فى الذكرى الرابعة لرحيل أستاذ الرياضيات الذى قام بالتدريس بزى الكهنوت


د. مينا بديع عبد الملك ​

أستاذ الرياضيات بهندسة الإسكندرية
فى 28 سبتمبر 1928 وُلد الطفل أديب عبد الله فضل الله بمحافظة المنيا. حصل على بكالوريوس الرياضيات بمرتبة الشرف عام 1949 قى كلية العلوم – جامعة القاهرة، ثم درجة الماجستير فى الرياضيات التطبيقية فى موضوع “النظرية النسبية العامة” فى جامعة “عين شمس” عام 1959، ثم درجة الدكتوراه فى تخصص “الدوال المُرّكبة فى المتغيرات المُركبة المتعددة” فى جامعة “جوتنجن” بالمانيا الغربية عام 1962.

فور حصوله على درجة الدكتوراه عاد إلى قسم الرياضيات بعلوم القاهرة حيث كان يعمل معيداً بالقسم، ومن ثم تم تعيينه مدرساً بالقسم، وفى عام 1968 تم تعيينه أستاذاً مساعداً بقسم الرياضيات بعلوم القاهرة.

وفى عام 1970 طالبه البابا كيرلس السادس (1959 – 1971) البطريرك 116، للتفرغ للخدمة الدينية بالقاهرة. فبادر بتقديم استقالته إلى د. أحمد حماد رئيس قسم الرياضيات، وأعلن له أن سبب الاستقالة هو التفرغ للخدمة الدينية، فرفض رئيس القسم الاستقالة وتفاهم مع د. أديب عما إذا كان فى استطاعته الجمع بين واجبه الدينى وبين واجبه العملى، كما أنه لا يرى مانعاً إذا قبلت الكلية حضوره وهو يرتدى زى الكهنوت. وبعرض الأمر على د. عزت خيرى عميد الكلية، أعلن موافقته الفورية ومن ثم بدأت المكاتبات الرسمية.

أرسل رئيس القسم إلى العميد كتاباً يقول فيه: (تفضل قداسة البابا فأبدى للأستاذ الدكتور أديب عبد الله فضل الله الأستاذ المساعد بالقسم رغبته الكريمة فى التفرغ للخدمة الدينية .. وقد أبدى الدكتور أديب اعتذاره عن استمرارية العمل بالكلية. ولكن إزاء حاجة القسم القوية لخدمات د. أديب، فقد رأى أن يجمع بين الخدمة الدينية وقيامه بواجباته فى الكلية. والقسم يشكر د. أديب على هذا التعاون الكريم، ويرى أن قيام سيادته بالخدمة الدينية لا يتعارض بتاتاً مع قيامه بواجباته فى الكلية. لذلك فإنى أرجو من سيادتكم توجيه خطاب إلى د. أديب بأن الكلية لا تمانع فى أن يجمع سيادته بين الخدمة الدينية وقيامه بالعمل فى الكلية، كما لا تمانع الكلية فى حضوره والقائه محاضراته بزى الكهنوت). وفعلاً وصل د. أديب رداً من مراقب الكلية – كما هو مُتبع فى العمل الأكاديمى – قال فيه: (أتشرف بإفادة سيادتكم أنه بعرض الكتاب المُبلغ من د. أحمد حماد رئيس قسم الرياضيات الخاص بسيادتكم على السيد الأستاذ الدكتور العميد، أشر سيادته بأن الكلية تهنئك بهذه الثقة وترحب بأن تقوم بواجباتك الدينية التى يكلفك بها قداسة البابا، وذلك إضافة إلى عملك بالكلية، كما لا تمانع فى حضورك وإلقاء محاضراتك بالزى الكهنوتى، على أن ترتدى فوقه الروب الجامعى).

وبعرض الأمر على البابا كيرلس السادس وافق مع الامتنان مهنئاً د. أديب على ثقة الجامعة فى علمه الغزير. وتمت إقامته كاهناً باسم القس مكارى (أى الطوباوى) عبد الله فضل الله على كنيسة الملاك ميخائيل بطوسون – شبرا – فى 10 يوليو 1970.انطلق القس مكاري -وقتها- بعد سيامته بيد المتنيح الأنبا مكسيموس أسقف القليوبية (في ذلك الوقت) لقضاء الأربعين يوماً في دير الشهيد مار مينا العجائبي بمريوط حيث تابعه بعض الصحفيين لإجراء حوارات مع أول أستاذ جامعي يدخل الحرم الجامعي ويحاضر بالزي الكهنوتي وقد أفردت جريدة الأهرام نصف صفحة في عددها الصادر في ٢٤ أغسطس ١٩٧٠ لهذه الواقعة النادرة. وفي أثناء “الأربعين يوماً” – التى قضاها بالدير طبقاً للتقاليد العريقة للكنيسة القبطية – صدر قرار تقليد القس مكاري عبد الله عام 1970وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي تقديراً لأبحاثه العلمية وذلك على أثر حصوله على جائزة الدولة التشجيعية فى الرياضيات عام 1968، واللذين استلمهما بعد عودته من الدير، وفور أن علم البابا كيرلس السادس بهذا الخبر السار بادر بالإتصال به وقال له حرفياً: (تعال يا حبيب أبوك وهات معاك الوسام علشان أشوفه)، فكان اللقاء بينهما أبوياً وحاراً. كما حصل على جائزة أفضل بحث عام 1995.

وفي نوفمبر ١٩٧٠ حينما توفي بطريرك جاثليق الحبشة أناب البابا كيرلس السادس وفداً لتقديم واجب العزاء نيابة عن قداسته وقد ضم الوفد كلاً من المتنيح الأنبا إسطفانوس مطران أم درمان وعطبرة والمتنيح الأنبا أغريغوريوس والقس مكاري عبدالله.

رُقى لدرجة الأستاذية عام 1973، وشغل منصب رئيس قسم الرياضيات بعلوم القاهرة عام 1976، ولمكانته العلمية العالمية عمل مُحكّماً دولياً لأقوى الدوريات الرياضية الأمريكية Mathematical Review.

عُين أستاذاً متفرغاً بقسم الرياضيات بكلية العلوم جامعة القاهرة سنة 1988، وعند إنشاء المجلس الأعلى للجامعات عُين عضواً باللجنة العلمية للرياضيات عام 1998، كما عُين عضواً باللجنة العلمية الدائمة لأكاديمية السادات سنة 1998.

مثلّ مصر فى العديد من المؤتمرات وورش العمل والمهمات العلمية للرياضيات الحديثة بالعديد من بلدان العالم، وعلى سبيل المثال: مهمة علمية بفرنسا، مهمة علمية بإيطاليا، المؤتمر الأفريقى بالسنغال، المؤتمر الأفريقى بالرباط، مؤتمر الاتحاد الدولى بـ “كارلس روها” بالمانيا الغربية، ورشة العمل للرياضيات بـ “وارسو” ببولندا مرتين. وهو يُعد من القلائل فى مجال “الدوال المُركبة فى عدة متغيرات” والتى لها العديد من التطبيقات الهامة فى مجال الهندسة الكهربية وأيضاً ميكانيكا الموائع.

مثل القمص مكاري عبد الله الكنيسة القبطية فى اجتماع مجلس الكنائس العالمي في 1971، كما سافر إلى العديد من الدول كدارس أو محاضر أو ممثلًا لمصر في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية وقبل حضور أي من هذه الفعاليات العلمية كان يصلي القداس الإلهي مع أقباط هذه البلاد، وكان أول من يقيم صلوات أسبوع البصخة في باريس أثناء إقامته فيها لمدة سنة وكان هذا بمثابة نواة لإيبارشية الأقباط الأرثوذكس هناك.

استمر الأب مكارى فى أبحاثه العلمية فى الرياضيات وهو يخدم كاهناً، فحصل في سبتمبر ١٩٧٣ على درجة الأستاذية، وفي عام ١٩٧٦ شغل منصب رئيس قسم الرياضيات لأكثر من دورة، وفي سبتمبر ١٩٨٨ عُين أستاذاً متفرغاً، وشغل منصب عضو مجلس كلية العلوم لأكثر من دورة، ومنذ عام ١٩٨٨عُين عضواً بلجنة الرياضيات بالمجلس الأعلى للجامعات.

له العديد من الأبحاث المنشورة بأكبر المجلات العالمية ويعرف على مستوي رواد الرياضيات العالميين باسم “بروفيسور فضل الله”، كما تم تكريمه بكلية العلوم – جامعة القاهرة كأحد رواد الرياضيات المصريين لإنجازاته وأبحاثه العلمية في ١٦ مارس ٢٠١٣.

رقد في الرب بشيخوخة صالحة في ٩ أبريل (شم النسيم) ٢٠١٨ بعد خدمة كهنوتية امتدت لحوالي نصف قرن وبعمر اقترب من ٩٢ عامًا.

داخل جامعة القاهرة، يحمل تلاميذ القمص المتنيح ذكريات خاصة مع أستاذهم، حيث كان يخرج من عباءته الدينية، وتتجلى صورته كأستاذ ومعلم لأجيال متعاقبة من أساتذة قسم الرياضيات بكلية العلوم. أمام حجرته وقف الدكتور سمير لطفي أستاذ الرياضيات البحتة، يسترجع عدة مواقف جمعتهما معا، يشير بيديه إلى ركن بعيد أسفل النافذة، “ستين سنة ودكتور أديب عبد الله قاعد هنا، ربانا وكبرنا على إيديه”.
ما زال عقل سمير متوقفًا عند يوم التاسع من أبريل 2018، حينما أخبروه بوفاة معلمه وأبيه و”حلّال عقده” بالكلية، منذ كان في سنوات دراسته الأولى، بينما نُصب الدكتور أديب أو مكاري عبد الله رئيسا للقسم في عام 1980: “أنا كنت ابنه وحلقة الوصل بينه وبين الكلية بعد انقطاعه عنها عام 2012، بسبب تكالب الأمراض عليه”. كما يلتقط الدكتور ناصر سويلم رئيس قسم الرياضيات بالكلية، خيط الحديث بعد إطراقة قصيرة، وقبل أن يعود لصمته من جديد قائلا: “الدكتور أديب كان يتفك بخمس دكاترة من أساتذة اليومين دول، خمسة فقط بشخصيته، قادرين على إدارة جامعة القاهرة عن بكرة أبيها!، كان حتى آخر أيامه بالجامعة حريصا على متابعتنا ونحن معيدون ومتابعة الطلبة أثناء المحاضرة، ماكانش بيقعد على مكتبه ساعتين على بعضهما”.ويضيف د. ناصر سويلم عن كيف كانوا كطلاب يتعاملون مع أستاذهم الذي يحاضرهم بزي الكهنوت: “إحنا من حبنا وتعلقنا به كأب وأستاذ ومصلح اجتماعي لشئوننا لم نعر اهتماما لمظهره أو أي مناصب أخرى تقلدها، كان يدخل المحاضرة معه نماذج لأشكال هندسية بندرسها في الكتب وعلى الورق، كل الدكاترة وقتها كانوا مهتمين بإلقاء المحاضرة شفهية كما هي ويخرجون، هو كان كل شكل هندسي مقرر علينا دراسته، يسهر على تصميمه، ويأتي ثاني يوم بيه مصمم بشكل دقيق جدا”. ويزيح الأستاذ الدكتور هاني الحسيني أستاذ الرياضيات النظارة عن وجهه، مسترجعا ذكرى السنة الأخيرة له بالكلية، وكيف احتضنه أديب حينما عاد من الخارج، ليعمل مدرسا مساعدا في مادة تحليل المركب، فيقرر حينها أديب أن يضع فيه كامل ثقته بأن جعله يُطور من نظام الامتحان الشفوي حديث العهد بالكلية، مؤكدا أنه كان يضع كل ثقته في شريحة الشباب”. وأضاف قائلاً: “د. أديب لم يدّرس مادة التحليل المركب فقط، بل تعمق في تدريس مواد الجبر الخطي، والطوبولوجي، وعلم النبات والهندسة الرياضية في كلية الهندسة جامعة القاهرة، وعلوم الزراعة في مبنى كلية الزراعة، لم يكن هناك أستاذ بعلوم القاهرة، لم يحضر محاضرة على الأقل للدكتور أديب”.

كانت تربطنى به صداقة شخصية لسببين أولهما تخصصنا فى علم الرياضيات وثانيهما تمسك كل منا ومنادتنا بأن يتم اختيار الأب البطريرك من بين طغمة الرهبان كما نصت عليه قوانين مجمع نيقية المسكونى الذى أنعقد عام 325م وكان بطله هو البطريرك السكندرى البابا أثناسيوس الرسولى. فكثيراً ما كنت أتقابل معه بكنيسة الملاك ميخائيل بطوسون ونتناقش فى هذا الأمر. وعندما أقامت جامعة القاهرة أحتفالية تكريمه فى 16 مارس 2013 كنت مرافقاً له جالساً بجواره طوال فترة احتفالية التكريم.

تاريخ الخبر: 2022-04-10 12:21:29
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 49%
الأهمية: 58%

آخر الأخبار حول العالم

أرامكو تعلن عن النتائج المالية للربع الأول من عام 2024 السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-07 12:24:19
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية