هل النكتة مصدر تاريخى؟


«الضحك زفير والبكاء شهيق» ملاحظة طبية عابرة ولكنها ذات دلالة، فالزفير هو تنفيس وكذلك الضحك، أما البكاء فهو احتياج وكذلك الحزن، فالضحك سلوك إنسانى جداً وكما قال السيد بونتيللا فى مسرحية بريخت الشهيرة لملحق السفارة الذى أراد الزواج من ابنته «الإنسان الذى لا يفهم المزاح ليس إنساناً على الإطلاق»، أى أن الضحك لا ينقص المهابة كما نتخيل بل يؤكد الإنسانية، ولا يفقد الإنسان احترامه بل على العكس يسترد له طبيعته الأولى حين كان على الفطرة يضحك بلا حساب ولا قيود، وأيضاً يبكى بدون أن يكون بكاؤه مجاملة! وكذلك دراسة وتحليل وتشريح النكتة لا تنقص ولا تضير من يتصدى لها أو يجب ألا تنقص وتضير، فكتابات وتحليلات الراحل د. سيد عويس عن المجتمع المصرى من خلال الأمثلة الشعبية وموالد أولياء الله الصالحين وما يكتب من عبارات على عربات الميكروباص وأوراق النتائج ورسائل الإمام الشافعى لا تقل من وجهة نظرى عن تحليلات هيكل وجمال حمدان، ولا يجب أن ننظر إليها نظرة دونية لمجرد أنها تتناول سلوكيات شعبية أو عبارات نصفها نحن بالسوقية ولا تتناول حروباً كونية أو أحداثاً اقتصادية عالمية أو عبارات أدبية بلاغية فصيحة، إذا أردنا أن نكتب التاريخ بجد فلابد أن نضم النكت كمصادر تاريخية، فتش عن النكتة كانت هى مفتاحى السحرى وكلمة السر وحل اللغز، إذا أردت أن ترسم بورتريهاً للوطن فلن تجد أفضل من النكتة كريشة سحرية ترسم اللوحة بلا رتوش وبألوان هى كألوان معابد الفراعنة لا تبهت لأنها ضد الزمن، وبعيداً عن علوم الاجتماع والأنثروبولوجى ومجاملات السلاطين والمكاتبات الرسمية وبلاغة الأقوال وزخرفة الكلمات والتنميق والتزويق، بعيداً عن كل هذا تظل هذه النصيحة الذهبية «فتش عن النكتة» وابحث فى مدلولاتها ومعانيها المختفية والمضمرة فهى ثقافة الشعوب الشفهية التى تكشف المستور، وتبوح بما تخفيه الأعراف والتقاليد وألاعيب السياسة وكبت الجنس وحتى بما تقننه وتستره طقوس وتعاليم الدين، فهى الدستور غير المكتوب والأدب الذى يتعالى عليه النقاد.

النكتة كالعشق تستعصى على التعريف وتتحدى التصنيف والقياسات والمعادلات الرياضية، إنها الفن المجانى الذى يمارسه الفقراء، وحفلة الزار الجماعية التى تقيمها الشعوب المقهورة، وبرغم أن الفقراء والمقهورين ليسوا أصحاب التوكيل الوحيد لقطع غيار النكت فإننا نستطيع أن نقول إنهم أصحاب وملاك الصناعة الأصلية، فالنكتة المغموسة فى ملح الفقر والقهر هى الوجبة الأساسية، أما عند أهل الشمال والراحة فهى مجرد «أبراتيف» أو فاتح شهية، هى عندنا صراخ وعندهم همس، هى عندنا ضرورة وعندهم ترف، ونكتتنا حراقة بالفلفل والشطة والحواوشى، ونكتتهم باردة بالكاتشاب والمواد الحافظة والمايونيز.

أكبر مشكلة عند من يمارسون التنكيت فى مصر، التى لا توجد فى بلاد الفرنجة هى أن الواقع الاجتماعى المصرى أحياناً كوميدى جداً أكثر من قدرة أى نكتة شعبية، والحياة المصرية فى حد ذاتها نكتة تتجاوز طاقة أى نكتة مخترعة، ولذلك فصناعة النكتة المصرية صعبة بل وفى بعض الأحيان مستحيلة، وازدادت الصعوبة أكثر حين قل التواصل أو انعدم بين أفراد المحروسة الذين أصبحوا جزراً منعزلة، وبما أن النكتة يتم طبخها فى أفران جماعية لتستوى على مهل وبعدها تنتشر بسرعة الضوء فإن الخرس الاجتماعى يقتلها والتواصل الحميم ينعشها ويرويها، بدليل أن أغلبية النكت تولد وتنتشر عبر المقاهى والأندية والغرز والفصول الدراسية..إلخ، وكان دخول الإنترنت أكبر ثورة فى عالم التواصل الإنسانى الذى بلا حدود، وأصبح من الممكن أن تتواصل مع العالم كله وليس مع أفراد مجتمعك فقط، ومع الإنترنت عادت النكتة لتزدهر من جديد وانتعشت الذاكرة الجماعية المصرية التى تطبخ النكتة، ولكن هذه المرة تم الطبخ والتقديم بل والأكل بواسطة جيل مختلف يتقن لغة الكمبيوتر ويتواصل بالإنترنت، ولم يكن لنكاته وسخريته مذاق مختلف فقط بل للغته أيضاً نفس المذاق، ولو حاولنا قراءة E - mail من أحد شباب الإنترنت إلى صديقه أو رغبنا فى مشاركتهم «الشاتينج» سنحس أننا أمام أفراد يتكلمون اللغة الصينية من فرط الاختصار ومن غرابة التعبيرات، لدرجة أننا نستطيع أن نقول إننا أمام لغة جديدة تماماً بمفرداتها وقواعدها وبلاغتها تتخلق عبر أسلاك التليفونات والفيبروأوبتيك ونبضات وشرائح الكمبيوتر.

عبر الإنترنت ستجد ضالتك، لكى تفهم النكتة الجديدة والأهم أن تفهم الجيل الجديد نفسه، فالجيل الجديد أو ما يطلق عليه الجيل الروش يحتاج إلى الفهم قبل الإدانة، وفك الشفرة قبل وضع كلمة السر، والحب قبل التربص، فهذا الجيل لن يستطيع ناقدوه إلغاءه من الوجود، ولن يتمكن مهاجموه من تغييره بولادة قيصرية جديدة ووضعه فى حضانة أعرافنا وتقاليدنا وتوصيله بخراطيم أوكسيجين الانضباط الأسرى والاجتماعى القديم، ولكن أقصى ما يستطيع تقديمه أهل الخبرة كما يسمون أنفسهم هو الإنصات للفهم والمعرفة وليس التنصت للمصادرة والتحرى، وتعريف الخبرة عندى بالمناسبة هو أنها المشط الذى تمنحه الحياة للأصلع بعد فوات الأوان! وأعتقد أن الجيل الروش يحتاج إلى الشعر قبل المشط، والحياة قبل النصائح، والتجربة قبل التعالى على أو الخوف من التجربة.

نقلا عن "الوطن"

تاريخ الخبر: 2022-07-09 21:17:45
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 95%
الأهمية: 94%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية