فى ذكرى رحيله.. مكونات صوت سيد مكاوى وتأثير «حارة السد» على شخصيته

سيد مكاوي ابن الحارة المصرية، وصاحب إبداعات خرجت من أصالتها وعبقرية الشخصية المصرية، فكانت ألحانه، ألحان السماء منها وإليها.

سيد مكاوي والذي غادر عالمنا في مثل هذا اليوم من العام 1997، غادر فقط بالجسد، لكن الروح وما أبدعته من ألحان شجية مازالت بيننا، نرددها ونترنم بها، سواء مع الست أم كلثوم في ألحانها لها ومنها: يا مسهرني، أنساك، وغيرها، كما قدم أوبريت "الليلة الكبيرة" من كلمات صلاح جاهين، والتي مازالت تقدم حتي الآن في كل المحافل الفنية.

يصف الروائي خيري شلبي سيد مكاوي بأنه: ابن الحارة المصرية حقيقة لا مجازًا، هو الحارة المصرية بكل زخمها، وعبلها، وحلاوة طبعها، وحسن عشرتها، ودفء مودتها، ولذع لسانها الحاد، وانفساح صدرها، وثراء قاموسها اليوم البارع في نحت المفردات والتعابير الدالة ينطبع فيها الاسم على المسمي حتى لا يصلح للمسمى بعد ذلك اسم آخر بنفس العمق والدلالة.

ويشير "شلبي" إلى أن سيد مكاوي في طفولته، قبل انتشار الحاكي باسطواناته والراديو بأثيره الدقاق، كان كل مقهي من المقاهي الشعبية، وغير الشعبية أيضًا، له مطربه الدائم، وربما أكثر من مغن، يتناوبون الغناء طوال السهرة، حيث تتوافد الزبائن من كل مكان، ليس من أبناء الحي وحده بل من جميع الأحياء، وأبناء الأحياء يجدون متعة كبيرة في التنقل بين المقاهي ليلة بعد ليلة من أجل المغني الفلاني والمغني العلاني.    

 تأثير حارة "السد" في تكوين شخصية سيد مكاوي الفنية

من حارة "السد" في أعماق حي الحنفي بالسيدة زينب كان سيد مكاوي في طفولته وصباه يرتاد هذه المقاهي ليستمع ويدخر الأنغام ويشغف بالغناء، إنه من أسرة فقيرة معدمة تعاني شظف العيش، وأمه امرأة لطيفة بنت نكتة على السليقة، خفيفة الظل، تستعين بخفة ظلها على استقطاب حب الناس وعطفهم ومودتهم، وعنها ورث ابنها سيد مكاوي خفة الظل والنكتة لكنه دون أخوته أصيب بالعمي في وقت مبكر جدًا.

والعميان لا عائد لهم سوى القرآن الكريم يلوذون به ونعم المصير على الواحد منهم أن يحفظه ويجوده ويجيد السباحة في بحر موسيقاه الهادر، الغني بالصور والمعاني والألحان السماوية.

ويلفت "شلبي" إلى: وهكذا انتمي الصبي إلى ألحان السماء لعله يقدر ذات يوم على الصعود إلى ذراها ليصبح من قبيلة أعلامها كالشيخ على محمود، والشيخ محمد رفعت، والشيخ طه الفشني، والشيخ أحمد ندا، وغيرهم ممن رفعتهم قراءة القرآن إلى أعلى مرتبة فى المكانة الاجتماعية.

علي أن الولد الشقي سيد مكاوي لم يوقفه العمى عن اللعب والشيطنة في الحارة طوال النهار، والجري عاريًا وراء  عربات الرش، والشعبطة في مؤخرات الحناطير غير عابئ بصيحات الكائدين: "الكرباج ورا ياسطي"، دم الحارة يجري في عروقه، يبث فيه حيوية غير عادية، يبعث فيه طاقة لا تنفد، يسرح وراء الباعة، وراء الأراجوز، في أعقاب صندوق الدنيا، في ذيل مزازيك الأفراح، وزفات العرائس والعرسان، ملتحفًا بمواكب ركوب الخليفة في مولد السيدة زينب، ومولد الحنفي، مولد السيدة عائشة، والسيدة نفيسة، و تنساب في أعطافه بهجة الشخاليل ورنات الكاسات ودوي الطبول، ليس ثمة من قامع يقمعه أو رادع يرده عن غيه، فالعيال في الحارة المصرية لا حاكم لهم، لا أب ولا أم، فجميع الناس آباؤهم، وكل الأمهات أمهم، وحيث يتعدد الآباء والأمهات يضمحل الرادع ولكن يزداد عدد المعلمين وتتسع الخبرات لتشكل فيما بعد رادعًا حكيمًا مسلحًا بالخبرة والتجربة.   

نشأ الصبي سيد مكاوي الذي لم يكن يتورع عن ركوب الدراجات وهو أعمي، مفطورًا على حب الحياة والفن والفكاهة، وترسخ فيه من موسيقي القرآن جانبها البهيج المؤثر، الدنيوي، فكان إذا قرأ القرآن لا يثير رهبة بقدر ما يثير الطرب، وكان لابد أن يتحول من قراءة القرآن إلى الغناء الديني.

أثر ألحان الشيخ زكريا أحمد على سيد مكاوي

ويذهب "شلبي" إلى أن: عكف الصبي سيد مكاوي على حفظ ألحان الشيخ زكريا أحمد، كتدريبات صوتية عظيمة تؤهله للغناء الديني الذي كان يصل إلى مقامات عالية تتطلب صوتًا قويًا مدربًا على السباحة بين المقامات في سلاسة ورشاقة واقتدار.

أمسي سيد مكاوي ساهرًا على لونين من الغناء كلاهما يؤدي إلي الآخر ويؤثر فيه، وكلاهما يؤثر في الناس تأثيرًا قويًا، الغناء الديني والغناء الدنيوي، ففي ليالي "الشغل" التي يدعي لإحيائها في المناسبات بأجر معلوم يغني الغناء الديني معتمدًا على تراث لا ينفد من إبداع الشيخ على محمود، والشيخ الفران، والشيخ طه الفشني، وغيرهم من مبدعي الابتهالات والتواشيح.

وفي ليالي الأنس الخاصة، التي يقيمها الأصدقاء في منازلهم لأنفسهم ولغير مناسبة يغني ألحان الشيخ زكريا أحمد، فيتوهج ويتجلي ويشنف الآذان، لا سيما وقد أوتي صوتًا إنسانيًا محركًا للشجن العميق ومؤثرًا في النفوس بنعومة.  

ويشدد "شلبي" على أن صوت سيد مكاوي أشبه بالنفق السحري، يعبره المستمع من القديم إلى الحديث، ومن الحديث إلى القديم، من الاحتراف المصقول الملتزم بالأصول المرعية، إلى الهواية المنمقة المتحررة الباحثة عن ملامح ذاتية لشخصية فنية مستقلة، من الدين إلى الحياة، من ارستقراطية النغم الرصين إلى شعبية الحارة بجميع أصواتها المزبلحة تختلط فيها الأنغام الرصينة الحريفة بنداءات الباعة وضراعة الشحاذين المحترفين بلون من الغناء البارع في التأثير واستقطاب الشعور من مقامات الوجد الصوفي الخالص الذائب في الذات الإلهية، إلى صخب الحارة وحرارة الانفعالات عند الدهماء، وبكاء الأطفال، وجعير الرجال في الأسواق، ونزق الطبلة والشخليلة في يد المسحراتي، وهدير صوت المصلين وراء الإمام، واستغاثة الفجر، واستيقاظ النهار، وقعقعة العربات الكارو، وأجراس الحناطير، وأصوات بوابير الجاز تحت صفائح المياه، ورنين الملاعق في أكواب الشاي بالحليب، وزحف الكراسي على أرصفة المقاهي، تلك هي مكونات سيد مكاوي.

تاريخ الخبر: 2022-04-21 09:21:05
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 50%
الأهمية: 67%

آخر الأخبار حول العالم

تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه “البيرييه” من الاسواق

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-30 00:25:39
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 62%

سكوري : المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-30 00:25:27
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 68%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية