أحكام التاريخ.. في لقاء النقب


جاءت الصور، التي خرجت من الاجتماع غير المسبوق بين إسرائيل ومصر والبحرين والإمارات والمغرب والولايات المتحدة في صحراء النقب، تعبّر عن حرص المجتمعين على الوصول إلى اتفاق يغطي الفراغ، الذي قد يأتي من الاتفاق النووي الإيراني مع المجموعة المفاوضة، وأبرزها الولايات المتحدة والصين وروسيا، وذلك بتوفير ترتيبات أمنية تغلق المنافذ التي قد تستغلها إيران لمواصلة العبثيات التحريضية.
ولأنني عشت القلق الخليجي من مغامرات إيران، ومن استمرار خروجها على متطلبات التهدئة الإقليمية، وضخ الدعاية المخربة لاستقرار دول مجلس التعاون، فقد شعرت بالضيق لأن دول مجلس التعاون بعد أربعين سنة من قيام المجلس لم تستطع التوصل إلى قيام منظومة أمنية جماعية رادعة، توفر الاستقرار والطمأنينة وتستغني عن الترابطات الثنائية، التي اعتادت عليها هذه الدول لتأمين أمنها عبر تفاهمات مع الحلفاء الاستراتيجيين، وأبرزهم الولايات المتحدة.

قام مجلس التعاون عام 1981، بعد نشوب الحرب العراقية - الإيرانية بسنة، وكانت تلك الحرب عنصراً مؤثراً في قناعات الزعامات الخليجية لقيام المجلس، راسمين أبرز الأهداف التي يسعى المجلس لها، وهي الوصول إلى منظومة دفاعية جماعية، متفائلين بأن مجلس التعاون هو العهد Bond الذي يربطهم ويرسم مستقبلهم، وهو الهوية الخليجية المستقبلية ذات المصداقية والقادرة على تجنيد ما تملك لحماية الأرض والتاريخ وترسيخ الشرعية التاريخية بتراثها وثرواتها.

ومع تشكيل اللجنة العسكرية وترتيبات التنسيق بين القوات المسلحة في الدول الأعضاء، برزت معها الآمال بأن المسيرة الأمنية صادرة من إرادة عليا لن تؤخرها البيروقراطيات ولن تعطلها ندرة الأموال، وعندما اشتد التوتر الإقليمي، وضع القادة ثقتهم في الخبرة العسكرية التي كان يحملها السلطان قابوس، سلطان عُمان، حيث تولى رئاسة لجنة تضع استراتيجية عسكرية رادعة جماعية، وترجمة هذا الكلام تعني تأسيس الجيش الخليجي الموحد.

وقدّم السلطان بعد إعداد استمر لمدة سنة، تقريراً يشرح فيه الاستراتيجية الخليجية الرادعة، مع تفاصيل حول القوات وعددها ونوعيتها، وقرأت التقرير بشعور بأنه صادر من أهل خبرة ورجال حروب.

التقت اللجنة التي تم الاتفاق عليها من قبل القادة في مسقط في أربعة اجتماعات، كنت أحضرها كأمين عام مع وزراء من الدول، بعضهم عسكريون وآخرون من المالية والاقتصاد والخارجية، ويترأسها جلالة السلطان قابوس.

كان التقرير متكاملاً، لكنه يضع مسؤوليات غير معتادة، لأنه اعتبر كل جغرافية الدول ميداناً للتحرك، لاسيما نحو الموقع الذي يأتي منه الخطر، مع التزامات بشرية ومالية تتطلب سرعة القرار والرضوخ لتبعاته.

وضع هذا التقرير مجلس التعاون بكل ما فيه من دول وقيادات ورجال أمام تحدٍّ تاريخي، لاسيما بعدما انكشف الغطاء عن الأطماع في أراضي الخليج من بعض دول المنطقة، وعن استخفاف الجوار بقدرة دول المجلس على المواجهة.

ومع المداولات والاستماع إلى المواقف، شعرت بأن الدول تحتاج إلى وقت أكبر، فليس من السهل تخفيف اعتماد دول الخليج على التحالفات القائمة، لاسيما أن الخطر يتحرك، يملأ السماء ويهدد الأرض، وأن بناء القوة، كما تصورها تقرير السلطان، يأخذ وقتاً لتشكيل منظومة أمنية حديثة.

تبدلت الأوضاع مع مرور الزمن، وجاءت قيادات رافقت التأسيس، لكنها لم تشحن بحقن الثقة والتفاؤل والحماس وضرورات السرعة، وتحسّن الوضع الأمني مع زيادة القلق، لكنه لم يصل إلى الحد الذي كنا نتمناه في بروز جيش خليجي متكامل، وإنما كانت البداية عملية، لكنها لا تستجيب لسد الفراغ الزمني، فدرع الجزيرة صرخة للتحرك السريع الذي يسبق القوة الرادعة، وهي عنوان سياسي رمزي للمسؤولية الجماعية.

ومن ناحية أخرى، تواصلت زعامات الخليج بمتابعة التطورات الإقليمية والدولية، وتصاعدت كمية المشاورات بين الزعماء، الذين تابعوا قرارات اتخذتها قيادات التحالف حول أفغانستان بالانسحاب الأميركي التام، وتركها هبة سهلة لجماعة ملا عمر، وجنود طالبان، كما أن الشكوك تجاه إيران لم تضعف، فما زالت التحريضات السياسية توجه إلى البحرين والمملكة العربية السعودية وإلى الإمارات مع تهديدات الحرس الثوري وقياداته في العراق.

ويضاف إلى ذلك الانسحاب الأميركي المستعجل من العراق، وصعود داعش مع التركيز الأميركي نحو آسيا ومتابعة أوضاع الصين، مع التوجه إلى تخفيض التواجد الأميركي في الشرق الأوسط والاهتمام بالناتو ودول الشرق الأقصى (اليابان وكوريا).

ومع الوضع العربي المفكك فلا أمل من الجامعة العربية، سوى بيان سياسي عربي يندد بالتحرشات الإيرانية، فتجربتنا مع الغزو علمتنا أن أعضاء الجامعة العربية لهم ظروف ومصالح وأولويات مختلفة، فكل واحد له لائحة همومه الخاصة.

فلا داعي لرفع سقف الآمال من الجامعة في وضعها الحالي، الذي لم يختلف عما كانت عليه عند عدوان صدام حسين على الكويت.

ولا أشك بأن غزو روسيا لجمهورية أوكرانيا، وما رافقه من تصغير لتاريخها ولوحدة شعبها، وتجاهل لطموحاتها في الحرية والديموقراطية، يشكل فصلاً مؤلماً في تاريخ العلاقات بين الدول، نرصده ونستخرج منه الدروس والعبر، فلا أمان في هذا العالم من دون رادع، ومن لا يملك الرادع بالقوة الذاتية فعليه أن يستخرجها من تحالفات المصالح والتقاء الاستراتيجيات.

وأعتقد أن اللقاء في النقب داخل إسرائيل، هو إحدى المظلات التي تعتبرها أطراف الاجتماع فاعلة ومؤثرة في إبعاد المخاطر، لاسيما أن الولايات المتحدة المهمومة بما يدور في أوكرانيا تعرف مكانة المحتوى الخليجي ودوره في الأمن العالمي، ولها ترابطها التاريخي مع دول المجلس، وعلى معرفة بدور الاعتدال الخليجي السياسي والنفطي في الازدهار العالمي سياسياً واقتصادياً ومعيشة، وأعتقد بأن العالم الذي قد يواجه أزمة في نقص الطاقة سيجد من دول الخليج كل تفهم وتعاون لتعويض كميات النقص.

عشت أزمة 1973 مع حرب أكتوبر والمقاطعة النفطية للولايات المتحدة، حيث ناقشت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه القضية لمدة عام تقريباً، توصلت إلى أن النفط سلعة استراتيجية لابد من توظيفها بحكمة، بلا انفعال، وأن السلام العالمي والازدهار الاقتصادي غير مضمونين من دون تواجدها، ولهذا فإن العلاقة بين المستهلك والمنتج هي ترابط استراتيجي لابد من حمايته والحفاظ على استقراره وعدم تعريضه للهزات السياسية.

نعود ونردد وبقوة بأن الوعي الأمني من ضرورات القيادة، وتواجد الردع لحماية المنطقة هو أولوية لدول المجلس، ولذلك لا مفر من عمل جماعي خليجي يحقق توازن القوة، ويمكن الآن وفي هذه الظروف، إعادة الإطلالة على محتويات التقرير الذي وضعه السلطان قابوس، ففيه إشارات إلى الطريق المؤثر.

أود الإشارة إلى ما تعلمناه من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، واستلهام العبر من سيرته، ومن تجاربه في حروبه مع خصومه، فبعد خروجه من مكة إلى المدينة عام 620م، سعى إلى العودة إلى مكة عام 628م، لكنه تراجع مع إدراكه لقوة خصومه من قريش، فقبل صلح الحديبية رغم معارضة أقرب الناس له، ومنهم عمر بن الخطاب.

لكنه رسول مدرك لتوازن القوى، وعاد إلى المدينة مصمماً على تحرير مكة عندما تكتمل الترتيبات.

في عام 632، توجه إلى مكة يقود جيشاً بعشرة آلاف مقاتل، وتستقبله مكة من دون مقاومة، معتبراً فتح مكة بداية لحمل الرسالة إلى أبعد الحدود.

هذا مشهد تاريخي استراتيجي على الجميع هضم فنون البقاء، الذي تقدمه الرسالة المحمدية لكل جيل.

* نقلا عن " القبس"

تاريخ الخبر: 2022-04-04 21:16:51
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 78%
الأهمية: 99%

آخر الأخبار حول العالم

المراكز الجهوية للاستثمار على طاولة مجلس الحكومة

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 21:10:26
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 61%

زيادة 1000 درهم.. بووانو يتهم الحكومة بـ”رشوة” الناخبين

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 21:09:25
مستوى الصحة: 72% الأهمية: 78%

صديقي: استيراد المغرب للحوم الحمراء إجراء "استثنائي وظرفي"

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 21:10:25
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 62%

رسميا.. عادل رمزي مدربا جديدا للمنتخب الهولندي

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 21:09:29
مستوى الصحة: 62% الأهمية: 72%

بنتوك يبرز لـ”الأيام 24″ إستراتيجية شركة “OCP SPORT” لتطوير كرة القدم

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 21:09:20
مستوى الصحة: 63% الأهمية: 79%

وزير الفلاحة يكشف الأسباب الحقيقية وراء غلاء اللحوم الحمراء 

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 21:09:36
مستوى الصحة: 71% الأهمية: 79%

بعد “بولميك” الجزائر.. إقبال كبير على أقمصة نهضة بركان

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 21:09:32
مستوى الصحة: 65% الأهمية: 73%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية