«سيدة المترو».. واقعة كاشفة


فى الأسبوع الماضى، انشغل الرأى العام فى مصر بعدد كبير من القضايا التى تراوحت بين السياسى والاقتصادى والاجتماعى والإعلامى، لكن قضية «سيدة المترو» التى اعتدت على فتيات بسبب «عدم ارتدائهن ملابس مناسبة» من وجهة نظرها، حظيت باهتمام كبير، وهو اهتمام مُستحق على أى حال.

سيمكن أن نعتبر تلك الواقعة من الوقائع الكاشفة، ليس لندرتها بكل تأكيد؛ فنحن ندرك أن مثل تلك الوقائع تحدث فى مجتمعنا كل يوم، بل وعلى مدار الساعة أيضاً، ولكن لقدرتها الفائقة على تعرية الكثير من جوانب الخلل الذى يكتنف مجتمعنا فى هذه الآونة.

والحكاية ببساطة بدأت -كما يعلم الكثيرون- حينما جمعت إحدى عربات مترو الأنفاق، فى رحلة انطلقت من جنوب القاهرة، بين سيدة وبعض الطالبات اللاتى يرتدين ملابس لا تتّفق مع تصوراتها عن «الحشمة» و«ضرورة مراعاة مشاعر الشباب»، ورغبتها فى إلزامهن بارتداء ملابس تتوافق مع «الكود» الذى أرادت أن تُظهر أنها تتبناه.

وبالفعل، فقد هاجمت تلك السيدة الفتيات، واعتدت عليهن بالسب والقذف ومحاولة الضرب، وهو الأمر الذى سجلته إحداهن بكاميرا هاتفها المحمول، قبل أن تبثه على وسائط «السوشيال ميديا»، وتحول تلك الواقعة إلى قضية رأى عام.

ولأن تلك الواقعة من الوقائع الكاشفة بامتياز، فقد كشفت عن عدد من جوانب الخلل المجتمعى الذى نعانيه راهناً؛ وأول هذه الجوانب يكمن فى شيوع كبير ومُقلق لظاهرة «التنطع الدينى والأخلاقى»؛ وهى حالة مجتمعية يعتقد خلالها بعض أفراد المجتمع أنهم أعلى دينياً وأخلاقياً من آخرين، وأنهم مخولون بدعوة هؤلاء «الأدنى دينياً وأخلاقياً» إلى الصلاح، أو إجبارهم على التزام سلوك أفضل.

والتنطع هو التكلف والمغالاة فى القول أو الفعل، والمُتنطع هو من يخوض فى ما لا يعنيه، ويبالغ فى ادعاء الورع أو الصلاح أو الحكمة، فى الوقت الذى يجلد فيه الآخرين لأنهم لا يتبعون ما يعتقد فى صحته، وقد يكون المُتنطع حسن النية، مدفوعاً بحب ما يعتنقه أو يعتقد فى صوابه، وفى أحيان كثيرة قد يكون مُدعياً أو مراوغاً يتخذ من هذا الادعاء وسيلة لتحقيق مآرب أخرى كلها فى موضع الشبهة.

أما الجانب الثانى من جوانب ذلك الخلل المجتمعى فيظهر فى الطريقة التى تم استخدامها من قِبل هؤلاء الفتيات للحصول على حقهن ودفع الظلم الذى وقع عليهن؛ إذا عرفنا جميعاً ما جرى، وتحرّكت السلطات من أجل ضبط السيدة ومساءلتها قانونياً فقط بعد نشر القصة من خلال وسائل «التواصل الاجتماعى».

فلم تكن هناك آلية واضحة وفعّالة من أجل تعيين هذا التجاوز والاعتداء، ومن ثم مساءلة من ارتكبه فى هذا المرفق الحيوى، الذى يستخدمه ملايين المصريين يومياً فى تنقلاتهم، ويحدث فيه الكثير مما يستوجب ضرورة توافر آليات الرصد والمساءلة.

ويكمن الخلل الثالث فى تلك القصة المثيرة فى التفاعلات المجتمعية التى جرت بشأنها عبر أقنية «السوشيال ميديا»، فقد خصّصت وقتاً لمتابعة تعليقات بعض مستخدمى تلك الوسائط على الحادثة، والتأكد من طبيعة حساباتهم، وما إذا كانت حسابات حقيقية أم مزيفة.

وقد اتضح من خلال تلك المتابعة أن لهذه السيدة صاحبة السلوك «المتنطع» أنصاراً كثيرين، حتى إن إحدى الفتيات المجنى عليهن فى تلك الواقعة اشتكت فى تصريحات صحفية من هجوم وانتهاك للخصوصية بحقها وحق زميلتيها من قِبل متفاعلين على «السوشيال ميديا»، بزعم أنهن «مخطئات»، و«سافرات»، و«لا يحترمن الشهر الفضيل»، وأن السيدة التى اعتدت عليهن «لديها حق»، وأنها «حرة.. وبمائة رجل».

وأما الخلل الرابع فى تلك القصة فيتمثل فى نهايتها؛ إذ يبدو أن الفتيات المجنى عليهن قبلن التصالح مع السيدة التى ظهر أن لها معلومات جنائية، كما أفادت بعض الصحف، وفى تعليقها على هذا الصلح، قالت إحدى الفتيات المجنى عليهن إنها تريد غلق هذه القضية وعدم الحديث عنها تماماً، بعدما ظهر أن بعض المتفاعلين على الوسائط نشروا صورها الشخصية وصور زميلتيها فى معرض التوبيخ والإدانة.

نحن إذن بصدد أربعة من جوانب الخلل الخطيرة التى يجب أن نقف عندها ونتقصى أسباب شيوعها؛ وأول هذه الجوانب يكمن فى تعاظم ظاهرة «التنطع الدينى والأخلاقى»، التى لم تكن حادثة المترو إلا كاشفة لها، بينما سيكون بمقدورنا ملاحظة وجودها وانتشارها، بل واستفحالها فى حياتنا الاجتماعية.

وتالياً: سيظهر الخلل الخطير المتمثل فى غياب آليات الرصد والمساءلة فى الشارع ومرافق النقل، مقابل تحول «السوشيال ميديا» إلى آلية وحيدة وناجعة لكشف التجاوزات ووسيلة لمحاسبة المتجاوزين، وفى تعويلنا الكبير على تلك الوسائط وحدها لضمان الحقوق وتحقيق العدالة فى المجال العام مخاطر كثيرة، خصوصاً أنها قابلة للتزييف، وقابلة للتأجيج عبر تأطير ما يرد عبرها واختلاق سياقات مُغرضة له.

أما أخطر ما كشفت عنه تلك الواقعة فليس وجود مثل هذه السيدة وتصرفاتها الحادة فى أحد المرافق للنقل العام، ولكن أن تجد لها أنصاراً كثيرين على وسائط «السوشيال ميديا» يمجّدون ما تفعله ويرون فيه «انتصاراً للعفة والدين».

لا يجب التسامح مع مظاهر «التنطع الدينى والأخلاقى»، ولا يجدر بنا أن نعتمد فقط على «السوشيال ميديا» لكى تنصر المظلومين وتلقى الضوء على أخطاء المتجاوزين.

* نقلا عن " الوطن"

تاريخ الخبر: 2022-04-26 21:17:41
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 80%
الأهمية: 92%

آخر الأخبار حول العالم

السجن 4 سنوات لصاحبي أغنية “شر كبي أتاي”

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:26:44
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 52%

الحوار الاجتماعي.. التفاصيل الكاملة لاتفاق الحكومة والنقابات

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:27:00
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 69%

السجن 4 سنوات لصاحبي أغنية “شر كبي أتاي”

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:26:50
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 52%

الحوار الاجتماعي.. التفاصيل الكاملة لاتفاق الحكومة والنقابات

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:27:04
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 59%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية