السلع المعمرة تواجه التعويم الثاني للجنيه… فهل يتكرر سيناريو التعويم الأول؟
السلع المعمرة تواجه التعويم الثاني للجنيه… فهل يتكرر سيناريو التعويم الأول؟
وسط الظروف الدقيقة التي يمر بها العالم مع تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وانعكاساتها علي الاقتصاد العالمي, وما أدت إليه من ضغوط تضخمية متمثلة في الارتفاع الملحوظ في الأسعار العالمية للسلع الأساسية واضطراب سلاسل الإمداد وتكاليف الشحن, وجاء متزامنا مع ذلك قرار الاحتياط الفيدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة واتباع سياسة انكماشية بسحب سيولة الدولار من الأسواق العالمية مما أدي إلي حركة خروج للدولار من السوق المصرية ضمن الأسواق الناشئة… وهنا كان التدخل الحكيم للبنك المركزي المصري باتخاذ إجراءات تصحيحية استثنائية برفع سعر الفائدة بواقع 1% للحيلولة دون هروب الدولار للخارج بالإضافة إلي مبادرة كل من البنك الأهلي المصري وبنك مصر بطرح وعاء ادخاري جديد للجنيه المصري في صورة شهادات إيداع بفائدة سنوية 18% وهو ما يمثل قفزة ملحوظة في نسبة الفوائد علي الودائع التي كانت في حدود 11%, وذلك بهدف تقليل السيولة بالأسواق وتشجيع المواطنين علي الادخار بالعملة المصرية وتعويضهم عن ارتفاع معدلات التضخم.
ونالت حزمة القرارات التصحيحية هذه استحسان المؤسسات المالية العالمية التي شهدت بأن لها انعكاسات إيجابية علي الاقتصاد المصري بحيث تحافظ علي جاذبية السوق المصرية أمام الاستثمارات الدولية وصناديق الاستثمار العالمية, علاوة علي تحسين تصنيف العملة المصرية.
لكن كل تلك الإجراءات لم تمنع انفجار موجات غلاء الأسعار في السوق المصرية أمام المستهلكين, وذلك أمر مفهوم ومبرر إذا أخذنا في الاعتبار الهزات التي تتعرض لها جميع الأسواق العالمية سواء بالنسبة لارتباك الواردات أو لارتفاع الأسعار, والحقيقة أن الحكومة المصرية بذلت وتبذل جهودا حثيثة للسيطرة علي انفلات أسعار السلع الاستراتيجية والمواد الأساسية المرتبطة باحتياجات معيشة المواطن المصري سواء بامتصاص الجزء الأكبر من ارتفاع الأسعار وزيادة هامش دعم تلك السلع أو بفرض رقابة صارمة علي الأسواق لكبح جماح جشع التجار.
هذا بالنسبة للسلع الأساسية والاستهلاكية المرتبطة بالحياة اليومية للمواطنين والتي لا قبل لهم بالاستغناء عنها والتي حتي إذا حادت عن الهامش السعري الذي تلعبه الدولة سيكون المواطن مضطرا لشرائها لتلبية احتياجه ولأن تذبذبات أسعارها لن تخرج عن نطاق السيطرة… لكن ماذا عن السلع الكمالية والسلع المعمرة والسلع غير الأساسية؟
تلك السلع قد يستطيع المستهلك الاستغناء عنها مؤقتا خاصة أن إعادة تقويمها سعريا بناء علي معايير السوق من شأنها أن تقفز بأسعارها قفزات مبالغا فيها تنأي بها عن القدرة الشرائية للمستهلك فيقرر الابتعاد عنها نتيجة ضيق ذات اليد واتساع الفجوة بين قيمتها السوقية ومقدرته الشرائية… وبطبيعة الحال لن يكون في وسع الحكومة التدخل لكبح جماح انفلات أسعار هذه النوعية من السلع إذ يكفيها مواجهة السيطرة علي أسعار المواد الأساسية والسلع الاستراتيجية, فينتهي الأمر إلي ما هو أشبه بحرب تكسير العظام والنفس الطويل بين التجار والمستهلكين… وهو ما يعيد للأذهان سيناريو التعويم الأول للجنيه المصري في نوفمبر 2016 في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية, فماذا حدث آنذاك؟
ارتفعت أسعار السلع الكمالية, والسلع المعمرة والسيارات إلي آفاق غير مسبوقة بحيث قاربت ضعف أسعارها قبل التعويم ووقف المستهلك مصدوما أمام أسعارها الجديدة ما بين غير مصدق وبين عاجز تماما عن مواجهة الأسعار الجديدة… وقد يكون التجار معذورين إزاء ذلك الارتفاع الصادم ومبرراته في ارتفاع الأسعار العالمية وتكاليف الاستيراد والشحن وقبل كل شيء سعر الدولار الذي تجاوز ضعف سعره قبل التعويم… لكن ما العمل وقد وقف المستهلكون مغلوبين علي أمرهم عازفين عن شراء هذه النوعية من السلع, واستمر ذلك الوضع طويلا -بحيث قارب علي السنة- حتي أصاب الركود سوق تلك السلع وبين عناد التجار وإصرارهم علي عدم مراجعة الأسعار تفشي عناد المستهلكين وعجزهم علي الشراء- حتي انتشر وقتها هاشتاج خليها تصدي للتدليل علي بوار السلع وركود السوق وانتشار البطالة!!
وكان الموقف يزداد تعقيدا وأصبح لا يمكن السكوت عليه وبات لزاما التدخل لإعادة تحريك عجلة السوق… وهنا تدخلت غرف التجارة المعنية لمحاولة تضييق الفجوة السعرية وتشجيع المستهلكين, ولم يكن ذلك متاحا إلا بتشجيع التجار علي مراجعة هامش الربح الذي يطبقونه علي السلعة بعد احتساب التكاليف والأعباء والذي تبين أنه هامش سخي يستلزم مراجعته وتخفيضه بدرجة واضحة إذا أراد التجار كسر جمود السوق وتحريك عجلة الاستهلاك… وقد كان أن تخلي التجار عن عنادهم وقاموا بمراجعة هامش ربحهم وأعلنوا عن أسعار جديدة أقرب إلي قدرة المستهلكين, فعادت شيئا فشيئا الحركة إلي الأسواق حتي استعادت عافيتها مرة أخري… وكانت تلك تجربة ثرية لكيفية مواءمة السوق أسعارها مع مقدرة المستهلكين.
اليوم نحن إزاء تكرار نفس سيناريو التعويم الأول مع التعويم الثاني للجنيه المصري… فهل وعي تجار السلع المعمرة والكمالية الدرس, وهل ينحنون أمام العاصفة لتمر بالحفاظ علي حركة السوق وإنقاذها من الركود والبطالة؟