قِبلة الموتى

لا يعرف هنا البشر، القبور كمضاجع للصغار من الموتى، لا يُفتح القبر سوى لشاب أو طاعن بالسن، أما الأطفال، الذين يموتون لأسباب لا يعرفها هؤلاء يكون مصيرهم واحد، في أحد الحوائط المبنية من الطوب اللبن التي يتجاوز عرضها المتر الواحد وربما أكثر، يلف الأب طفله المغدور بقماشة، ثم يحمل فأسه من أجل فتح رقعة في الحائط. يضع الأب الصغير في أمان بعد أن يجد له مكانًا في الحائط الرطب، ثم يعد سدادة قوامها التراب والماء والتبن، يغرف منها بيديه ما استطاع ويغلق عليه مأمنه الجديد.

تسرد جدتي رقية تفاصيل كل حياتها الممتدة وكأنها رواية، تستغرق في تفاصيلها وكأنه ذاكرتها صندوق لم يخذلها أبدًا تستحضر منه ما تشاء، حكت لي لعلها تؤنسني في ليلة شتوية طويلة أن الحائط المواجه لغرفتها القديمة يضم بين طياته ٣ من أبنائها الصغار، توفوا جميعًا فور ولادتهم، تملكني الخوف والحزن، وتسارعت دقات قلبي، لكن جدتي رقية كانت تحكي دون خوف بصوت خافت وتشير إلى الحائط بسبابتها العجوز: "هنا ٣ من ولادي.. صبي وبنتين الله يرحمهم"، كانت كمن يمتلك المعرفة والحكمة معًا.

كنت لسنوات طويلة أسأل نفسي، لماذا ترفض جدتي رقية أن تتخلى عن منزلها العتيق وتستبدله بآخر، أو حتى تستبدل الطين المسقوف بأعواد خشبية قديمة بمنزل من الطوب الأحمر وأسياخ الحديد.  في قريتنا مع بداية الثمانينات كرس الرجال الذين عملوا لسنوات في الخليج "تحويشة العمر" من أجل بناء بيوتًا جديدة، أهالوا التراب على القديم وحل بدلًا  منها بيوت حديثة، كان للطوب الأحمر مفعول السحر، كسا أغلب القرية لكنها صارت صماء فارغة، ثمة شيء ما تغير، بينما تمسكت جدتي بمنزلها القديم الذي ورثته عن جدي، وورثه جدي عن أبيه. تقول جدتي أن عمر بيتها العتيق يتجاوز 200 عام، بينما كانت هي قد شارفت على الثمانين، حلت فيه صغيرة منذ أن تزوجت جدي طفلة لا يتجاوز عمرها 12 عامًا، لكني لم أسألها يومًا عن سر تمسكها بالمنزل.

في تلك الليلة عندما حللت ضيفة على جدتي، كنت شابة على أعتاب الثامنة عشرة، ولم تعد حكايات جدتي المألوفة تكفيني، تخلت هي الأخرى في تلك الليلة عن حكاياتها التقليدية التي كانت تهديني إياها في طفولتي، وقصت لي الأكثر رعبًا، لم أكن أتخيل أن ذلك الحائط الذي طالما استخدمته وبنات أعمامي في لعبة "الاستغماية" مقبرة لثلاثة من الأطفال.. عُقد لساني بعد أن قصت لي جدتي حكايتها، كانت جدتي رقية قوية صلبة، ربما أنهكتها السنوات قليلًا لكنها كانت ذات هيبة يرتعد منها أبي وأعمامي حتى بعد أن صاروا رجالًا.

همست في حيرة يمتزجها خوف طفولي: "ليه يا ستي ترضي تعيشي مع ميتين؟". ابتسمت ابتسامة الواثق وردت بحزم: "دول مش ميتين يا بنتي دول بركة البيت وشقا عمري اللي مكملش"، تخبرني جدتي أن المقابر كانت حكرًا على الشباب والعجائز، ينطلق رجال العائلة أفواجًا لإيصال ميتهم إلى "الترب"، بينما يتشحن النساء بالسواد، يحظر عليهن الطبخ لمدة أربعين يومًا كطقس من طقوس الحداد، ويحظر عليهن الزينة إلى الأبد، إذا كان الميت زوجا أو شابا، بينما لو كان المغدور أبًا أو أمًا فتكتفي النساء بالحداد لمدة عام يتخلله زيارة إلى "الترب" في العيدين الكبير والصغير، أما الأطفال الذين يرحلون صغارًا فتكتفي الأسرة بأن تجعل من حوائطها الضخمة مرسى أبدي لهم. 

ترى جدتي أن وجود صغارها الراحلين بجوارها منحها طمأنينة وعظة وعبرة لسنوات طويلة، كانت عندما تضيق بها الدنيا، تضع يديها على الحائط كمن يبحث عن كنز، أو مكان مقدس تطلب منه المدد والعون، لم أكن أفهم لماذا تفعل جدتي ذلك، حتى حكت لي قصة الحائط، أما البيت فقد أدركت أخيرًا لماذا أرادت أن يظل كما هو، وكأنه لم يمسسه الزمن.

هدأت مع حكي جدتي الذي غلبه طمأنينة ورضا، وتحولت برودة الجو التي كانت تسري في جسدي إلى دفء لا أعرف مصدره. غفت جدتي، بينما ظلت عيناي مشدوهتان أراقب الحائط في صمت. تسلل الليل في بطء حتى بدت خيوط الصباح على استحياء، همت ستي رقية من نومها، بينما تظاهرت أنا بالنوم أراقبها، أحضرت الإبريق وبدأت في الوضوء كعادتها، وضعت سجادتها الصغيرة على الأرض، في اتجاه الحائط، هممت لأرشدها "دي مش القبلة يا ستي"، ثم تريثت، لعلها كانت تؤدي صلاة خاصة لهؤلاء.

تاريخ الخبر: 2022-05-18 18:21:17
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 60%

آخر الأخبار حول العالم

الشعباني: "سنواجه فريقا متمرسا في نهائي الكونفدرالية"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:27:20
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 57%

الشعباني: "سنواجه فريقا متمرسا في نهائي الكونفدرالية"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:27:21
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 60%

رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:26:13
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 63%

سانشيز يتراجع عن قرار الاستقالة ويقرر البقاء في منصبه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:26:31
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 53%

سانشيز يتراجع عن قرار الاستقالة ويقرر البقاء في منصبه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:26:37
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 50%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية