نقاشات حول رؤى التنمية: أطروحات وتواريخ «4- 4».. محمود محمد طه وريادة قضايا التنمية


نقاشات حول رؤى التنمية: أطروحات وتواريخ «4- 4»

قصي همرور

قصي همرور

محمود محمد طه وريادة قضايا التنمية

الموقف الذي نتبنّاه، بخصوص المواقف المرصودة للأستاذ محمود محمد طه في قضايا التنمية، هو أن بعض تلك المواقف فيه جِدة واضحة وبعضها قديم ومن جهات أخرى لكن طه تبنّاه، وذلك إذ أنه، كمفكر أصيل، عنده مساهمات أصيلة وعنده كذلك انتخابات من التراث الإنساني الواسع ضمّنها في مدرسته الفكرية، كما يفعل المفكّرون الجادون، فالانتخاب والتضمين من التراث الإنساني الواسع نفسه عملية فكرية تستند إلى منهاج وعلم وتدل على انخراط مع قضايا الفكر ومع التراث الفكري وحصول رأي عتيد فيها. ثم إن جميع تلك المواقف المعنية بالتنمية على اتساق مع ما يمكن أن نسميه أساسيات الفلسفة الاجتماعية التي ركّبها طه (والتركيب كذلك فيه جزء أصيل وفيه جزء مختار بمنهجية من التراث الفلسفي والفكري الإنساني المتاح الذي تعاطى معه المفكر، وذلك التركيب يصبح مدرسة بسبب اتساقها الداخلي وبسبب المحتوى الجديد المبثوث فيها والرابط بينها).

لدينا كتابات وأوراق منشورة في نفس هذه المحاور، استقت من مواقف طه، منذ 2007 وحتى الآن (نمر على ذكر بعضها أدناه، ونرجو أن يلاحظ القراء التواريخ)، وعليه يمكن القول إن هذه المسألة شغلتنا واشتغلنا عليها لسنوات، بيد أن عملنا فيها اختار أن يأتي موزّعاً حسب المواضيع والسياقات بدل أن يجتمع تحت عنوان يشبه عنوان المقال هذا (ولدينا في ذلك أسباب تقديرية- ليست بالضرورة أصح أو أقل صواباً ولكن اعتمدت على مشهد المؤلف- من تلك الأسباب أن كتابات طه المتعلّقة بالتنمية، مباشرة وغير مباشرة، جاءت متوزِّعة في كتاباته ضمن مواضيع وسياقات متنوعة، ثم مرة واحدة في السبعينات اختار نشر سفر يخاطب التنمية مباشرة، وهو “الدين والتنمية الاجتماعية”).

يمكن هنا تلخيص أسس مساهمة الأستاذ محمود محمد طه في قضايا التنمية (وفق نظرنا وبحثنا) في المسائل الآتية:

أولا – مفاهيمياً: التمييز بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، ووضع الاقتصادية كمطية أساسية (بناء تحتي) وضرورة التخطيط والتنفيذ على مستوى المجتمع، بينما الاجتماعية هي الغاية الأكبر والبناء الفوقي، وهي مرتبطة بالحرية في مستوى الاجتماع ومستوى النفس البشرية (والأخير هو المستوى الأعلى والغاية الأكبر). هذا ترتيب قيمي جوهري لتوجيه الفكر والعمل في شتى قضايا التنمية. ليس فيه تفصيل لنموذج تنمية أو رؤية متكاملة ولكن فيه توجيه واضح لدفة الفكر والعمل في مجال التنمية وربطه بالهموم الكبرى للإنسانية. (أهم مصدر في هذا الصدد: كتاب الدين والتنمية الاجتماعية، محمود محمد طه، 1974).

ثانيا – هيكلياً: (وهنا تظهر معالم رؤية عامة للنماذج التنموية ذات التوجه الصحيح في نظر الأستاذ):

(1)  الاقتصاد التعاوني: دعم التعاونيات والسياسات الاقتصادية المتّسقة مع الخبرة التعاونية والتوجهات الاشتراكية (وهو في هذا قريب من أطروحة أوجاما لنيريري)؛ [في هذه النقطة، من أهم ما كتُب ورقة محمد الفاتح عبدالوهاب العتيبي. 2017. “التعاونيات ذراع الاشتراكية لتحقيق المساواة الاقتصادية في فكر الأستاذ محمود محمد طه.” قّدمت في “مؤتمر الدين والحداثة: الأستاذ محمود محمد طه نموذجاً”، بواسطة نادي الفلسفة السوداني، 23- 25 أكتوبر. أيضاً تناولنا هذه النقطة في ورقة “مزاوجات الديمقراطية والاشتراكية: الاقتصاد التعاوني نموذجا”، 2020، ندوة المسلمون وتحديات العصر، الخرطوم، 18- 20-يناير، وقد طرحت تلك الورقة مرافعة عن الاقتصاد التعاوني من منظور المدرسة الجمهورية، استناداً على كتابات الأستاذ محمود محمد طه والجمهوريين عن التعاونيات والحلول الاقتصادية للتعاون، واستناداً كذلك على كتابات وتوثيقات تلاميذ للأستاذ أصحاب خبرة في المجال التعاوني، مع ربط المسألة كلها بتقاطعات الفكر الاشتراكي العالمي وقضايا التنمية.]

(2) توطين القدرات (التعليم والتكنولوجيا)، وهو فيه قريب من مفهوم التكنولوجيا الملائمة (appropriate technology) ومقاربات التنمية المتبنية له [وقد تناولنا هذه النقطة في ورقة الماجستير (باللغة الانكليزية)، عن التكنولوجيا الملائمة في السودان، 2007: تناولت فكرة التكنولوجيا الملائمة وارتباطها برؤية التنمية المستقلة محلياً ورؤية التعليم المتوطّن، وذكرنا بإسهاب أن محمود محمد طه من أوائل من تحدثوا في هذا المضمار ولديه مساهمات موثقة. استندت الورقة في هذا الصدد بصورة كبيرة على رسالة طه عن التعليم لمعهد بخت الرضا، 1958. نفس الاستعراض لمساهمة طه قدّمناه في كتاب “التحرر والتكنولوجيا”، باللغة الانكليزية، الصادر في 2018]؛

(3) ترفيع تمثيل المرأة في المجتمع ولنفسها: في المجتمع وفي المنزل، بالحقوق وبالسياسات الاقتصادية المساعدة على تقييم مساهمتها التنموية تقييما منصفا. [وفي هذه النقطة نشرنا ورقة بحثية بعنوان “عمل المرأة والمنزل الافريقي: ضمن قضايا الجندر والتنمية”، مجلة نقدي، العدد الثاني (ابريل-يونيو 2008)، عن تقييم عمل المرأة في المنزل، خاصة في افريقيا. استنادا على آراء طه والدراسات التنموية والجندرية التي تطورت في اتجاه قيمة العمل المنزلي بشتى أوجهه. الورقة تحدثت كذلك عن حلول تنموية متقاطعة مع الموضوع.]

بيد أن الأهم من تبويب مساهمة محمود محمد طه في قضايا التنمية، بالطريقة المذكورة آنفاً، هو أن تلك المساهمة أتت ضمن باقة أكبر وأعمق، وتلك الباقة توفّر لها السند الفكري والأخلاقي الكبير؛ فكثير من كتابات طه التي تدخل في مجالات الفكر الاجتماعي والسياسي، وفي مذهبية النظر في تلك المجالات، وفي مجالات القانون (خاصة الدستور وتطوير التشاريع)، كثير من هذا لا يدخل في المعتاد في حقل دراسات التنمية مباشرة، لكنها مقوّمات فكريّة وأخلاقية عالية يمكن اصطحابها كبوصلة للمواقف والآراء القويمة في قضايا التنمية وفي قضايا أخرى متعددة في الهم الإنساني. على سبيل المثال، فإن موقف طه الفكري السديد أن التحدي الأكبر أمام جميع الفلسفات الاجتماعية كان وما زال التوفيق بين حاجة الفرد (للحرية) وحاجة الجماعة (للعدالة)، وأن طرح أي مدرسة فكرية وأداءها في هذه المعضلة تحديدا هو أكبر معيار يقاس به  قُرب تلك المدرسة أو بُعدِها من السداد، هو موقف ينسحب على دراسات وأطروحات التنمية انسحابا واضحا، وعلى غير دراسات التنمية كذلك من ضروب الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية المتنوعة، وعبر هذا الموقف يمكن كذلك تقييم ونقد الأطروحات والممارسات التنموية المتنوعة. نفس الأمر يقال عن تلخيص طه لدور الدستور، في المجتمعات الحديثة، وأن قوامه أن “يكون دعامة تشريع يجعل الحكومة تنظم الحياة الخارجية على شكل يمكن الفرد، من رجل وامرأة، من أن يجد فيه أقل قدر ممكن من الصعاب، وأكبر قدر ممكن من التشجيع، في سبيل جهوده الفردية الرامية إلى تحرير مواهبه الطبيعية من الأوهام والأباطيل.” [من مقاله:  خطاب إلى المحامي العام في الباكستان بشأن دستور الباكستان والقرآن، نشر بجريدة صوت السودان 1953]

أما فيما يخص تعريف التنمية، فلدى الأستاذ محمود محمد طه تعريف موثق لها [وقد استندنا على ذلك التعريف، وأشرنا للمرجع في كتاب “السلطة الخامسة” في 2015 وفي 2020، كما تعرض الكتاب لمساهمات طه في مسألة التكنولوجيا الملائمة]. في كتاب “الدين والتنمية والاجتماعية يُعرّف طه التنمية فيقول “التنمية هي الزيادة، كماً، وكيفاً.. ولمّا كان الإنسان هو هدف كل مسعى إلى تطوير الحياة، فإن التنمية الاجتماعية إنّما تعني زيادة المورد البشري، وتحسين نوعه – تنمية الإنسان – وتنمية الإنسان إنّما تكون بتنمية موهبتيه الأساسيتين – العقل والقلب.. فهي إذن تعني تنمية حياة فكره، وحياة شعوره.”  ومن يقرأ هذا التعريف يمكنه أن ينتبه إلى أن طه يتحدث في مستوى مختلف من المستوى الذي تتحدث فيه معظم الكتابات في التنمية ودراسات التنمية، فهو هنا يتحدث فيما هو أقرب لفلسفة التنمية، وتعريفه هذا تعريف نادر. بيد أن طه يتنزّل من التعريف الفكري العالي هذا للتنمية الاجتماعية إلى تعريف (واعتراف) مهم للتنمية الاقتصادية، ففي نفس الكتاب وصف التنمية الاقتصادية باعتبارها “العمود الفقري” والبناء التحتي للتنمية الاجتماعية التي هي البناء الفوقي، وأن ذلك يستدعي “التدبير، والتخطيط، واستعمال الآلة، والأيدي، في زيادة الإنتاج” ؛ ثم يؤكد أن كل هذا يقتضي الاشتراكية، وأن الاشتراكية لا تطبّق حقيقة بدون الديمقراطية. بعد ذلك، يعيد طه تنزيل تعريف التنمية، الذي بذله سابقا، إلى أراض تدبيرية وتخطيطية أكثر، فيقدّم تعريفا ثانيا، متسقا مع الأول ومتنزّلا عنه، هو أن “التنمية معناها الزيادة.. التنمية الاجتماعية معناها زيادة المجتمع البشري، أو العنصر البشري أو، يمكنك أن تقول، بتعبير معمم، زيادة الثروة البشرية – زيادتها في الكم، وتحسينها في الكيف.. التنمية الإجتماعية معناها تطبيق العلم، بكل صورة، في تيسير حياة الإنسان على هذا الكوكب، وإبراز القوى المودعة في بنيته.”  وهنا في هذا التعريف يتقارب طه أكثر من تعريف التنمية المبذول في تقرير مفوضية الجنوب (1990) الذي أشرنا له آنفا [في مقالات سابقة]. بعد ذلك يدلف طه إلى خلاصة من الخلاصات التي تتضّح من هذا التسلسل، وهي أنه “لنجاح التنمية الاجتماعية، لا بد من الحرية.”  إذن فإن طه يصل لخلاصة الربط بين التنمية الاجتماعية والحرية عبر مسار فكري أصيل، ومختلف، وهو لذلك لا يعرّف التنمية بأنها زيادة الحرية (أي لا يتطابق مع تعريف أمارتيا سن للتنمية)، إنما يقول بأن نجاح التنمية الاجتماعية يقتضي الحرية، فالحرية والتنمية هنا مجالان مترابطان، لكنهما ليسا نفس الشيء بحيث أن أحدهما يتعرّف بالآخر. وهذه مسألة دقيقة، في نظرنا، لأن فيها تمييزا بين الغايات والوسائل، فبينما الغاية العامة هي تنمية (زيادة) حياة الفكر والشعور للإنسان، بجملة معانيها ومستوياتها، وبينما التنمية الاجتماعية بحاجة للتنمية الاقتصادية وبحاجة كذلك للحرية، إلا أن هنالك تداخلات بين الغايات والوسائل تحتاج دقة في التمييز. هذا التمييز يشبه طه، وهو القائل “أصعب الأمور على المفكرين التمييز بين الوسيلة والغاية. خصوصا عندما تكون الوسيلة طرفا من الغاية.”

وخلاصات طه بخصوص منشود التنمية، رغم أصالتها واختلافها، إلا أنها في نظرنا أقرب لخلاصات نيريري من خلاصات أمارتيا سن، فبينما ربط نيريري بين التنمية والحرية كذلك، كما وضّحنا سابقا، اتجه أمارتيا سن إلى تعريف التنمية نفسها بأن الحرية غايتها ووسيلتها. وهذا الفرق بين الخلاصات يرجع غالبا لأن طه يتعامل مع الحرية في مستويات أعلى بكثير من المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتعارف عليه – فللحرية عند طه مستويات عليا، إنسانية وعرفانية، تصاقب الإطلاق – ثم هي تتنزّل من ذلك المستوى إلى مسائل الاقتصاد والاجتماع والسياسة عند البشر وفي سياقاتهم التاريخية، بينما مجمل من يكتبون عن التنمية والحرية يتحدثون عن مستويات من الحرية محدودة بالإطار الاجتماعي والسياسي فحسب؛ وأيضا لأن طه له رأي واضح في الاقتصاد السياسي للتنمية وفي أهمية التخطيط الاقتصادي التنموي على مستوى الدولة ومستوى الجماعة، ما يجعله يوضّح أهمية العمل الجماعي والمسائل الجماعية مثل أهمية الحريات  والحقوق الفردية، بينما هذه المنطقة الأخيرة هي منطقة اشتغال أمارتيا سن (النموذج اللبرالي للحريات الفردية)، إذ لم يخرج منها كثيرا (وهو الأمر الذي وضّحه عدد من الباحثين الناقدين لأطروحة سن).

ومن المهم ذكر مسألة أخرى في التمييز بين الغايات والوسائل، فبينما قد يتوافق طه ونيريري وسن إجمالا في التعبير العام عن الغايات العامة، المجرّدة، للتنمية، إلا أن اثنان منهما فقط يتخذ الاشتراكية وسيلة لتلك الغايات، ويريان أن الاشتراكية كوسيلة متسقة أكثر مع تلك الغايات. والتذكير باشتراكية طه، وباشتراكية نيريري – وهو الأمر الذي يجعل لديهما موقفا غير متوافق مع اقتصاد السوق (ومن ضمنه آلية السوق الحر، أي الذي تتحدد فيه الأسعار ومقادير السلع وقيمتها المجتمعية بواسطة قوى السوق)، ويرون أن قوى السوق ينبغي تنظيمها وينبغي للسوق أن يكون تحت إمرة المجتمع والسياسات الاقتصادية الأكبر – تذكير مهم، لأن أمارتيا سن موقفه موالي إجمالا لاقتصاد السوق، ومرجعياته الأساسية في الفكر الاقتصادي مرجعيات رأسمالية، وهذا اختلاف كبير وليس صغيرا في مستوى الوسائل، ما يجعل رؤيتهم للتنمية مختلفة في مستوى أساسي…. وللحديث شجون.

نقاشات حول رؤى التنمية: أطروحات وتواريخ «3- 4».. مراجعة نقدية لكتاب “التنمية كحرية” لأمارتيا سن: لماذا

تاريخ الخبر: 2022-04-05 15:22:36
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 57%
الأهمية: 63%

آخر الأخبار حول العالم

سعيد بنكراد.. يكتب "تَـمَغْربيتْ"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:25:52
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 52%

النقابة الوطنية للعدل تدعو إلى إضراب وطني بالمحاكم لثلاثة أيام

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:17
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 51%

سعيد بنكراد.. يكتب "تَـمَغْربيتْ"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:00
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 69%

النقابة الوطنية للعدل تدعو إلى إضراب وطني بالمحاكم لثلاثة أيام

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 00:26:11
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 68%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية