الذاتوية والأنا في الحراك الثوري السوداني: ماذا يعني مجلس أعلى للقوات المسلحة السودانية؟


الذاتوية والأنا في الحراك الثوري السوداني: ماذا يعني مجلس أعلى للقوات المسلحة السودانية؟

عبد الخالق شايب

ما زال يعلو صوت الأنا والأحقية في التعبير عن تطلعات الشعب السوداني في حراك الثورة السودانية حتى خرج علينا البرهان بخطابه بالأمس معلناً عدم مشاركة المؤسسة العسكرية في الحوار الذي تديره الآلية الثلاثية، وأنه سيتم حل مجلس السيادة وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة من الجيش والدعم السريع، ذلك النبت الشيطاني الذي ابتلانا به الله، وقبلنا رما به القوات المسلحة السودانية، علها تُفيق من سكتتها قبل فوات الأوان.

إذا استطعنا فهم التراجيديا السياسية التي نشهدها هذه الأيام ربما يسهل علينا إدراك أن خطوة البرهان ليست الا محاولة بائسة للقفز في الظلام في أحسن حالاتها، و”حلاوة روح” في منازعة أخيرة للموت في أشد السيناريوهات قتامة. بالتأكيد الخطوة سوف تربك المشهد المأزوم أساساً وقد تطيل أمد الانقلاب الذي يطمح عَرَّابُوه من خلالها الى خلق موقف تفاوضي جديد. إذا ماذا يعني مجلس أعلى للقوات المسلحة السودانية من الجيش والدعم السريع؟

إن عدم مشاركة المؤسسة العسكرية في حوار الآلية الثلاثية هدفه دفع القوى المدنية والثورية الصادقة إلى الحوار مع كومبارس الانقلابيين

لم يشكل في تاريخ السودان مجلس أعلى للقوات المسلحة الا في 17 نوفمبر 1958م واستمر حتى 1964م. لم يعرف السودان بعد ذلك الا مجالس لقيادة الثورة (مايو والإنقاذ) أو مجالس عسكرية انتقالية (مجلس سوار الذهب في 1985م والبرهان في 2019م). ان تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة السودانية من الجيش والدعم السريع هو دون شك استمرار للانقلاب العسكري تحت مسمي مختلف. من الناحية السياسية، فرض مجلس أعلى للقوات المسلحة السودانية يعني أن الرجوع لترتيبات الوثيقة الدستورية (بحسب رغبة الانقلابيين) غير ممكن ولن يكون هناك شراكة مدنية عسكرية من أي نوع وانما درجة أعلى من السلطوية الأبوية تُمارس من خلال الوصاية على السودانيين. البرهان أيضا يحاول أن يقطع الطريق أمام أي محاولة انقلاب من داخل الجيش للاستيلاء على السلطة بالتأكيد على أن القوات المسلحة في ظاهر الأمر تدعم الانتقال المدني وتنأى بنفسها عن الأزمة السياسية إذا اتفق السياسيين، الذين هم لعمري تفرَّقوا شيعًا وأحزابًا.

إن عدم مشاركة المؤسسة العسكرية في الحوار الذي تديره الآلية الثلاثية ودعوتها للقوى المدنية للانخراط في حوار القصد منه دفع القوى المدنية والثورية الصادقة باختلاف مللها ونحلها الى الحوار مع كومبارس الانقلابيين من حركات الكفاح المسلح وحاضنة المؤسسة العسكرية الجُدد، الأمر الذي يعني أن تتساوى كفة من هما على طَرَفي نقيض، الباغي والمظلوم. ذلك حوار لن يفضي بأي حال إلى استعادة مسـار التحول والانتقال الديمقراطـي في السودان.

من الناحية القانونية، ان أي مجلس أعلى للقوات المسلحة لا بد أن يتكون من قادة القوات المسلحة السودانية (البرية، الجوية، والبحرية، وأي قوات يتم دمجها في القوات المسلحة). في الظروف الطبيعية فإن رئيس الدولة هو الذي يرأس هذا المجلس بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولأن السودان لا يعيش تلك الظروف فسوف يترأس البرهان ذلك المجلس بعد أن يتم ادخال الدعم السريع ومساواته مع الجيش السوداني وقواته المختلفة، ليدق البرهان بذلك المسمار الأخير في نعش القوات المسلحة السودانية.

المجلس الأعلى للقوات المسلحة حال تشكيلة سوف يعمَد الى إدارة شؤون البلاد والعباد ولن ينصرف فقط الى تولى القيادة العليا للقوات النظامية

المحصلة النهائية أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة حال تشكيلة سوف يعمَد الى إدارة شؤون البلاد والعباد ولن ينصرف فقط الى تولى القيادة العليا للقوات النظامية أو يكون مسؤولا عن مهام الأمن والدفاع وما يتعلق بها من مسؤوليات كما يدعي البرهان، ناهيك عن أنه لن يكون هناك أي تمثيل مدني من أي نوع لأن طبيعة تلك المجالس لا تتيح ذلك بعكس لو تم تشكيل مجلس أمن ودفاع مشترك.

