رؤى التنمية: أطروحات وتواريخ «3- 4»

قصي همرور

قصي همرور

مراجعة نقدية لكتاب “التنمية كحرية” لأمارتيا سن: لماذا

بدايةً، أُحب أن أذكّر بمسألةٍ مهمة: في ساحة الفكر، وتناول القضايا العامة، علينا أن نتوقع الاختلاف، وبعض التضاد في المساعي أو الأدوات (أو المساعي والأدوات معاً)، ولا أقول ذلك بخصوص الخصُوم الفكريين المعتادين، فذلك بديهي، إنما أقوله بخصوص الحُلفاء الفكريين. علينا أن نتذكّر أن الحلفاء الفكريين، عموماً، والأصدقاء الذين التقوا حول أفكار وقضايا وتنامت صداقتهم في كنفها، أيضاً لديهم فرصة أن يختلفوا، وربما يتضادوا، في بعض القضايا والمواقف. وإذا كانوا محظوظين، وحريصين على بقاء وازدهار الجوهر الذي بينهم، فإن مثل ذلك الاختلاف لا يُضير كثيراً، إذا لم نقل أنه يثري ساحة الأفكار والآراء وزوايا النظر.

وفي بعض الأحيان فإن الاختلاف نفسه يساعد الأطراف على تقوية حججها، وتوسعة مداركها، والتقاط النقاط التي تحتاج أكثر من الرأي الأولي وإسنادها بالبراهين أو تركها، إلخ…. وهذه عملية نادراً ما تحصل في فترة قصيرة (رغم أنها قد تحصل)، فالمألوف أنها يمكن أن تأخذ زمناً مقدّراً من تباين الآراء وامتحانها في الواقع، وتجريب التغذية الراجعة (feedback) منها…. لذلك لا داعي للاستعجال عموماً، إذا لم تكن هنالك دواعٍ له، وكذلك لا داعي للانزعاج أو التشنّج. وفي النهاية فإن الكثير (إن لم نقل مُعظم) ما نتعاطاه ونتفاكر حوله في المجال العام ليست مناطق صواب تام وخطأ تام. الكثير بين بين.

هذه المقالة موجهةٌ لكثيرين، انخرطوا مؤخراً في نقاش وتبادل، أعتقد أنه صحي ومفيد، حول كتاب “التنمية كحرية” لأمارتيا سن، وقد كانت بادرة ذلك النقاش هي كتاب “أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية” (2021) لصاحبه الدكتور عبد الله الفكي البشير. نشرنا مقالاً سابقاً حول الكتاب (في 13 أكتوبر 2021)، حاولنا فيه تناول محتواه ونقاط اهتمامنا بخصوصه بصورةٍ معتدلة ومحفِّزة للقراءة والتفاكر (وقد كان، في نظري، وحسب الإفادات التي جاءتني). وهنا أضيف بأن أقول إن من حسناته تحفيز مثل هذا النقاش والتبادل، فالكتب الباهتة لا تثير نقاشاً واسعاً وجاداً. وهؤلاء الذين نوجِّه لهم هذه المقالة (وللجميع كذلك) أصدقاء وحلفاء متعدّدين، تباينت مواقفهم وانطباعاتهم، فهذه المساهمة ليست سوى مشاركة واحدة في نقاش واسع ومتعدِّد الأطراف، وفي قضية واسعة وتستحمل تعدد الزوايا والمناظير. مع وافر التقدير للجميع والاحترام الذي هم أهله.

——–

مختصر ما أنوي عرضه في هذا المقال هو أن هنالك مشاكل جادة وتستحق المراجعة، في كتاب “التنمية كحرية” لأمارتيا سن، وذلك رغم أن هذا الكتاب من الكتب المهمة إجمالاً في دراسات التنمية، وفيها تأطير جديد نسبياً (على دراسات التنمية كمجال أكاديمي) ومفيد، لكنه ليس جديداً تماماً ولا يتفوّق على كتابات أخرى في نفس المجال في مستوى العمق والأهمية، بل هو أحدها وذلك يكفيه، بدون مبالغة. هذا الرأي قد يتعارض قليلاً مع الحفاوة الكبيرة التي يجدها الكتاب، وصاحبه، لدى جهات عالمية ذات صوت عالٍ ولكنها ليست ذات مصداقية وسلطة معرفية فائقة (بل بعضها قليل المصداقية). وهذا الرأي يهمنا، في سياقنا، ليس للحث على تجاهل الكتاب أو تسفيهه، وإنما لكي نضبط المستوى الذي يمكن أن نتفق معه فيه، بحيث لا نُراهن على محتواه أكثر مما ينبغي ولا نتورّط في تمجيد محتواه جملةً بينما نحن نحاول تقديم نماذج وأفكار تشبهنا وتستوفي حاجاتنا في قضايا التنمية. باختصار، يمكننا الاستعانة بمثل هذا الكتاب، والاستعانة بغيره، لكن بدون المراهنة الزائدة عليه.

(1)

بعد 10 سنوات من صدور كتاب التنمية كحرية، لأمارتيا سن، كتب الدكتور دينس أوهيرن، أستاذ علم الاجتماع في جامعة بنهامتون الأمريكية، مراجعة عامة للكتاب نُشرت في دورية أكاديمية [1]. في تلك المراجعة بدأت ورقة أوهيرن بصورة تلخيصية عامة لأطروحة الكتاب، وللجوانب العامة المهمة فيه بخصوص أساسيات النظر للتنمية، وأشارت لبعض الإشادة والشهادات التي جاءت بخصوص الكتاب وصاحبه (مثل مدح كوفي عنان، أمين عام الأمم المتحدة حينها، لصاحب الكتاب). ثم جاء في ورقة أوهيرن إن أمارتيا وكتابه صارا فوق النقد لدرجة تقترب من الأم تيريزا.

لو قرأنا ورقة أوهيرن حتى تلك الفقرة فحسب، فالانطباع الذي يُمكن أن نخرج به أن أوهيرن مدح سن وكتابه. لكن أوهيرن كان فقط يبدأ ورقته بتقرير بعض الأنماط العامة التي صارت مشهودة في دوائر التنمية، ليقوم بتقديم نقده لها، فهو في الواقع كان يقول إن هذه الهالة من الاحتفاء الكبير ينبغي كسرها والتشكيك فيها. في بقية الورقة (أي معظمها) قال أوهيرن إن الجوانب التقدُّمية الظاهرة في أطروحة سن تفقد وزنها كثيراً حين نضعها في ميزان مع مشاكل الأطروحة، وهي إجمالاً (أي المشاكل): النزعة الفردانية لحل مشاكل التنمية، والميل للتحليلات الاقتصادية الجزئية على حساب الاقتصادية الكلية (الاقتصاد السياسي)، والتركيز المحلي البحت على مشاكل التنمية (لدرجة تجاهل السياق السياسي واقتصادي الأكبر، أي علاقات القوى التي تحكم ظروف التنمية)، بالإضافة لضعف الفهم التاريخاني لأوضاع التنمية (أي الفهم الذي يفسّر كيف أصبحت بعض الدول والمجتمعات متخلفةً تنموياً بينما أخرى متقدمة ولماذا). ويضيف أوهيرن أن أبطال سن الفكريين مجملهم مفكرون رأسماليون يحتفي سن بإنتاجهم ويقتبسهم كثيراً ويؤيد خلاصاتهم، مثل آدم سميث وفريدرك هايك. يقول أوهيرن إننا حين نجمع مشاكل أطروحة سن هذه معاً فمن الصعب قبول الأوصاف التي مُنِحت لأطروحته بواسطة جهات ومؤسسات عالمية، حيث صارت تلك المؤسسات تروّج لأطروحة سن، ولسن نفسه، بحيث صار وكأنه غير قابل للنقد، بينما خلاصة أوهيرن أن سن لا يعدو أن يكون رائداً جديداً لترويج الرأسمالية مع بعض التحسينات الظاهرية.

وعبر السنوات، تنامت نظرة نقدية لأطروحة سن، ساهم فيها عددٌ مقدّر من دارسي التنمية وأساتذتها، وفي تلك النظرة كان هؤلاء دوماً يشيرون إلى أن هنالك شيئاً غير حميد في الأطروحة التي تتبنّاها وتروّج لها نفس القوى والجهات التي فشلت وما زالت تفشل في تلبية طموحات الحد الأدنى للتنمية عند معظم شعوب العالم، وهي نفس القوى والجهات التي وُجّهت وتوجه لها اتهامات موثقة تشير إلى غياب حرصها على تنمية الشعوب وإنما بالأحرى حرصها على إبقاء أوضاع علاقات القوى والتبعية العالمية بين الفقراء والاثرياء مستمرة. عندما تحتفي تلك الجهات بأي أطروحة وتبالغ في تمجيدها- نظرياً على أي حال، فمن ناحية التطبيق لم يتغيّر شيء قبل أو بعد نشر الأطروحة- فهنالك ما يدعو للشكوك. مثلا، صدرت ورقة محكّمة في 2000 (أي بعد سنة من نشر كتاب سن) [2] يقول كاتبها إن أطروحة سن برغم أنها بداية للتحرّك بعيداً من الفرضيات النيولبرالية للتنمية إلا أنها تفشل في أن تحقِّق استقلالاً عنها، كما يضيف أن أطروحة سن خجولة فيما يتعلّق بتحليل ونقد علاقات القوى التي تعيد إنتاج أوضاع التخلف التنموي في البلدان النامية (أي نفس ما قاله أوهيرن). من ناحية أخرى قامت ورقة مُحكّمة أخرى في 2004 [3] بتحليل لغة سن، وكيف أن استعماله لمصطلحات من صنعه لوصف حالات ومفاهيم متناولة مسبقاً يُغطّي على إمكانية مقارنةً ما يقوله سن بما قيل من قبله وما إذا كانت لديه إضافات نوعية ومسنودة بالأدلة بخصوص تلك المفاهيم والحالات، فمثلاً بينما يُصر سن على الإشارة دوماً لخصائص السلع بوصفها “وظيفة الاستعمال” (utilization functions – functioning) (مثل القيمة الغذائية لغذاء ما، أو مستوى الراحة المستقاة من حالة اقتصادية متميّزة في مجتمع ما) فإن ذلك الاستعمال لا ينفي واقع أنها تُعامل كسلع في الواقع الاقتصادي وأن القيمة الاقتصادية لها ستبقى تحدياً ماثلا في الواقع، كما أن استعماله لذلك الاصطلاح الجديد يُحرر سن من أن توضع فرضياته أمام القياس، إذ ليست هنالك مقاييس واضحة ومُتعارف عليها للاصطلاحات الجديدة (وكما رأينا آنفاً فإننا حين نستعمل بعض المؤشرات التنموية، مثل مؤشر التنمية البشرية، نجد أن فرضيات سن لا تصمد دائماً أمام نتائج الواقع- فسن مثلاً لا يستطيع أن يشرح لماذا كوبا دوماً تُحقِّق مستوىًّ عالياً في مؤشر التنمية البشرية، أكثر من دول كثيرة لبرالية و”ديمقراطية” حسب شروط سن. إضافة إلى أن بعض بحوث سن السابقة أظهرت أن بعض الدول التي ليست ذات نُظم ديمقراطية تعدّدية كاملة استطاعت وضع وتنفيذ سياسات تنموية فاعلة تجنّبت حدوث مجاعات، مثل تنزانيا في زمن نيريري).

(2)

صحيحٌ أن مصداقية سن عالية باعتباره حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وباعتبار أن كتابه وجد صيتاً عالياً في دوائر التنمية والجامعات وتُرجم لعدة لُغات، لكن ذلك لا ينسحب بالضرورة لنُخلص إلى أن مواقف سن هي الأدرى والأثبت بخصوص اقتصاديات التنمية. مثلاً، لدى سن مخالفون من نفس قبيله، أي قبيل الاقتصاديين والباحثين الحائزين على جوائز نوبل في الاقتصاد وأصحاب المساهمات العالية كذلك والذين تمّت ترجمة مساهماتهم لعدة لُغات ودُرّست في الجامعات، إلخ. هنالك مثلاً الدكتورة إلينور أوستروم، الحائزة على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2009، فهي ذات تأثير عالٍ على دراسات الاقتصاد الجديدة باعتبار أن أبحاثها وكتاباتها قامت بتفكيك وتحجيم فرضيّات اقتصادية لبرالية كلاسيكية قوية، مثل نظرية “الاختيار العقلاني” (rational choice theory) ونظرية تراجيديا المشاعات  (tragedy of the commons)، وهي نظريات روّج لها وأكّدها أولئك الذين استند عليهم أمارتيا سن كثيراً مثل فريدرك هايك، ولم ينتقدهم سن في ذلك بل يبدو أنه يتفق معهم فيها. أيضاً هنالك جوزيف ستيقلتز، وهو كذلك حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001 (أي بعد أمارتيا سن بعامين فقط) وصاحب كتابات مترجمة لعدة لغات، وكان يوماً ما أحد أساطين إجماع واشنطن Washington Consensus  –  حيثُ كان كبير اقتصاديي البنك الدولي في آواخر التسعينات– ثم صار أحد أهم الأصوات الناقدة لتلك المنظومة وضررها على المجتمعات النامية. يقول ستيقلتز إن الوفاق حول النيولبرالية وجدواها قد مات، وأن النيولبرالية– وهي نفسها رأسمالية اقتصاد السوق بنسختها ما بعد الكينزية– أثبتت أنها مليئة بالعيوب والتناقضات كما أنها فشلت في تحقيق الرخاء الاقتصادي العالمي الذي زعمت قدرتها عليه وفق اقتصاد السوق العالمي. ستيقليتز أيضاً قام مؤخراً بكتابة تصدير طبعة جديدة لكتاب كارل بولاني “التحول الكبير” وهو أحد أقوى الكتب في نقد فكرة اقتصاد السوق والتنبؤ بالكوارث التي يمكن أن يجلبها تطبيق تلك الفكرة [4]. أكثر من ذلك قال ستيقلتز إن الدراسات الاقتصادية المحترمة وذات المصداقية اليوم لا تتساءل حول حقيقة فشل اقتصاد السوق عموماً من نجاحه بل تتحدث عن إلقاء الضوء على مناطق فشله وعن كيف يمكن علاجها، ففشله أمرٌ مفروع منه ويتحدث عن نفسه بنفسه.

من يقرأ لسن، منذ ذلك الوقت وحتى الآن، يعرف أنه لم يخرج من قناعات الاقتصاد اللبرالي الكلاسيكي، ومنها الاعتقاد العالي في قدرات السوق الحر (اقتصاد السوق). صحيح أن سن من الذين يحاولون تحسين وجه الرأسمالية واقتصاد السوق بمحسّنات أخلاقية أفضل لكنه لا يسائل الإشكالية القائمة في عدم مواءمة اقتصاد السوق للطموحات الإنسانية والمعايير الأخلاقية التي يبدو أن سن يتحدث عنها (نظرياً) في كتابه. (وطبعاً فحديث البعض عن أن أمارتيا “أكبر ناقد أخلاقي للرأسمالية” مجرد ذر للرماد في العيون، فالناقدون الأخلاقيون للرأسمالية أكثر وأقوى من سن بكثير).

(3)

إعطاء الكتاب حقه شيء، والمبالغة في تمجيده- أو قبول تمجيده- شيء آخر. لقد كرّرنا وأثبتنا بصورة واضحة، ومبذولة لمن يقرأون بتوسّع في دراسات التنمية، أن مُجمل الحجج الأساسية التي قدّمها سن في كتابه ليست حججاً جديدة، فقد وردت كتب ودراسات بخصوصها في الفترة بين السبعينات والتسعينات من القرن العشرين. بعض تلك الحُجج إيجابي ونتفق معه، ونعرف أن لسن مساهمةً ونكهةً فيه، لكن نعرف كذلك أنه ليس صاحب الاختراق أو الكلمة الأولى فيه (ومن التضخيمات كذلك محاولة نسب الفضل الأكبر لأمارتيا سن في تأسيس مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فالمعروف والموثّق أن ذلك المؤشر ترجع المساهمة الأولى فيه للاقتصادي الباكستاني المتوفي محبوب الحق، والذي نعاه سن في كتاب التنمية كحرية إذ كان قد توفي قبل فترة بسيطة من نشر الكتاب؛ فلسن مساهمةٌ مقدرة في دعم المؤشر نظرياً وإعلامياً ولكن لا ينبغي تضخيم دوره ليطغى على مساهمين أصيلين آخرين). وهذا إنصاف كافٍ. على العموم هذه مسألة يمكن تبيانها بتفصيل أكثر قليلاً- للمهتمين وغير المطلعين بصورة كافية على دراسات التنمية- لكن ليس هذا المكان المناسب لذلك التفصيل.

بنفس القدر، ينبغي أن يكون بديهياً أن الكثير مما قاله سن، من عبارات عامة ومختصرة، ليست عبارات أو مقولات جديدة كلياً على الكم الكبير من الكتابات والأقوال المتداولة في تلك الشؤون. قد يكون هنالك تناص، وقد يكون هنالك استقاء من كتابات سابقة (مثل استقاء سن بصورة واضحة ومباشرة من كتابات جون ديوي القديمة حول العلاقة بين الحرية والمسؤولية [5])، لكن مثل هذه التقاربات لا تُعتبر دلائل قوية على أن سن يستقي مباشرةً من أناس معيّنين. وفي الحقيقة، لو تابعنا مقولات سن بهذه الطريقة- طريقة متابعة الفقرات المقتبسة- فستكون هنالك أسئلة أكثر بكثير: مثل لماذا لم يُشر سن في كتابه إلى كتاب نيريري “الحرية والتنمية” وإلى التشابه الكبير الواضح بين أطروحة نيريري وأطروحته، حتى في الكثير من العبارات والتراكيب اللغوية، رغم أن نيريري نشر كتابه ذلك عبر دار جامعة أكسفورد للنشر [7]، أي نفس الجامعة التي كان سن يدرّس فيها وفي فترة زمنية متقاربة بل نشر معهم بعض كتاباته. أيضاً، لماذا لم يشر سن إلى تقرير مفوضية الجنوب، الذي صدر في 1990 عن دار جامعة أكسفورد كذلك [8] وكان مثار احتفاء عالمي كبير في وقته (ليس لأن المنظمات العالمية احتفت به وإنما لأن مجمل دول الجنوب الاقتصادي احتفت به باعتباره منتجاً يمثّلها) وفيه كذلك حديث واضح في الربط بين الحرية والتنمية وكذلك بين التنمية وتطوير القدرات البشرية المحلية. ذلك لأن التشابه الواضح بين أطروحة نيريري وأطروحة سن قد تبدو أكبر من مجرد تناص، لأن الأطروحة الأساسية إجمالاً متشابهة (نظرياً، مع بعض الاختلافات) وليس لأن عبارات مقتبسة هنا وهنالك متشابهة فحسب (ومن المؤكد أن سن يعرف عن تجربة تنزانيا لأنه شارك في كتابات تناولتها، وأشار إليها إشارةً سريعةً وخجولةً في كتابه التنمية كحرية ووصفها بأنها جرّبت أشياء مختلفة، ولم يُشر لتفاصيل؛ كما من المؤكد أنه يعرف عن تقرير مفوضية الجنوب فبجانب شهرة التقرير فقد صار سكرتير المفوضية رئيس وزراء الهند لاحقاً ويعرفان بعضهما جيداً فكلاهما عالم اقتصاد، وكما ذكرنا فقد كان رئيس المفوضية هو نيريري). لكن، في الصورة الكبيرة، فإن سن في كتابه أكثر من ذكر مصادره الفكرية التي تشبهه، وهي مصادر اقتصاد لبرالي كلاسيكي، ولعل ذلك وحده سببٌ كافٍ لئلا نظن أن أطروحة سن فيها تجديد كبير أو اختراق شاسع في منظومة الفكر الاقتصادي اللبرالي، وبالتالي، فهذا وجه اختلاف أساسي بينه وبين أطروحة نيريري وبين أطروحة مفوضية الجنوب- وبين أي أطروحة أخرى اشتراكية أو مناهضة للاقتصاد اللبرالي- وهو اختلاف أهم من التشابهات النظرية العامة، المجرّدة، حول الربط بين الحرية والتنمية.

ثم، من النقاط المهمة أن نميّز بين تشابه الاصطلاح، من ناحية، واختلاف المعنى المقصود بالاصطلاح من ناحية. وهذا مطلب مستمر، في تناول القضايا الفكرية، لأن بعض الاصطلاحات يقدِّمها أصحابها ويقدِّمون تعريفها لها، فلا تؤخذ بدون ذلك التعريف وإلا حصلت اختلالات في التفاكر. على سبيل المثال، عندما نتحدث عن “الحريات الاقتصادية” و”السوق الحر” فإن عبارة “الحرية” هنا مبوّبة لتعني شيئاً تم تعريفه مُسبقاً، ولا تعني “الحرية” بمعناها المجرّد؛ وعليه لا يصح أن نميل لكل ما ترد فيه كلمة “حرية” لمجرّد وجود تلك الكلمة فيه، فبعض ما يأخذ اصطلاح الحرية بعيد من الحرية في الواقع الهيكلي والممارسي. هذا المثال ينطبق كذلك على مصطلح “الحرية المطلقة”، فهو اصطلاح موجود في كتابات فلسفية غربية معروفة، مثل كتابات سارتر وفيخته، ثم هنالك مصطلح “الحرية المطلقة” عند الأستاذ محمود محمد طه. العلاقة بين الاصطلاحين، من حيث المعنى، علاقة ضعيفة، والاختلاف بينهما كبير، لأن المفكرين المذكورين استعملوا الاصطلاح استعمالات متباينة جداً.

(4)

في كتاب “حوكمة التنمية”، وفي لقاءات إذاعية لاحقة حول الكتاب، أشرنا لكتاب سن، ولأن التأطير الذي يوفّره يمكن أن نعتبره أحد التأطيرات الثلاثة الطاغية في دراسات التنمية حالياً: التأطير اللبرالي (أو التعريف اللبرالي)، والتأطير النقدي/ الجذري، وتأطير “التنمية كحرية” [6]. وفي هذا الصدد، في كتاب حوكمة التنمية، كما في اللقاءات، لم ندخل في تفاصيل حول أقدمية الربط بين الحرية والتنمية، لأن من أغراض الكتاب كانت اختصار المفاهيم والمسائل العامة ليصبح في حجم مناسب للقراءة والتفاكر الواسع. لكن في نفس الكتاب أشرنا لكتاب نيريري “الحرية والتنمية” ضمن المراجع (وفي كتابات سابقة، منذ 2015، ذكرنا كتابات محمود محمد طه كأحد مصادر تعريف التنمية عندنا)، كما أننا في كتابات سابقة، منذ العام 2018، أِشرنا للمفارقة في أن نيريري ربط بين التنمية والحرية منذ أوائل السبعينات وآواخر الستينات في القرن العشرين، أي قبل أمارتيا سن بعقود. لم نهتم كثيراً بتثبيت تلك الأسبقية التاريخية في كتاب حوكمة التنمية، نظراً لسياق الكتاب، لكن مؤخراً استجدت نقاشات جعلتنا نرجع ونثبت تلك الأسبقية.

وفي كتاب حوكمة التنمية، كما في اللقاءات الإذاعية حوله، أشرنا للفائدة من استعمال تأطير أمارتيا سن للتنمية، واستعمال بعض حججة وبعض نتائج أبحاثه الجمة، لكن مع تطعيم تأطيره بالتأطير النقدي/ الجذري، وذلك التأطير يعالج النقص في تأطير سن، لأن التأطير النقدي/ الجذري يعطي البُعد المعياري والحقوقي والأخلاقي/ القيمي للتنمية، بحيث يُصبح من الضروري النظر في علاقات القوى وفي القيم التي تُدير علاقات القوى تلك وأثرها على وجهات التنمية. إذن أعتقد أننا كنا منصفين لأطروحة سن بدون أن نبالغ في المراهنة عليها.

——–

وللحديث شجون، لكن نتوقف هنا، حالياً، فالكثير الذي يمكن أن يُقال، يمكن أن يُقال في موضعٍ آخر. اختصاراً، نريد أن نقول: إن قصارى ما يمكن الاتفاق عليه مع أمارتيا سن، في كتابه المعني، قد لا يتعدى نصف الكتاب، وفي ذلك النصف نفسه يكون هنالك شدٌّ وجذب، ومع ذلك فهذا إنصاف وتقدير لمساهمته بدون وكس أو شطط. الأهم من ذلك، هو الحرص المستمر على تصفية أدواتنا التحليلية والنظرية من الشوائب التي تضُر بها، أو الزوايا التي لا تشبهها. وفي ذلك نقول: إن الاحتفاء المبالغ بكتاب سن، وسط الجهات المسؤولة عالمياً من “التنمية الدولية” كمجال نشاط، هذا الاحتفاء مدعاة لأن نكون نحن نقديين أكثر في تعاملنا مع المحتفى به، لأن تلك الجهات المسؤولة عالمياً أثبتت مراراً، عبر السنوات، ليس فشلها في الاستجابة للطموحات التنموية للشعوب فحسب، وإنما ميلها لخدمة وتمديد الأوضاع الراهنة أكثر من إحداث أي تغيير جوهري في الأوضاع (ربما تغييرات سطحية هنا وهناك، من وقتٍ لوقت). ومن ثم فإن الأفكار التنموية التي نطمح لأن تسود مستقبلاً ليست هي الأفكار التي تتبنّاها أو تروّج لها تلك الجهات حالياً.

——–

هوامش:

[1] D. O’Hearn. 2009. ‘Amartya Sen’s Development as Freedom: Ten Years Later’, Policy and Practice: A Development Education Review, 8(Spring): 9-15. [2] V. Navarro. 2000. ‘Development and quality of life: a critique of Amartya Sen’s Development as freedom.’ Int J Health Serv.; 30(4): 661-74. [3] E. Bénicourt. 2004. Against Amartya Sen. L’Économie politique, 23, 72-84. [4] Karl Polanyi. 1944. The Great Transformation: The political and economic origins of our times. 2001 edition, forwarded by Joseph Stiglitz. Boston: Beacon Press. [5] في 1908، قدّم جون ديوي، الفيلسوف الامريكي المعروف بمساهماته في فلسفة التعليم، أطروحة بعنوان “المسؤولية والحرية” (Responsibility and Freedom)، شرح فيها أن الحرية والمسؤولية صنوان، يستدعي أحدهما الآخر، وأن التوسّع في الحريات يقتضي كذلك التوسع في الإقرار بالمسؤوليات المترتبة في براحات الحرية. لاحقا، قام أمارتيا سن في 1984 بتقديم محاضرة، من سلسلة محاضرات باسم جون ديوي، في جامعة كولومبيا، حول “الاختيار والفاعلية والحرية” استند فيها على إرث ديوي. [6] قصي همرور، 2020، حوكمة التنمية: قضايا وأطروحات. الخرطوم: هيئة الخرطوم للصحافة والنشر. [7] Nyerere, Julius K. 1973. Freedom and Development/Uhuru na Maendeleo: A Selection from Writings and Speeches, 1968–1973. Dares Salaam and London:  Oxford University Press. [8] The South Commission. 1990. The Challenge to the South. Oxford University Press

 

نقاشات حول رؤى التنمية: أطروحات وتواريخ «2- 4».. محمود محمد طه وجوليوس ك. نيريري: لقاءات شتى

تاريخ الخبر: 2022-04-04 06:21:43
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 51%

آخر الأخبار حول العالم

بسيوني يقود لقاء الأهلي والجونة تحكيميا

المصدر: الأهلى . كوم - مصر التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:07:56
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 40%

العصبة الوطنية تعلن عن برنامج مباريات ربع نهائي كأس العرش

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:08:33
مستوى الصحة: 66% الأهمية: 78%

استئنافية البيضاء تدين الدكتور التازي بـ3 سنوات

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:09:24
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 66%

عاجل.. المحكمة تبرئ التازي من تهمة “الاتجار بالبشر”

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:08:28
مستوى الصحة: 69% الأهمية: 70%

كتل ضبابية ورياح قوية بهذه المناطق في طقس يوم السبت

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:08:18
مستوى الصحة: 67% الأهمية: 81%

أبها يسقط اتحاد جدة بثلاثية في الدوري السعودي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:07:03
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 93%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية