متى سيسقط الانقلاب؟ ... «9»


مهدي رابح

استعرضنا في المقال السابق الارتياب المبرر تجاه مشروعات بعض القوي السياسية رغم وقوفها اليوم في الصف المقاوم للانقلاب, وسبب التشكيك هنا لا يرجع فقط لكونها , كمشروعات سياسية عقائدية Political Doctrines, لم تفلح عمليا في تأسيس دولة ذات نظام حكم ديموقراطي طوال التاريخ الانساني المدوّن بل كذلك بسبب انحراف مركزي قاتل في الفكر السياسي الذي تتبناه بحد ذاته, وهو انحراف متوازي يتطابق جوهريا بين ضفتي اقصي يمين ويسار المشهد السياسي لافتراض كليهما امتلاك الحقيقة الاحادية المطلقة المُستقاة من مصادر قطعية واحتكار الفضيلة, وفي الاعتقاد الراسخ بوجوب المنتمين اليهما احداث تغييرات اجتماعية جذرية بالقوة لصالح الاخرين, أي غير الواعين/المؤمنين بالمشروع, وهو ما يتطلب فرضها عليهم من قمة هيكل الدولة نزولا وما يبرر السعي للاستيلاء علي السلطة بكل الوسائل عبر عمل ثوري (مدعوم بانقلاب عسكري في كثير من الاحيان) تقوده طليعة (ثوريين/مجاهدين) من الملهمين لديها القدرة علي استقراء التاريخ والقيام بالعمل اللازم لفرض تغيير مفاجئ وكلي لمجراه (اشبه بالمعجزة ام هو معجزة !), فالغاية النبيلة المتخيلة تبرر الوسيلة والكلفة مهما كانت ومهما بلغت, ففي كلا الفكرين هنالك دافع قوي يتمثل في الايمان العميق بحتمية انتصار المشروع (المقدس وشبه المقدس) والمعزّز بتفسيرات لنصوص دينية او فلسفية تتضمن وعدا بسيادته علي العالم وتحقيق الخلاص, الالهي في الاول والشيوعي في الاخير.

فالفكر السياسي الراديكالي السلطوي بكل مدارسه هو قيم ومعتقدات جامدة لا يشوبها شك, ذات شحنة صراعيّة، يؤدّي إذا ما تمّ الالتزام بها في منطقها الكلّي إلى عدم قدرة بعض الحاملين لها على العيش بسلام مع الآخرين/المختلفين دون اخضاعهم او اقصائهم بالكامل, ويؤدي بالضرورة الي ثنائية النظرة التبسيطية لعالمنا المعقد المتشابك ذو الترليون لونا وتحويله الي ابيض واسود, خير كامل مقابل شر كامل, مؤمن مقابل كافر , ثوري مقابل خائن, اخلاقي مقابل لا اخلاقي.

في ظل هيمنة الفراغ الموضوعي علي العقل الجمعي الناتج عن غياب القدرة والادوات الملائمة لتناول القضايا الكبرى المتشابكة والمتعلقة بعملية التحول المدني الديموقراطي والقدرة والمنصات الكافية لادارة حوارات سليمة وهادئة حولها, وجاذبية الخطاب المتطرف التبسيطي الحامل للتصور الثنائي للعالم سابق الذّكر, والذي ظلّت تصدّره هذه القوي في الفضاء العام وما توفره لمتلقيها من احساس زائف بالتفوق الاخلاقي يُرضي في المقام الاول الذات الباحثة بطبيعتها عن التميز والتفوق علي الاخر, او ما اسماه سيغموند فرويد نرجسية الاختلافات الصغيرة, طغي خطاب التخوين والمزايدة وتم قياس كل فعل يقوم به الاخر/المختلف بدافع تقديراته السياسية حتى وان كانت معتمدة على نهج عقلاني ياخذ في الحسبان المعطيات الواقعية القاسية كما هي، لتحقيق التحول المدني الديموقراطي بالمقياس الثنائي الضيق ونعته بكل اوصاف الاثم العظيم الذي لا يمكن التطهّر منه أو تجاوزه الا عبر عملية مازوشية طويلة لجلد الذات اشبه بالاستتابة او بالأحرى بالانتحار السياسي علي طريقة الهاراكيري Harakiri التي اشتهرت بها قديما طبقة المحاربين الساموراي في اليابان.

هذا التاسيس كان ضروريا قبل تناول احد عناصر (الجبهة المقاومة للانقلاب) الا وهي لجان المقاومة, وهي احدي ابداعات الحراك الثوري الساعي للتحول المدني الديموقراطي واهم تجليات تصاعده المجيد غير المسبوق وانتشاره بالفعل الواعي بضرورة تغيير البني الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتوارثة والتي اوردتنا موارد الهلاك.
كان أول ظهور لهذا الكيان عام 2013م عقب مجزرة سبتمبر وقاد هذا العمل بصورة اساسية الأحزاب السياسية المنضوية في تحالف الإجماع الوطني حينها قبل خروج بعضها منه لتكوين تحالف نداء السودان في 2014م ، بهدف البناء القاعدي للحراك الثوري وصولا الي كتلة تاريخية حرجة في مقدورها تغيير موازين القوي واسقاط نظام الانقاذ لكنها لم تلقى نجاحا كبيرا او تجاوبا من الجمهور العريض واستمرت المقاومة بقيادة محدودة غالبها ناشطين سياسيين منتمين لاحزاب المعارضة الرئيسية، اطلق عليها البعض تهكما (مظاهرات الالف نفر)، وبذا ماتت الفكرة تقريباً الي أن تم احيائها من قبل قوي إعلان الحرية والتغيير في خضم أحداث ثورة ديسمبر تمهيدا لحشد اكبر قدر ممكن من الجماهير للمشاركة في موكب السادس من أبريل وفرض اعتصام امام بوابات القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة.
تطورت هذه الكيانات خلال اعتصام القيادة ونشطت بصورة كبيرة تحت قيادة لجنة الميدان التابعة لتحالف قوي الحرية والتغيير لتساهم بشكل فعال في تنظيم الفعاليات وتقديم الخدمات المختلفة للمعتصمين لكن برزت أهميتها بشكل اكبر وتصدرت المشهد دون أدني شك عقب مجزرة التاسع والعشرين من رمضان الموافق الثالث من يونيو ٢٠١٩م وقامت بالدور الرئيسي في حماية الأحياء السكنية من بطش المجرمين القتلة وفي التعبئة الجماهيرية التي ادت لخروج الملايين في حواضر السودان كافة في الثلاثين من نفس الشهر وما تلاه من بداية حقيقية للفترة الانتقالية التي مثلت الوثيقة الدستورية اطارها القانوني.
بحكم هويتها الجغرافية وبنيتها الأفقية وانضواء العديد من المواطنات والمواطنين تحت لواءها دون انتماء محدد او خبرة سابقة في العمل السياسي، أصبحت عديد اللجان تربة خصبة اغرت عديد القوي لاستغلال طاقات شبابها الهائلة وشجاعتهم المتناهية وحماسهم المتفجّر لخدمة مشروعاتها المختلفة وأصبح من اليسير تحميلها بالخطاب المتطرف البسيط بدلا من الخطاب السياسي الواعي المعقّد بل نجحت قوي الردة ممثلة في المخابرات والأمن في التغلغل في بعضها بأستخدام ذات الخطاب الثنائي لتقويض الفترة الانتقالية و التشكيك في نزاهة المدنيين في السلطة وقدرتهم على إدارة الدولة بهدف اضعاف الصف المدني وتغيير موازين القوي تمهيدا لفرض واقع جديد/قديم بالقوة الجبرية وهو ما نجحت فيه جزئيا للأسف الشديد وما ظهر بوضوح في البيان الأول للجنرال البرهان والذي كان يستند على مفهوم مركزي يتمثل في عدم أهلية السياسيين المدنيين لحكم البلاد ووصاية القوات المسلحة عليها واعتمادها في عملية التصحيح المزعومة على شباب الثورة وشباب لجان المقاومة الذين وجه لهم خطابه بصورة اساسية.
بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر استعادت لجان المقاومة كامل عنفوانها وتصدت لعملية ادارة المواكب و التعبئة لها وقذم عشرات من أعضائها ارواحهم مستبسلين في مواجهة آلة القتل الانقلابية لكن بعضا منها ، وبالتحديد في العاصمة القومية الخرطوم تبنت الخطاب المعادي للاحزاب السياسية و تبنت التصورات الاحادية للحزب الشيوعي صراحة والذي بدوره حاول تخطي كل المشهد السياسي وتصدره اعتمادا على تصوره للجان اشبه بلجان السوفيتات عام 2017م للانفراد بالسلطة استباقاً لسقوط الانقلاب المشوه لتحقيق مشروع الخلاص النهائي الذي تطرقنا اليه انفاً.
لكن من حسن الطالع ان غالبية اللجان، خصوصا في الأقاليم خارج الخرطوم، بعيدة عن هذا الصراع الأيديولوجي التجريدي العقيم واقرب لقضايا الناس الملموسة وربما بحكم طبيعة العلاقات الاجتماعية الاقوى اكثر تصالحا مع الأحزاب السياسية بل يشكل غالبية بعضها أعضاء ذوو انتماءات سياسية صريحة، وهو ما يعطي الأمل في القدرة على ردم هوة عدم الثقة غير المبررة اطلاقا بينها واحزاب سياسية لم يغب عنها الهدف الأسمى المنشود للحظة بل ظل بعضها ماسكا على جمر القضية منذ فجر الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م ودفع لقاء ذلك اثماناً باهظة، ويفتح الطريق امام التأسيس لمقاربة تنسيقية بينها تسمح لمئات آلاف السودانيات و السودانيين الانخراط في العمل العام والمشاركة في ادارة عمليات الانتقال المختلفة القادمة بروح جماعية وهدف موحد، لكن ذلك يتطلب بالمقابل ، وعلى عكس النهج الذي اتخذ في الفترة الانتقالية السابقة انفتاح الأحزاب السياسية علي العمل الجماهيري بصورة اكبر والتفاعل مع كل الكيانات وعلى راسها لجان المقاومة والأهم من ذلك توسيع هياكل الحكم بالتركيز علي مؤسسات الرقابة الشعبية المحلية حتى يتم استيعاب هذه الطاقات الهائلة وتوجيهها لتحقيق الهدف الأسمى اي المشروع الوطني المنشود.
َويبقي العمل علي دعم هذه اللجان وبناءها على أسس ديموقراطية سليمة وبناء المؤسسات الديموقراطية المشابهة كالنقابات المهنية و الاتحادات الفئوية والجمعيات التعاونية ولجان الأحياء وحتى الأحزاب السياسية هو الضمان الوحيد للوصول إلى نظام حكم ديموقراطي مستدام و الخروج من دائرة الفشل المزمن التي ظللنا نرواح مكاننا في مركزها الدامي زهاء ستة وستين عاما.

يتبع..

تاريخ الخبر: 2022-05-19 18:22:39
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 57%

آخر الأخبار حول العالم

هكذا كانت ردة فعل عائلة الدكتور التازي بعد النطق بالحكم

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:26:08
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 57%

هكذا كانت ردة فعل عائلة الدكتور التازي بعد النطق بالحكم

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:26:03
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 68%

فرحة عارمة لابن الطبيب التازي بعد الإعلان عن مغادرة والده للسجن

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:25:52
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 61%

فرحة عارمة لابن الطبيب التازي بعد الإعلان عن مغادرة والده للسجن

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 03:26:00
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 62%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية