الشاعر والسلطان الجائر
الشاعر والسلطان الجائر
هي قمة من قمم الشعر المعاصر وإحدي المطولات في الشعر المهجري والمطولات في هذا الشعر كثيرة بعضها مطبوع في كتب مستقلة مثل (المواكب) لجبران و(عبقر) لشفيق المعلوف و(علي بساط الريح) لفوزي المعلوف و(معلقة الأرز) لنعمة فازان وبعضها مطبوع بين القصائد الأخري في دواوين الشعر مثل (علي طريق إرم) لنسيب عريضة و(أحلام الراعي) لفرحات (الربيع الأخير) للشاعر القروي و(الطلاسم) والحكاية الأزلية- و(الشاعر والسلطان الجائر) لأبي ماضي وقصائد أخري غير قليلة لشعراء آخرين مثل ندرة حداد وسعيد اليازجي وشكرالله الجر وغيرهم.
ومطولة (الشاعر السلطان الجائر) التي نقدمها اليوم كنموذج للشعر المهجري الطويل النفس والمتدفق بالجمال والحيوية والمعاني الكبيرة في آن واحد هي إحدي مطولات أمير شعراء العرب في المهجر (إيليا أبوماضي) وهي قصيدة رائعة غنية بالشعور الإنساني كما تنحاز بجمال الصور وعذوبة الأنغام منشورة في ديوانه (الخمائل) مع مطولته (الحكاية الأزلية) وقد طال فيهما نفسه الشعري وتنوعت القوافي. والقصيدة كما سنري زاخرة بالتأمل الفلسفي والاجتماعي كما نعلم عن شعر (إيليا أبوماضي) وأنه تسيطر عليه الصبغة التأملية وتكاد تكون ملهمته الكبري ولا عجب فأعضاء (الرابطة العلمية) الأربعة البارزون -وهم جبران ونعيمة وأبوماضي وعريضة- يشتركون في أن الميزة الكبري لأدبهم هي أنه مستمد من صميم الحياة والنفس البشرية فطول تأملهم في خفايا الحياة وفي منازع النفس البشرية جعلهم ينتجون إنتاجهم الأدبي السخي المثقل بالعناقيد النواضج والثمار الزواهي.
ولقد عالج أبوماضي موضوعه في مطولة (الشاعر والسلطان الجائر) علي طريقته الشعرية الفذة -طريقة الحوار- التي برع فيها وأبدع والتي من أبرز مزاياها القدرة الفائقة علي تصوير مختلف الأحاسيس الإنسانية بحيث تنقلها إلي القارئ بيسر وسهولة وقد جري الحوار بين (الشاعر والسلطان) حوار تقرؤه فيخيل إليك أنك تشهد رواية علي مسرح تسمع فيها أقوال الممثلين في فكرة شاملة خلاقة تهندس بناء القصيدة وتنطلق في عوالم الفن وها هوذا يبدأ الحوار:
أمر السلطان بالشاعر يوما فأتاه
قال: صف جاهي ففي
وصفك لي للشعر جاه
إن لي القصر الذي
لا تبلغ الطير ذراه
ولي الروض الذي
يعبق بالمسلك ثراه
ولي الجيش الذي
ترشح بالموت ظباه
ولي الغابات والشم
الرواسي والمياه
ولي الناس وبؤس
الناس مني والرفاه
إن هذا الكون ملكي
أنا في الكون إله
ضحك الشاعر مما
سمعته أذناه
وتمني أن يداجي
فعصته شفتاه
قال لي: إني لا أري
الأمر كما أنت تراه
إن ملكي قد طوي
ملكك عني ومحاوه
وهنا يتصدي الشاعر لتبيان اختلاف وجهة نظره عما يري السلطان في امتلاك ما ادعاه هذا الكائن المغرور فيستوعب خياله جميع المراثي والملابسات في تصويره تباين الوجهين, ولم ينس ما في الزوايا من طيوف وظلال ولقد نظم في كل ما ذكره السلطان في مملكته مقطوعة تقوم دليلا صادقا علي أن (إيليا أباماضي) يمثل الشاعر الحق بكل معانيه فهو شاعر في روحه في أفكاره وعواطفه وخيالاته وشاعر في أسلوبه: في ألفاظه وتعابيره وصوره وسأجتزي لضيق المجال من بعضها ببيتين يوضحان المقابلة بين خلود الشاعر وفناء السلطان الجائر فهو يحدثنا عن القصر قائلا:
القصر ينبئ عن مهارة شاعر
لبق ويخبره بعده عنكا
أنا من حواه بعينه وبلبه
ولئن حواك وحزنه صكا
ثم ينتقل في شعر ملون بأجمل الألوان واصفاها ليحدثنا عن الجيش فيقول:
والجيش معقود لواؤك فوقه
مادمت تكسوه وتطعمه
أتراه سار إلي الوغي متهللا
لولا الذي الشعراء تنظمه
وفي عمق إحساسه بالطبيعة وحيوية شعره يجيبه عن البحر بقوله:
والبحر قد ظفرت يداك بدره
وحصاه لكن هل ملكت هديره؟
للشاعر المفتون يخلق لاهيا
من موجه حورا ويعشق حوره
وأخيرا يحدثنا في شعر دافق بالسمو والغني الروحي -عن الجبل الأشم فيقول:
ومررت بالجبل الأشم فما زوي
عني محاسنه ولست أميرا
ومررت أنت فما رأيت صخوره
ضحكت ولا رقصت لديك حبورا
وأشهد أن هذا الشاعر الشامخ قد أبرز في هذه المقطعات التي أوجزتها كنوزا أدبية غنية بالصدق والجمال هي من الحياة وإلي الحياة وهنا سر قوتها وها هوذا ينساب من هذا الحوار إلي قوله:
فاحتدم السلطان أي احتدام
ولاح حب البطش في مقلتيه
وصاح بالجلاد هات الحسام
فأسرع الجلاد يسعي إليه
فقال دحرج رأس هذا الغلام
فرأسه عبء علي منكبيه
فما كان من الجلاد إلا أن انتضي سيفه ثم أطار رأس الفتي عن مكنبيه فسقط الشاعر يخدش الأرض كأنما يبحث عن رأسه وهنا سخر السلطان من سجدة الشاعر وهو يهمس في نفسه (لقد أمسي محروما من جنته) وهكذا هلك الشاعر كالمذنب الأثيم فما غص لموته طائر في روضه ولا انطفأ كوكب في سمائه ولا جزع الشجر عليه ولا اكتأب الجدول الطروب من أجله بل
وكوفئ عن قتله القاتل
بمال جزيل وخد أسيل
فقال له خلقه السافل
ألا ليت لي كل يوم قتيل
وفي ليلة ليلاء يتسلل الموت في القصر بين حراب الجند وأسياف الحراس إلي سرير الملك العظيم أمين البر والبحر فيفارق الدنيا غير آسفة عليه فهي لاتزال في أفراحها وأغاريدها لم يمد الجبل حزنا عليه ولا زوت أغصان الروض من أجله كل هذه الأفكار المجنحة نظمها شاعرنا في مقطوعة تتميز بخصائصها القوية الغنية وروحها الحساسة السامية وختمها بقوله:
في حومة الموت وظل البلي
قد التقي السلطان والشاعر
هذا بلا مجد وهذا بلا
ذل فلا باغ ولا ثائر
عانقت الأسمال تلك الحلي
واصطحت المقهور والقاهر
وهكذا حمل شاعرنا (إيليا أبوماضي) روحه المجنحة إلي آفاق بعيدة لتوحي إلي تأملاته خواطر عميقة وتتسع كلماته لمضامين الحياة الاجتماعية والفكرية دون أن نخرج عن إطار البساطة والوضوح في أسلوب مشرق ومغر كروحه الشاعرة يؤكد أن الشاعر الحق هو رسول يعلم الحياة وتظهر في شعره صور الحياة والمجتمع الإنساني زاخرة بالعواطف جياشة بالحيوية دافقة بالجمال والرؤي الساحرة وأن الشعر الحق هو رسالة الحياة الكبري يقرؤه الناس علي اختلاف مشاربهم وأذواقهم وطبقاتهم وعلي تباعد أوطانهم وأقوامهم ويشعر كل منهم بأنه يري فيه صورة نفسه وصورة عواطفه وتعبيرا عن آماله ونوازعه ومما يزود شعر (أبي ماضي) بعناصر الحيوية والتأثير هو أنه ينبع من قلبه وأنه يعبر عن عاطفة أو فكرة يشعر بها كل إنسان ويجد في قصائده صدي يشعر هو به أو يتألم منه أو يتمناه.
ولعل خير ما ينهض دليلا علي ما وصفنا به شعر أبي ماضي ما ختم هو به مطولته التي نظمها في (تسعة وسبعين بيتا) من خوالد الخرائد فقال:
وتوالت الأجيال تطرد
جيل يغيب وآخر يفد
أخنت علي القصر المنيف فلا
الجدران قائمة ولا عمد
ومشت علي الجيش الكثيف فلا
خيل مسومة ولا زرد
وطوت ملوكا ما لهم عدد
فكأنهم في الأرض ما وجدوا
والشاعر المقتول باقية
أقواله فكأنها الأبد