حينما يختزل الطموح في علبة بامبرز
حينما يختزل الطموح في علبة بامبرز
حينما تستقر الروح في جسد عاجز, ترسم ريشة الأحزان لوحات مبكيات, حاضر تعس, أمنيات متواضعة, لكنها بعيدة المنال, الأفق المنير يبدو مظلما أمام البعض, طالما سكن المستقبل في كرسي متحرك, والطموح, كل الطموح, أحيانا يختزل في توفير علبة بامبرز منعا للحسرة, ووقاية للصحة التي ما عادت تحتمل رعاية الابن المعاق الذي صار عبئا علي الجميع, علي إخوته الصغار, علي والديه المسنين, علي نفسه الأسيرة في جسد يملأه ضجيج الوجع, يريد اقتلاع العجز من خلاياه, لكنها تأبي.
إنه ابن عم ماجد, شاب عمره 28 سنة, قصته ليست فريدة من نوعها, فمثله آلاف يحيون بيننا, يستسلمون للأقدار, مثلما نستسلم جميعا, لكن لكل منا تفويض استسلام مختلف, فمنا من يستسلم لعجزه, ومنا من يستسلم لضعفه, ومنا من يستسلم لشيطانه, أو لقلة حليته, لتمضي الأيام أينما تمضي.
قد نحيا الحياة مريرة لكن هناك من يحياها أشد مرارة, بل وينتظر يوم الخلاص منها, لأنه خلاص من استسلامه ومسئولياته, من أولئك المقهورين.
عم ماجد, رجل في السادسة والستين من عمره, كان يعمل غفيرا في إحدي الجهات, حتي خرج للمعاش, حينما جاءني في المرة الأولي عام 2017, تصورته رجلا في التسعينات من عمره, بينما كان قد تخطي الستين بشهور قليلة, جاء ممسكا بملف كبير, وصورة لولده الذي لفحه منذ الصغر ولم يتمكن من شراء كرسي متحرك له, فعاش الولد زاحفا.
مشهد قاس جدا, حينها قال عم ماجد أنه لم يعد قادرا علي حمله إلي دورة المياه في كل مرة.
قال الرجل في خجل: عايز كرسي بيتفتح لما يدخل الحمام, أنا عجزت مش قادر أشيل وأحط, خلاص العمر راح والأمل راح والقوة راحت, بس مش عايز أبهدل ابني أكثر من كده, فقر وعجز وقلة حيلة فاضل إيه تاني علشان نموت أنا نفسي أموت, ماليش لازمة مش عارف أعمل له حاجة جبته للدنيا أعذبه.
ثم صمت الرجل وعاد للحديث: وأموت إزاي هو أنا عايش أصلا؟ ما أنا ميت وعيالي أموات, وحياتي مرار في مرار, بس حرام الولد ده مجرد حتة لحمة, بنشيلها ونحطها, مش عايزه يتمرمط أكثر من كده, هو كتير عليه كرسي وحفاضة تحميه وتستره من المرمطة؟ كتير عليه مايتذلش كده؟ كتير علينا أنا وأمه نخفف قهره شوية؟
هذا هو الواقع الذي يتربص بفقراء العصر, بعدما أذلهم العوز, ولا أحد يعرف مصائرهم ماذا ستكون بعد موجات الغلاء العنيفة التي نشهدها حاليا, وتتضاءل معها العطايا أيضا.
أوجعت قلبي تأوهات عم ماجد, اشترينا الكرسي, وحينما ذهبنا لنقدمه له, كان مسكنه صاعقة بالنسبة لنا, فلا يوجد مسكن آدمي, ولا يوجد أثاث, ولا أي شيء, وتمكن باب افتح قلبك من توفير أثاث وثلاجة وغسالة, وسرير وكنبة, لكن هذا لا يكفي, وغاب عم ماجد ثم عاد من أيام ليؤكد أن الحال صار ضيقا للغاية, ولا يتمكن من الوفاء برعاية ولده.
وللعلم ابن عم ماجد أصيب خلال طفولته, بارتفاع مستمر في درجة حرارته, مما أدي إلي ضمور في وظائف المخ, تسبب في شلل نصفي وإعاقة ذهنية, لم يأخذ من الحكومة شيئا سوي معاش ذوي الاحتياجات الخاصة.
وربما لو قامت المشافي الحكومية بعلاجه, بشكل عاجل وصحيح, لوفرنا نفقة إعاشته شهريا, باعتباره من العاجزين, وحتي المبلغ الذي يتم صرفه من الضمان الاجتماعي, لا يكفي احتياجات طفل صغير, ومع جنون الأسعار السائد, لن يكفي احتياجات شاب عمره 28 سنة يرقد عاجزا فوق الفراش, أو جالسا فوق كرسي متحرك.
يمكننا جميعا أن نتخيل تلك الاحتياجات, البسيطة جدا, لكنها تمثل طموحا بعيد المنال لهذه الأسرة, التي لا مورد لها سوي المعاشات المذكورة مع عمل الابن الأصغر أرزقي يوم فيه عشرة مافيش لينفق علي الوالد العجوز والأخ العاجز, والأم المسنة, حتي فاض به الكيل, فلا يمكنه توفير القوت اليومي بعد أن قفزت الأسعار موجهة للجميع ضربة لولبية طرحتنا أرضا, ولا نعمل متي نستفيق منها, فإذا كانت الضربة قد أصابت الجميع بإغماءة غير معلومة الإفاقة, فما بالك بالفقراء والمعدمين والذين يحيون علي العطايا مهما كانت بسيطة.