إذا أردنا أن نسقط الانقلاب فلا بد أن يعي كل منا بأن هناك دور منوط به وتكليف واجب عليه بهدف القضاء على هذا الانقلاب واستعادة الدولة ومؤسساتها ومواردها المختطفة. فاذا كان العقل هو مناط التكليف، فغيبة العقل ترفع التكليف، ونقصانه مثل السفه يخل بمؤهلات التكليف. فما بين جموع من السودانيين يسوقهم العقل الجمعي متدثراً في المواكب بشعارات “الجذريين القدامى” وبين عقل فردي سوداني أيضا يحاول أن يؤثر في الآخرين، ويتأثر بهم، ويسير في ذات المواكب حالما بالتغيير (وان كان بأدوات مختلفة) نشب صراع مستميت لإقصاء الآخر والذود عن حِيَاضِ الأنا.  ان ثوب العفاف الوطني يجب أن يسع الجميع إذا صدقت النية وحسن العمل. فالسودان بهذا الفهم للسودانيين، فعليه لا يمتلك كائن من كان المشروع الوطني الشامل في سودان ما بعد الانقلاب المتشرذم لأُمَّة صارت ضعيفة مستباحة دَبَّ فيها الخوار، وهي مكلومة مُنكفِئة على ذاتها من جراء التشاكس السياسي الصِبْيَانِي. ان احتكار مفردات التغيير وأدواته من جهة، واختزال الانتقال الديمقراطي في مخيلة “الجذريين القدامى” من جهة أخرى، ربما هو رغبة جامحة في السقوط – مع سبق الاصرار – نحو الهاوية وتجسيد عملي لمتلازمة الأنا الثوري، التي ستوردنا موارد الهلاك وستُفضي حتماً الى القضاء على ما تبقى من نسيجنا الاجتماعي المهترئ أصلاً.

لا بد من الاعتراف بأنه لم يتسن للسودانيين حتى الآن وضع وعاء جامع يمكن لنا جميعا المساهمة من خلاله في مشروع الانتقال الديمقراطي

لا بد من الاعتراف بأنه لم يتسن للسودانيين حتى الآن وضع وعاء جامع يمكن لنا جميعا المساهمة من خلاله في مشروع الانتقال الديمقراطي على الرغم من عثراته المتكررة منذ الاستقلال. لقد أخفقنا بوعي (ودون وعي منا) في إيجاد حد أدنى من نقاط الالتقاء وتعريف آليات عملية لخدمة أهداف الثورة بما يستوعب الواقع الجديد بعد الانقلاب وتداعيات ذلك على المكونات المدنية والاجتماعية المختلفة في سودان ما قبل الانقلاب. وان كان من الضروري فهم إخفاقات تجربة الانتقال القصيرة نسبيا انتهاءً بالانقلاب العسكري صبيحة 25 أكتوبر 2021م وقراءتها في سياقها الصحيح، الا أننا نسينا أن ذلك هو درس للتاريخ لم تكن الاعتقالات ولا القتل الممنهج لتتيح لنا فرصة الوقوف المتأنّي مع أنفسنا لدراسة التجربة ونقدها بهدف تقويمها، ناهيك عن نصب المشانق لأبطالها المغدورين. فقد انشغلنا بتمحيص المقاصد البعضية على حساب المقاصد الكلية في وقت كنا فيه أحوج ما يكون للتضحية بالجزئي في مقابل الكلي، ولتغليب المصلحة العامة التي تعود على عموم الأمة على المصلحة الخاصة التي تعود على بعض الأفراد.

مما لا شك فيه أن هناك توافق غير معلن حول القضايا الكلية ورغبة حقيقة لتوحيد جهود القوى على الأرض لخلق أرضية مشتركة هدفها النهائي هو اسقاط الانقلاب، لكن كما يقول المثل الإنجليزي: الشيطان يكمن في التفاصيل. كيفية، وآليات العمل المطلوبة، وترتيبها لإجهاض الانقلاب كلها مسائل مختلف عليها بشكل يدعو للأسى، ليس من الناحية القانونية الدستورية فحسب، ولكن من حيث التقديرات السياسية وفق فهم كل مجموعة على حِدَة (بما فيها الأحزاب السياسية).

إن وحدة كل القوى الثورية الرافضة للانقلاب العسكري هو فرض عين وواجب على كل سوداني غيور

إن وحدة كل القوى الثورية الرافضة للانقلاب العسكري هو فرض عين وواجب على كل سوداني غيور، وبالتالي ان أي جهود وطنية يجب تشجيعها وعدم تخوينها أو اغتيال القائمين عليها معنويا ونبش ضميرها الوطني، وان كان من حق الجميع مناقشتها والاختلاف معها وتصويبها.  وبالمقابل، فإن أي مبادرات فكرية تسعى لرسم ملامح وخطوط عملية لخلق آليات للانتقال والتغيير يجب دراستها واستيعابها بعيدا من الغيرة المهنية والذاتوية. ذلك يستدعي تكامل للأدوار ويتطلب افراد مساحة آمنة من الثقة لإحكام هذا التكامل وصولا به لمحطته الأخيرة المتمثلة في استعادة المسار الديمقراطي، ومن ثم الصبر عليه. في نهاية الأمر، نحن لسنا أكثر من مجتهدين، قد نخطئ وقد نصيب، وليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل وأدركه.

5 يوليو 2022م

تاريخ الخبر: 2022-07-06 12:22:33
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 46%
الأهمية: 68%

آخر الأخبار حول العالم

وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 00:26:09
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 58%

وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 00:26:04
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 55%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية