د. أبوالوفا التفتازانى يكتب: ابن الفارض سلطان العاشقين

شرف الدين عمر بن أبى الحسن على، المعروف بابن الفارض- يعتبر أبرز صوفية الحب الإلهى فى تاريخ الإسلام.

ولا أذكر ابن الفارض إلا وأذكر معه أستاذنا المغفور له الدكتور محمد مصطفى حلمى، فقد قدم عنه بحثًا علميًا للدكتوراه (سنة ١٩٤٠) كشف فيه عن حياته ومذهبه فى الحب الإلهى، وقد حببنى هذا البحث، وأنا طالب بقسم الفلسفة بكلية الآداب، فى التصوف الإسلامى. ودفعنى بعد تخرجى إلى التخصص فيه، ولعل هذا نفحة من نفحات الحب سرت إلىّ من ابن الفارض وباحثه المتصوف.

يعتبر ابن الفارض من أبرز الصوفية الذين أنجبتهم مصر، فهو مصرى المولد، وإن كان والده حموى الأصل، والسبب فى أنه عرف بابن الفارض أن والده كان فقيهًا متخصصًا فى علم الفرائض، وهو علم يعرف به كيفية قسمة التركة على مستحقيها، إثبات الفروض للنساء والرجال، وكان المتخصص فى هذا العلم يسمى فارضًا.

ولد شاعرنا بالقاهرة سنة ٥٧٦ هـ بعد قدوم والده إليها من حماه وتوليته نيابة الحكم بها، وقيل إنه عرض على والده منصب قاضى القضاة فامتنع عن توليه، وزهد بعد ذلك فى المناصب فاعتزلها وآثر الانقطاع إلى العبادة فى قاعة الخطابة بالجامع الأزهر، وظل كذلك إلى أن توفى.

ويحدثنا ابن العماد فى «شذرات الذهب» بأن ابن الفارض نشأ تحت رعاية أبيه فى عفاف وصيانة وعبادة وديانة بل زهد وقناعة، وأنه أخذ علم الحديث عن ابن عساكر والحافظ المنذرى، ثم حبب إليه بعد ذلك- ولعل هذا بتأثير من والده- سلوك طريق الصوفية، فتزهد وتجرد.

ومن طريف ما يروى عن سبب زهد ابن الفارض أنه دخل الجامع يومًا لصلاة الجمعة والخطيب يخطب، فوجد شخصًا يغنى فأنكر عليه بقلبه ونوى تأديبه، فلما انقضت الصلاة خرج ابن الفارض، فناداه ذلك الشخص، وأنشده:

قسّم الإله الأمر بين عباده فالصب ينشد والخلى يسبح ولعمرى التسبيح خير عبادة للناسكين وذا لقوم يصلح.

واتجه ابن الفارض بعد ذلك إلى حياة العبادة والتأمل، وكان من أبرز وسائلها عنده السياحة. وتعنى السياحة عند الصوفية الخروج إلى أماكن نائية، والعودة منها مرة أخرى إلى المدينة، فهى بمثابة الرحلات التى يقصد منها تهذيب النفس وتكميل الروح بعيدًا عن ضجيج المجتمع.

وكانت سياحة ابن الفارض المفضلة فى وادى المستضعفين بجبل المقطم. وفى أحد الأيام عاد من سياحته ودخل إلى المدرسة السيوفية بالقاهرة، فوجد على بابها شيخًا بقالًا بشره بأنه سوف يفتح عليه، قائلًا له: «يا عمر أنت ما يفتح عليك فى مصر، وإنما يفتح عليك بالحجاز فى مكة شرفها الله فاقصدها، فقد آن لك وقت الفتح».

ولهذا نجد ابن الفارض يغادر مصر إلى الحجاز حوالى سنة ٦١٣ هـ، وهناك أيضًا ينقطع من حين إلى حين بأودية مكة، ويفتح عليه بكثير من المعارف والأسرار، ويعبر عن ذلك الفتح بقوله:

يا سميرى روح بمكة روحى 

شاديًا إن رغبت فى إسعادى 

كان فيها أنسى ومعراج قدسى 

ومقامى المقام والفتح بادى

وقضى ابن الفارض فى أرض الحجاز خمسة عشر عامًا كان يحيا فيها حياة روحية خالصة، أساسها الزهد والسياحة والطواف بالحرم والصلاة فيه، وكان فى هذه الفترة يأنس بالوحش ويستوحش من الناس على نحو ما يعبر بقوله:

وجنبنى حبيك وصل معاشرى

وحبينى ما عشت قطع عشيرتى

وأبعدنى عن أربعى بعد أربع

شبابى وعقلى وارتياحى وصحتى

فلى بعد أوطانى سكون إلى الفلا وبالوحش أنسى إذ من الأنس وحشتى

ظل سلطان العاشقين فى مكة حتى سنة ٦٢٨ هـ ثم عاد إلى مصر، إلا أن ذلك الفتح انقطع عنه فأثار ذلك فى نفسه لوعة على ما فات من أيامه، وفى ذلك يقول:

يا أهل ودى هل لراجى وصلكم

طمع فينعم باله استرواحا

مذ غبتم عن ناظرى لى أنة

ملأت نواحى أرض مصر نواحًا

وإذا ذكرتكم أميل كأننى 

من طيب ذكركم سقيت الراحا

وإذا دعيت إلى تناسى عهدكم

ألفيت أحشائى بذاك شحاحا

وبعد عودة ابن الفارض إلى مصر عرف الملك الكامل الأيوبى بمكانته، فقد كان يومًا فى مجلسه، الذى كان يعقده للعلم والأدب، فتذاكر الحاضرون فى هذا المجلس القوافى الشعرية الصعبة، فقال الملك: من أصعبها الياء الساكنة، وطلب ممن فى المجلس أن يذكر كل منهم ما يحفظه من هذه القافية، فلم يتجاوز أحدهم عشرة أبيات، وهنا قال الملك إنه يحفظ منها خمسين بيتًا قصيدة واحدة وذكرها. إلا أن القاضى شرف الدين كاتب سر الملك قال إنه يحفظ منها مائة وخمسين بيتًا، وأنشد قصيدة ابن الفارض التى مطلعها:

سائق الأظعان يطوى البيد طى

منعما عرج على كثبان طى

ولما سأل الكامل عن ناظم هذه القصيدة قيل له إنه ابن الفارض، فأرسل كاتب سره يحمل إلى ابن الفارض ألف دينار لينفقها على الفقراء الواردين عليه، فأبى ابن الفارض قبولها، فدعا هذا الكامل إلى أن يقوم بزيارته، فقصد إليه ومعه بعض خواصه، لزيارته بالجامع الأزهر، ولكن ابن الفارض لم يكد يحس بقدومهم عليه حتى خرج من الباب الآخر الذى بظاهر الجامع، وسافر إلى الإسكندرية. وهذه الرواية إن دلت على شىء فإنما تدل على شدة زهد ابن الفارض فى المال، وإيثاره الابتعاد عن أصحاب الجاه.

ولم يقض ابن الفارض فى مصر بعد عودته من مكة أكثر من أربع سنوات، إذ توفى فى سنة ٦٣٢ هـ، ودفن بالقرافة بسفح المقطم تحت المسجد المعروف بالفارض، ولا يزال ضريحه موجودًا إلى الآن، أما المسجد الحالى الذى به الضريح فيرجع تاريخه إلى سنة ١٨٨٩م.

كان حب ابن الفارض لله ثمرة معاناة حقيقية، يقول الصوفية: «من ذاق عرف»، ويعنون بذلك أن معارفهم وأسرارهم، ومقاماتهم وأحوالهم، ذوق خالص، ولا بد لمن يريد الحكم عليها من تجربة صادقة.

وهناك رواية طريفة تروى عن الصوفى المعروف محيى الدين بن عربى، وهو معاصر لابن الفارض، فقد جاءه يومًا أحد تلاميذه يقول له: إن الناس ينكرون علينا علوم الأسرار الإلهية ويقولون: ما دليلكم عليها، فقال له ابن عربى: إذا سألك أحد هذا السؤال. فقل له: ما الدليل على حلاوة العسل؟

فلا بد أن يقول لك: هذا علم لا يحصل إلا بالذوق، فقل له: هذا مثل ذاك!

فالطريق إلى تقييم حب ابن الفارض الإلهى، وحب من عداه من الصوفية، هو التجربة، ألم يقل الشاعر:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده

ولا الصبابة إلا من يعانيها

ولكن أين نحن الآن فى عصرنا من مثل هذه التجربة؟ إننا نعيش فى عصر مادى مسرف فى المادية، ولم يعد الناس فيه- اللهم إلا قلة واعية- يلقون بالًا إلى القيم الروحية، وأصبح الغالب على حياة الناس فيه عدم الاستقرار النفسى الذى ينبعث من نظرهم إلى كل شىء فى ضوء المادة، وقياسهم كل شىء بمقياس الحس.

ويقيننا أن الناس لو انصرفوا قليلًا عما شغلتهم به الدنيا إلى تدبر ما فى الإسلام من المثل الروحية. ولو آمنوا بأن وراء المادة والحس عالمًا آخر له روعته وجلاله، وله قيمه ومعاييره، لغيروا من حكمهم على الأشياء، ولوجدوا الراحة النفسية بعد العناء، ولأقبلوا على حياتهم فى تفاؤل وابتسام ولاندفعوا إلى العمل المثمر فى همة وثبات.

والحب الإلهى أرفع تلك المثل الروحية، لأنه يتعلق بأسمى موضوع وهو الله تعالى، وليس هذا الحب شطحًا أو خيالًا، وإنما هو ثمرة حقيقية للإيمان القوى والتدين العميق، وينعكس أثره على حياة الفرد تهذيبًا، وعلى حياة المجتمع ارتقاءً.

ولا ينبغى أن يتبادر إلى الذهن أن الصوفية قد ابتدعوا الحديث عن هذا الحب، إذ إنه يستند إلى شواهد قرآنية صريحة:

فقد ذكر الله تعالى الحب المتبادل بين العبد والرب فى قوله تعالى:

«يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم» (المائدة: ٥٤).

ويربط الله بين الحب وقوة الإيمان فى قوله تعالى: «والذين آمنوا أشد حبًا لله» (البقرة: ١٦٥).

ويربط تعالى بينه وبين حب الرسول وطاعته فى قوله: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله» (آل عمران: ٣١).

وأول من مهد طريق الكلام فى الحب الإلهى رابعة العدوية المتوفاة سنة ١٨٥ هـ، وجعلته أساسًا لكل طاعاتها وعباداتها، وأعلنت أنها لم تعبد الله خوفًا من ناره ولا طمعًا فى جنته، وإنما هى تعبده من أجل محبة جماله الأزلى، ورويت عنها فى الحب الإلهى أشعار غاية فى الرقة والعذوبة، وتابعها فى ذلك من جاء بعدها من الصوفية، فتغنوا بالحب، وجعلوه مقامًا من مقامات السلوك إلى الله وبعضهم يجعله أعلى هذه المقامات.

إلا أن ابن الفارض فاق- كما ذكرنا من قبل- جميع أولئك الصوفية فى التغنى بالحب، فوهب حياته كلها له.

لقد غلب على شاعرنا الصوفى الحب لله إلى الحد الذى اعتبره مرادفًا للحياة، إذ لا حياة بدونه، كما أن الموت به هو عين الحياة، فيقول:

إن الغرام هو الحياة فمت به صبا فحقك أن تموت وتعذرا

ويقول أيضًا:

هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل

فما اختاره مضنى به وله عقل

وعش خاليا فالحب راحته عنا

وأوله سقم وآخره قتل

ولكن لدى الموت فيه صبابة

حياة لمن أهوى على بها الفضل

نصحتك علما بالهوى والذى أرى

مخالفتى فاختر لنفسك ما يحلو

وإن شئت أن تحيا سعيدًا فمت به

شهيدًا وإلا فالغرام له أهل

فمن لم يمت فى حبه لم يعش به

ودون اجتناء النحل ما جنت النحل

وعلى ذلك فالموت بالحب حياة، والحياة بدون حب موت.

ولعل ما يقصده ابن الفارض من أن حب الله هو الحياة، أن هذا الحب هو أسمى عاطفة فى الإنسان، وكأنما خلق قلبه له، وأن اتصال القلب بمحبوبه وهو الله حياة لهذا القلب وانقطاعه عنه موت له، على أن فائدة هذا الحب لا تقتصر على الإنسان كفرد، وإنما هى تتعداه إلى المجتمع كله، حين يصبح الحب مصدرًا لكل فضيلة اجتماعية أيضًا، ذلك أن الحب الإلهى يستتبع محبة الرسول (ص) ومحبة الأسرة، ومحبة المجتمع، وهنا يشيع الحب فى المجتمع بدلًا من الصراع، ويسود التفاؤل بدلًا من التشاؤم، وبدأ يصبح الحب الإلهى بما يستتبعه من أنواع الحب الأخرى بابًا للخير كله، فهو إذن حياة للفرد، وحياة للمجتمع ولا كذلك الأمر إذا ساد الصراع وعم التشاؤم، ففى ذلك موت للفرد وللمجتمع معًا.

ومن شأن الحب الإلهى عند ابن الفارض وعند غيره من الصوفية أن يقترن بحال الفناء، ويصور الصوفية حال الفناء بأنه الحال الذى يغيب فيه الصوفى عن إدراكه لذاته لفنائه فى المحبوب وهو الله، ولا يعود فى هذه الحالة يشعر بنفسه ولا بشىء من لوازمها.. وقد أشار الغزالى إلى ذلك بقوله: «وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحال فناء، بل فناء الفناء، لأنه فنى عن نفسه، وفنى عن فنائه، فإنه ليس يشعر بنفسه، ولو شعر شعوره بنفسه بعدم شعوره بنفسه لكان قد شعر بنفسه!». على أن الصوفى لا يستمر له الفناء بل يعود منه إلى الحال المقابل له وهو البقاء، فيشعر بذاته وبالعالم الخارجى.

ويرى ابن الفارض أن تحقق المحب بشهود محبوبه وهو الله لا يكون إلا مع الفناء عما فى الحياة الدنيا من زخرف وجاه، بل وعما فى الحياة الأخرى من جنة ونعيم، وعن جميع أوصافه وأهوائه وأغراضه، وعندئذ يكون خالصًا لله لا لشىء دونه واستمع إلى ابن الفارض قائلًا على لسان محبوبه:

فلم تهونى ما لم تكن فى فانيا

ولم تفن ما لم تجتلى فيك صورتى

فدع عنك دعوى الحب وادع لغيره

فؤادك وادفع عنك غيك بالتى

وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن

وها أنت حى إن تكن صادقًا مت

هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا

من الحب فاختر ذاك أو خل خلتى

ويعرف هذا الفناء عند ابن الفارض وغيره من الصوفية بالفناء عن شهود السوى، على أنه ينبغى التنبه إلى أنهم لا يقصدون به فناء ما سوى الله فى الخارج، وإنما هو عندهم فناء عن شهودهم له، وما ذلك إلا لاستغراقهم فى ذكر المحبوب وشهوده فغابوا عما سواه بالكلية.

وثمة فناء آخر عند ابن الفارض يعرف بالفناء عن إرادة السوى، ومعناه أن يفنى فى مراده محبوبه فلا يعود له التفات إلى مراده هو أو مراد غيره، ويتحد عندئذ مراده بمراد محبوبه، والمقصود هنا المراد الدينى الأمرى لا المراد الكونى.

وهو يشير إلى فناء إرادته فى إرادة المحبوب قائلًا:

وكنت بها صبا فلما تركت ما

أريد أرادتنى لها وأحبت

ويصبح المحب فى هذه الحالة راضيًا عن محبوبه تمام الرضى، مسلمًا له قياده، فيخاطب محبوبه قائلًا:

وعن مذهبى فى الحب ما لى مذهب

وإن ملت يوما عنه فارقت ملتى

ولو خطرت لى فى سواك إرادة

على خاطرى سهوا قضيت بردتى

لك الحكم فى أمرى فما شئت فاصنعى

فلم تك إلا فيك لا عنك رغبتى

وأذكر فى هذا المعنى أيضًا أبياتًا لشاعرنا كان المرحوم الشيخ على محمود يتغنى بها وهى:

ته دلالا فأنت أهل لذاكا

وتحكم فالحسن قد أعطاكا

ولك الأمر فاقض ما أنت قاض

فعلى الجمال قد ولاكا

وتلافى إن كان فيه ائتلافى

بك عجل جعلت فداكا

وبما شئت فى هواك اختبرنى

فاختيارى ما كان فيه رضاكا

ويتساءل البعض أحيانًا ألا يمكن أن يكون ابن الفارض وغيره من صوفية الحب الإلهى قد أحبوا أولًا حبًا إنسانيًا ثم ارتقوا عنه إلى هذا الحب الإلهى؟

لقد نسب ذلك قديمًا إلى ابن الفارض ومعاصره ابن عربى، فقيل إن ابن الفارض كان يعشق الصور الجميلة، إنسانية كانت أو طبيعية، وقيل إن بعض أشعاره فى الحب لا يمكن تأويلها على طريقة الصوفية، فلم يبق إلا أنها قيلت فى محبوبة إنسانية، وكذلك قيل إن ابن عربى أحب فى مكة فتاة، وإن أشعاره فى ديوانه «ترجمان الأشواق» ما قيلت إلا فيها، واضطر ابن عربى لأن يدافع عن نفسه بناءً على سؤال بعض تلاميذه له، فكتب شرحًا على ديوانه هذا يبين معانيه وأسراره الصوفية، وأن ما تضمنه من الأشعار ليس غزلًا إنسانيًا، وطلب من قارئ ديوانه أن ينصرف عن ظاهر الألفاظ الغزلية ويقبل على ما وراء هذا الظاهر من المعانى الخفية.

ومهما يكن من شىء فإن الحب الإنسانى عاطفة نبيلة، والارتقاء منه إلى الحب الإلهى أمر ممكن، ذلك أنه يرقق المشاعر ويهذب الروح ويعينها على السمو والاتصال بالله إذ إنه تعالى أسمى الموجودات وأجدرها بالمحبة، وكل ما عداه من الصور فانٍ، فلا غرابة إذا قلنا إن المحب لله ربما مر بتجربة حب إنسانى أولًا، على أن هذا ليس هو القاعدة دائمًا، فربما أحب الصوفى الله مباشرة دون أن يمر بالحب الإنسانى العادى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

على أن ابن الفارض يظهرنا على أن الصوفى صاحب نظرة واحدية إلى الكون.. فهو حين يرى الجمال ساريًا فى الموجودات الجزئية، فإنه يتعين عليه أن يتجاوز هذا الجمال الجزئى إلى الجمال الكلى، أو الجمال الفانى إلى الجمال الباقى، فإن مصدر الجمال واحد وهو الله، وكل صورة حسنة مردها إلى هذا المصدر، واستمع إليه قائلًا:

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا 

سر أرق من النسيم إذا سرى

وأباح طرفى نظرة أملتها 

فغدوت معروفا وكنت منكرا

فدهشت بين جماله وجلاله 

وغدا لسان الحال عنى مخبرا

فأدر لحاظك فى محاسن وجهه 

تلقى جميع الحسن فيه مصورا

لو أن كل الحسن يكمل صورة 

ورآه كان مهللا ومكبرا

وهو يقول أيضًا:

وصرح بإطلاق الجمال ولا تقل

بتقييده ميلا لزخرف زينة

فكل مليح حسنه من جمالها

معار له بل حسن كل مليحة

وهذا هو ما دعا ابن الفارض إلى حب الصور الجميلة، إنسانية كانت أو طبيعية، وهو لا يحبها لذواتها وإنما لتجلى الجمال المطلق، جمال الله، فيها، فيقول:

بها قيس لبنى هام بل كل عاشق

كمجنون ليلى أو كثير عزة

فكل صبا منهم إلى وصف لبسها

بصورة حسن لاح فى حسن صورة

وما ذاك إلا أن بدت بمظاهر

فظنوا سواها وهى فيها تجلت

وعلى ذلك فالحب العذرى الموجه إلى الصور الإنسانية المعينة لا يختلف فى حقيقته عن الحب الموجه إلى الذات العلية التى تصدر عنها هذه الصور.

وهام ابن الفارض كذلك بحب الصور الطبيعية، فكان يحب النيل والمتنزهات التى كانت عليه، ومنها متنزه كان يعرف بالمشتهى فى الروضة، وهو القائل فيه:

وطنى مصر وفيها وطرى

ولعينى مشتهاها مشتهاها

ومن أجمل ما يعبر به عن حبه لكل صور طبيعية جميلة قوله:

تراه إن غاب عنى كل جارحة

فى كل معنى لطيف رائق بهج

فى نغمة العود والناى الرخيم إذا

تألقا بين ألحان من الهزج 

وفى مسارح غزلان الخمائل فى

براد الأصائل والأصباح فى البلج

وفى مساقط أنداء الغمام على 

بساط نور من الأزهار منتسج

وفى مساحب أذيال النسيم إذا

أهدى إلى سميرا أطيب الأرج

وفى التثامى ثغر الكأس مرتشفا

ريق المدامة فى مستنزه فرج

فالارتقاء من حب الصور الإنسانية والطبيعية إلى حب الله إذن أمر ممكن، والتأمل فى الصور الحسنة سبيل إلى ما لا حصر له من المعارف والأسرار، وإلى ذلك يشير بقوله:

فالعين تهوى صورة الحسن التى 

روحى بها تصبو إلى معنى خفى

وليس سبيل المحب لله إلى المعرفة النقل أو العقل، وإنما هو الذوق، وفى ذلك يقول:

فثم وراء النقل علم يدق عن

مدارك غيابات العقول السليمة

تلقيته منى وعنى أخذته

ونفسى كانت من عطائى ممدتى

فالحب الإلهى إذن مفتاح كل المعارف الصوفية، فيشير إلى ذلك قائلًا:

ولى فى الهوى علم تجل صفاته

ومن لم يفقه الهوى فهو فى جهل

غلب الحب الإلهى على ابن الفارض كما رأينا، وكان حبه من عظم الشأن حتى جعله يعلن على الملأ أنه إمام لكل المحبين، فيقول:

نسخت بحبى آية العشق من قبلى

فأهل الهوى جندى وحكمى على الكل

وكل فتى يهوى فإنى إمامه

وإنى برىء من فتى سامع العذل

ويقول:

قل للذين تقدموا قبلى ومن

بعدى ومن أضحى لأشجانى يرى

عنى خذوا وبى اقتدوا ولى اسمعوا

وتحدثوا بصبابتى بين الورى

بل إنه يرى أن حبه لله يعادل حب المحبين جميعًا، كما أن جمال الذات الإلهية يحتوى على كل جمال آخر، فيقول:

كل من فى حماك يهواك لكن

أنا وحدى بكل من فى حماكا

يحشر العاشقون تحت لوائى

وجميع الملاح تحت لواكا

وهكذا عاش ابن الفارض حياة الحب الإلهى، وتغنى به فى رياض التصوف حتى لقب عن حق بسلطان العاشقين.

 

تاريخ الخبر: 2022-07-10 21:21:15
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 56%
الأهمية: 70%

آخر الأخبار حول العالم

براهيم دياز يتألق ويسجل هدفين لريال مدريد ضد غرناطة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-11 21:26:06
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 60%

براهيم دياز يتألق ويسجل هدفين لريال مدريد ضد غرناطة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-11 21:25:58
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 69%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية