ابن عربى (2-2).. تفسير مجهول للقرآن الكريم

القول بالجبر المحض يتعارض مع فكرة الثواب والعقاب

يرى ابن عربى أن تعظيم الفقير المؤمن أولى من تعظيم المؤمن الغنى

محيى الدين بن عربى من كبار صوفية الإسلام عند كثير من الناس لكنه يعد، عند عدد غير قليل من الناس أيضًا، دخيلًا على الصوفية المعتدلة وأقرب إلى الفلسفة منه إلى التصوف.

وقد ولد محيى الدين بن عربى فى بلاد الأندلس سنة ٥٦٠ هـ واتجه إلى طريق الصوفية فى صدر شبابه. ثم هاجر إلى المشرق فى ٥٩٨ هـ بعد أن كان كثير التنقل بين الأندلس وشمال إفريقيا.. وأقام مدة فى مكة وبدأ فيها كتابة مؤلفه الكبير «الفتوحات المكية» ويعد ابن عربى من قمم التصوف الإسلامى. لكنه أخفى كثيرًا من نظرياته خشية على نفسه. وكان الطابع المميز له هو الرأفة بالضعفاء مما دعاه إلى اتخاذ موقف صارم من علماء عصره ومن الملوك الذين يستبدون برعاياهم، وكان يطلب المساواة بين الناس من حكام وسوقة. ومؤلفاته كثيرة أهمها كتاب «الفتوحات المكية- وفصوص الحكم - وترجمان الأشواق والتجليات الإلهية».. وقد توفى ابن عربى فى دمشق سنة ٦٣٨ هـ. 

لكن الذى يعنينا هنا أن نعرض لمنهجه فى التفسير، لأنه منهج جدير بالدراسة من جانبه، ولأنه لم يلق بعد من عناية الباحثين ما هو خليق به. حقًا إنه منهج خاص به إلى حد كبير، لأنه يرتبط بطبيعة تركيبه النفسى، وهذا أمر قل أن يشارك أحد فيه غيره. فلنا أن نتوقع منهجًا مختلفًا عن المناهج التقليدية فى التفسير. فبعض المفسرين تستهويهم المسائل اللغوية أو النحوية أو الفقهية وبعضهم يعنى بالناحية البلاغية، وعند هؤلاء وهؤلاء نجد قليلًا أو كثيرًا من القصص والإسرائيليات. وإلى جانب هؤلاء جميعًا يوجد مفسرون يرون أن يمزجوا بين معانى القرآن ونتائج الفلسفة أو العلم.

وليس من شأن هذا المزج دائمًا أن يكون فى صالح الدين والفلسفة والعلم، وذلك لأن النظريات الفلسفية والحقائق العلمية توصف عادة بأنها نسبية.

ويقول ابن عربى عن نفسه إن الله جبله على الرحمة، ولو أتيح له ولأمثاله أن يحكمهم الله فى خلقه لبذلوا ما فى طاقتهم جميعًا للقضاء على صنوف الآلام والشقاء التى يكابدها الناس فى هذه الحياة لكن ذلك أمر لا يمكن تحقيقه فإن كثيرًا من البلاء والموارث ضرورى لتطهير النفوس، وهو نوع من العذاب المعجل الذى ينتقص من عذاب الآخرة، بل قد يترك بعضهم هذه الحياة ولخطيئة عليه بكثرة ما ابتلاه الله به.

ومن خلق الرحمة أنه كان أكثر ميلًا إلى الفقراء منه إلى الأغنياء وأصحاب الجاه والعزة، لأن الله تعالى يغار لعبده المنكسر الفقير. وقد صرح ابن عربى بأنه أفاد هذا الخلق من قوله تعالى: «واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا».

فإن هذه الآية نزلت عندما زعم رؤساء الشرك من قريش أنه لا يصرفهم عن مجالسة محمد إلا مجالسته للضعفاء والفقراء من أمثال بلال وغيره «فأنزل الله هذه الآية غيرة لمقام العبودية والفقر أن يستهضم بصفة عز وتأله ظهر فى غير محله».. وهو من أعظم دليل على شرف العبودية، وهو المقام الذى ندعو له الناس. فإن جميع النفوس يكبر عندهم «رب الجاه والمال» إذن تراه يتأسى فى هذا الخلق بالرسول الذى أدبه ربه. فإن الرحمة بالفقراء وأهل الضعف أفضل من إظهار التواضع لأصحاب الغنى والعزة.

وقد رأى هذا الرأى أنه بمثل هذا الخلق النبوى تذل جباه ذوى السلطان لمن يكون أكثر رحمة بالضعفاء منه إظهارًا للتواضع والزلفى تجاه الملوك، ذلك أن الملوك والرؤساء يشعرون عند لقائهم أصحاب هذا الخلق أنهم ليسوا أرفع حالًا عندهم من الفقراء والأذلاء، فيدركون حقيقة أمرهم فتذهب عنهم العزة والأنفة ولذا فمن شأن المتخلق بخلق الرحمة أن يقبل على الفقير الضعيف لأنه يعلم من نفسه أنه لا يفتقر لا إلى الملوك ولا إلى الأغنياء وربما فسر لنا هذا المبدأ الأخلاقى الجميل الذى طبقه ابن عربى مع السوقة والملوك كيف كان مسموع الكلمة عند الملوك على الرغم من تشنيع الفقهاء عليه، وكيف كان شديد الزراية بالعلماء الرسميين فى عصره عندما رآهم أكثر الناس تشددًا مع العامة وأشدهم تسامحًا وتساهلًا مع أصحاب السلطان. ولقد وصف جماعة من هؤلاء فى أكثر مناسبة بقلة الورع والنفاق لأنهم يجمعون أكتافهم أو يكورونها وينظرون إلى الناس نظرة الخشوع الكاذب حتى يوهموهم أنهم أهل دين وتقوى. 

وكذلك رأى من جانب آخر، أن تعظيم الفقير المؤمن أولى من تعظيم المؤمن الغنى، لأن الأول يشبه أن يكون مرآة يرى فيها الإنسان نفسه على حقيقتها، أى من حيث أنها مفتقرة إلى الله دائمًا أما المؤمن الغنى بالمال «فهو مرآة صدئة لا يرى المرء فيها نفسه ولا يعرف ما طرأ على وجهه من تغيير. فما عتب الله على رسوله حين قال: عبس وتولى أن جاءه الأعمى (سدى)، بل أبان الله فى ذلك، أرفع طرق الهدى». ومع ذلك فمن واجب المرء ألا يحسبه الناس، الذين لا يستحقون الاحترام، بما يكرهون، وألا يحاول قهرهم لأن ذلك يتنافى مع خلق الرحمة. فاللين والمداراة أفضل من مجابهة الناس بعيوبهم. فقد قال الله تعالى لنبيه: «فبما رحمة من الله لنت لهم»، واللين خفض الجناح والمداراة والسياسة. ألا ترى الحق يرزق الكافر ويمهل له فى المؤاخذة، وقال عز وجل لموسى وهارون فى فرعون «فقولا له قولًا لينًا».

ويبدو أن هذا الخلق كان راسخًا عند محيى الدين بن عربى، إذ وجدناه فى خاتمة كتابه «الفتوحات المكية» يدعو لمن يظن به خيرًا، ولمن لا يظنون به خيرًا ويدخل فى نطاق هؤلاء الذين شكوا فى أمره، وطعنوا فى إيمانه ونسبوه إلى الإلحاد والزندقة من أمثال «الإمام ابن تميمة وغيره» وأكثر من ذلك، فإنه يقول فى هذه الخاتمة قولًا يضعه فى قمة المفكرين العالميين الذين نادوا بالإخاء والتسامح اللذين حققهما الإسلام بالفعل، بعد أن نادى بهما السيد المسيح لأهل المسيحية.. فابن عربى يقول: «اللهم إنى تصدقت بعرضى ومالى ودمى على عبادك، فلا أطالبهم بشىء بعد ذلك لا فى الدنيا ولا فى الآخرة وأنت الشاهد على ذلك». ثم يوصى بأن نحسن معاملة الناس جميعًا مؤمنين كانوا أم غير مؤمنين أما المؤمن فمن حيث إنه أخ فى الإيمان، وأما غير المؤمن فمن حيث إنه أخ فى الإنسانية «فمن راعى جانب الله انتفع به المؤمنون وأهل الذمة فإن لله حقًا على كل مؤمن فى معاملة كل أحد من خلق الله على الإطلاق». من كل صنف من ملك وجان وإنسان وحيوان ونبات وجماد، ومؤمن وغير مؤمن.

وفى هذا السياق النفسى يميل ابن عربى كل الميل إلى أن رحمة الله ستعم الجميع فى نهاية الأمر، مطيعين كانوا أم عصاة. فكل سورة من سور القرآن قد بدأت بقوله تعالى «بسم الله الرحمن الرحيم» الذى يفسره هو بأنه شعار للقرآن بأسره.. فكما أن السلطان يتخذ لنفسه شعارًا أو رمزًا يصدر به أوامره ومنشوراته، كذلك يمكن القول بأن الله اتخذ الرحمة شعارًا يصدر به كل سورة من سور القرآن. وقد قال هذا المتصوف فى تعليله لبدء جميع سور القرآن بالبسملة: «أخبرنى الوارد، بعد أن جعلنى فى ذلك على بينة من ربى.. لما ألقاه فى قلبى من الوجود. أن اختصاص البسملة فى أول كل سورة تتويج للرحمة الإلهية فى منشور تلك السورة أنها تنال كل مذكور فيها. فإنها علامة الله على كل سورة، كعلامة السلطان على مناشيره، فقلت للوارد: فسورة التوبة عندكم؟ فقال: هى والأنفال واحدة قسمها الله على فصلين. فإن فصلها وحكم بالفصل فقد سماها سورة التوبة، أى سورة الرجعة الإلهية بالرحمة على من غضب عليه فما هو غضب أبد لكنه غضب أمد لأن رحمته وسعت كل شىء بما فى ذلك الغضب، لأن رحمته سبقت غضبه.

أما فى أثناء هذه الحياة فكل ما يوجد فى الكون ينطو، ضرورة على الرحمة لأن كل ما يوجده الرحمن فيه رحمة ظاهرة أو باطنة. «فما من باب يفتح من عند الله إلا كان من أبواب الرحمة» وليست حدود الشرع التى يجب إقامتها على العصاة إلا نوعًا من الرحمة لأنها تطهر أصحابها حتى «تسقط عن صاحبها فى الآخرة بقدر ما أخذ منه فى الدنيا» ويأخذ ابن عربى على المعتزلة أنهم يوجبون على الله ألا يخلف وعيده بالعقاب، مع أن خلف الوعيد، فى نظره وفى نظر كثيرين غيره، يعد عفوًا وتجاوزًا، إذا كان هذا التجاوز أو العفو يحسن من البشر لماذا تحاول المعتزلة حظره على الله؟ لقد قال تعالى: «ورحمتى وسعت كل شىء» وقال «كل شىء هالك إلا وجهه»، وقال الرسول «والخير كله بيديك والشر ليس إليك» وهكذا فإن مغفرة الله للمسىء من عباده هى امتنان من الله عليه وإذا كان الله قد وعد العافين من الناس بأن أجرهم على الله، فكيف للمعتزلة أن تحجوا على الله أن يعفو عن عباده المذنبين؟ «فما نهى الله عباده عن شىء إلا كان منه أبعد، وما أمرهم بكريم خلق إلا كان الحق به أحق».

ولقد قيل إن ابن عربى يؤمن بالحتمية المطلقة أو بالجبر المحض لكن إذا نحن أردنا معرفة وجه الحق فى موقفه من مسألة القضاء والقدر وجدنا أنه يفسر الآيات القرآنية التى تتصل بهذه المسألة تفسيرًا خاصًا ينتهى به إلى هذه الصيغة المركزة التى تقول إن الإنسان مجبور فى اختياره، وإذا تعمقنا فى فهم هذه الصيغة التى تجمع بين الضدين رأينا أنه أقرب إلى تأكيد حرية الإنسان واختياره ومسئوليته عن أفعاله مما يبرر فكرة الثواب والعقاب، فهو يرى أن الطبيعة الخاصة لكل إنسان وهى تلك الطبيعة التى علمها الله منذ الأزل، هى التى تحدد اختياره، بمعنى أنه لا يقهره شىء من خارج هذه الطبيعة، وليس هذا فى التحليل الأخير شيئًا آخر سوى الاعتراف للإنسان بالتلقائية التامة، ما دامت جميع أفعاله تنبع من ذاته.

إن القول بالجبر المحض يتعارض مع فكرة الثواب والعقاب فى حين أن حرية الإنسان تؤكد شرفه ومسئوليته. حقًا إن القرآن يحتوى على آيات تشهد فى صالح الجبر، لكنه يحتوى من جانب آخر على آيات تشهد فى صالح حرية اختيار الإنسان. فإذا قال الله: «والله خلقكم وما تعملون» فهناك آيات أخرى تنسب الأفعال إلى الإنسان كقوله: «جزاء وفاقًا، جزاءً بما كنتم تعملون، جزاءً بما كنتم تكسبون» ومن ثم فأعمال المرء هى التى تكون سببًا فى نعيمه وفى عذابه. وليس له إلا أن يلوم نفسه إذا هو استحق العذاب، بدليل ما جاء فى القرآن من موقف إبليس تجاه هؤلاء الذين استجابوا لدعوته مختارين فإنه لما قضى الأمر قال لهم «إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى» وكان فى استطاعة هؤلاء أن يرفضوا الاستماع إلى إغواء إبليس «إذ ليس كل من دعا تلزم إجابته».

وأيًا ما كان الأمر فإن إبليس نفسه لا يستطيع أن يحتج بالقضاء والقدر، فقد كان مختارًا عندما تكبر وأبى أن يسجد لآدم. 

ولم يكن علم الله السابق بأنه سيتكبر ويأبى هو الذى أجبره. بل كانت طبيعته هى التى مالت به نحو الطريق الذى اختاره لنفسه. فقد عصى دون أن يقف على ما علمه الله من أمره، لأن علم الله لا يؤثر فى طبائع الكائنات، بل يراها على ما هى عليه. كذلك استجاب له كثير من الناس دون أن يكون العلم الإلهى هو الذى أجبرهم بدليل أن هناك كثيرين منهم لم يستجيبوا لدعوة إبليس. فعلم الله ليس هو الذى يدفع الشرير إلى ارتكاب شره، بل طبيعة الإنسان والظروف التى يوجد فيها هى التى تحدد ميله إلى الشر دون الخير فالله لا يرضى لعباده الكفر لكن الإنسان هو الذى يختاره لنفسه، وإن كان لا يختار إلا ما علم الله منذ الأزل أنه سيختاره.

وفى ضوء هذا يفسر ابن عربى قوله تعالى: «لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون» فيرى أن هذه الآية تنطوى على سر القدر «وهو أنه ما حكم على الأشياء إلا بالأشياء فما جاءها شىء من خارج» وقد ورد: «أعمالكم ترد عليكم» فالحجة لله دائمًا على عباده، لأنه كان يعلم طبائعهم منذ الأزل فلما خرجوا من حالة الإمكان إلى حيز الوجود لم تتغير طبائعهم فعلم الله السابق لهذه الطوائع مطابق لعلمه بها بعد أن تحقق بالفعل. 

وقد احتج ابن عربى لرأيه هذا بما جاء فى القرآن من قوله: «وما ظلمهم»، و«وما ظلمناهم»، وقوله: «ولكن كانوا أنفسهم يظلمون». فإنهم لم يظهروا فى عالم الشهادة إلا على ما كانوا عليه فى عالم الغيب. فعلم الله ليس سببًا وليس مؤثرًا أن جميع الكائنات تطالب بنعمة الوجود والله يوجدها بقدرته وفقًا لعلمه وحكمته، ويخبرنا ابن عربى بأن مسألة القضاء والقدر مسألة عظيمة ودقيقة وأنه لم ير أحدًا نبه على الحل الذى ارتضاه لها. أما إذا كان هناك من سبقه إلى هذا الحل فذلك أمر ممكن لكنه لم يؤخذ عنه، ثم يقول إن كل من يفهم هذا الحل لا يستطيع أن ينكره فطبائع الأشياء إذن هى التى تحدد أفعالها وعلم الله لا يؤثر فى هذه الطبائع بل كانت فى حالة الإمكان أم فى حالة الوجود الفعلى وهكذا يستطيع المرء أن يفهم معنى قوله: إن الإنسان مجبور فى اختياره على نحو أكثر اتساقًا مع اتجاهه الفلسفى أو الدينى العام، بمعنى أن للإنسان تلقائية ذاتية، وأنه حر فى أعماقه ومن الضرورى أن يختار أفعاله. فطبيعته الذاتية هى التى تجبره على الاختيار ومن ثم يستقيم أمر كثير من المسائل فيكون هناك معنى للطاعة والمعصية والثواب والعقاب وعندئذ يختفى ما قد يظنه الناس من وجود تضارب بين الآيات القرآنية التى يقرر بعضها حرية الإنسان ويقر بعضها أنه ليس له من أمره شىء.

ولا نريد أن نفيض فى عرض نماذج كثيرة من التفسير النفسى والأخلاقى والفلسفى الذى وجدناه عند محيى الدين بن عربى، وذلك لأننا لا نرغب فى تجاوز الحدود التى رأينا أن نلتزمها ولذا فسنكتفى بنموذجين طريفين من تفسيره ما يكشف لنا عن تنوع حالاته النفسية وعن عمق ثقافته. وأول هذين النموذجين تفسيره لهزائم المسلمين على الرغم من أن الله يقول: «وكان حقًا علينا نصر المؤمنين» أنه يفرق بين نوعين من الإيمان: إيمان بالحق وإيمان بالباطل فالمؤمنون بالحق هم الذين قال الله فيهم: «إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده».

أما المؤمنون بالباطل فهم الذين آمنوا بالطاغوت وانصرفوا عن الإيمان بالحق وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن المسلمين لا يهزمون إلا إذا آمنوا بالباطل وكفروا بالحق. فقد هزموا فى أحد عندما عصوا الرسول وتركوا أماكنهم لكى يظفروا بالغنائم فانصرفوا عن الحق إلى الباطل. وكذلك هزموا فى حنين يوم أن أعجبتهم كثرتهم وكثيرًا ما يهزم المسلمون بسبب خوفهم من الموت وتكذيبهم لما جاء فى القرآن من قوله: «ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون». فالخوف من الموت هو الذى يدعوهم إلى الفرار حرصًا على حياتهم وضنًا بها على التضحية فى سبيل ما يعتقدون أنه حق، وهكذا فسرعان ما ينتقل الواحد منهم مباشرة إلى فريق الذين يؤمنون بالباطل. أما إذا انتصر غير المسلمين فإنما ينتصرون لانهزام المسلمين لا تكذيبًا لما جاء به القرآن ويشهد التاريخ بصدق وجهة نظر ابن عربى. فهزيمة المسلمين فى بعض حروبهم ليس نتيجة خلف الله لوعده بل هى فى نظر ابن عربى نتيجة لخلف المسلمين وعدهم بنصره الحق.

أما النموذج الثانى وهو الأخير الذى نرى أن نختم به حديثنا فخاص بتفسيره لقوله تعالى: «إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما، وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير» وهى من آيات سورة التحريم. 

وقد نزلت بسبب تظاهر اثنين من زوجات الرسول عليه. فماذا فهم ابن عربى من هذه الآيات، لقد جرت عادة الرجال أن ينظروا إلى المرأة نظرتهم إلى كائن ضعيف، كذلك ألفت النساء أن يوصفن بأنهن من الجنس الضعيف أو اللطيف، وكثير من النساء فى عصرنا هذا ينادين بضرورة المساواة بينهن وبين الجنس القوى أو الخشن. أما ابن عربى فإن نظرته إلى المرأة مختلفة جدًا عن النظرة المألوفة لدى معظم الناس. فهو يعتقد أن المرأة ليست من الضعف بالقدر الذى يتصوره الرجل ربما تتصوره المرأة بل المرأة عنده أعظم قوة من أى مخلوق فى هذا العالم.

حقًا إن للرجال عليهن درجة غير أن هذا لا يمنع أن تكون أعظم قوة من الرجال ثم يعلل ذلك تعليلًا نفسيًا فيقول: إن المرأة مطلوبة والرجل هو الطالب والمطلوب أقوى من الطالب. ومهما يكن من شىء فلو لم تكن المرأة بمثل هذه القوة لما قال الله فى الغلبة على امرأتين إنه ناصر الرسول، وكذلك جبريل وصالح المؤمنين والملائكة. فقد ذكر الله «هذا كله فى مقاواة امرأتين. وما ذكر إلا الأقوياء الذين لهم الشدة والقوة. فإن حشد هذه القوى كلها دليل على قوة من يستعان بها عليه، وهو المرأة».

ونقول فى نهاية الأمر إن منهج ابن عربى فى التفسير نهج مختلف عن المناهج السائدة لدى كثير من المفسرين القدماء والمحدثين، وإنه يمتاز بالطرافة وبالنظرة الشخصية وهو يتسق إلى جانب ذلك مع فكرته القائلة بأن القرآن سيظل متجددًا فى قلوب هؤلاء الذين يشعرون بأنه يتدفق من قلوبهم فلا يقرأونه بخيالهم أو بأطراف ألسنتهم ونزيد نحن من جانبنا أنه مختلف تمامًا عن تفاسير هؤلاء الذين ربطوا القرآن بضروب نسبية من الثقافات الفلسفية أو العلمية التى تتطور دائمًا ولا تثبت على حال وهناك ميزة أخرى فى تفسير ابن عربى، وهى أنه لما كان تفسيرًا نفسيًا فى أساسه فإنه يجوز لكل أحد أن يقبله أو يرفضه لكن إلى جانب القابلين لتفسيره أو الرافضين له، يتسع مكان لمن يريد دراسة هذا السياق النفسى العجيب الذى أملى على ابن عربى مسلكه فى تفسير القرآن، دون أن يعنى برضا الفقهاء أو سخطهم.

 

تاريخ الخبر: 2022-07-12 21:21:19
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 45%
الأهمية: 57%

آخر الأخبار حول العالم

خلافات الحكومة الإسرائيلية حول غزة تخرج إلى العلن

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-17 15:27:57
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 55%

العصبة تكشف عن برنامج الجولة الـ29 من البطولة الاحترافية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-17 15:27:11
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 60%

ملف "إيسكوبار الصحراء".. تحديد أولى جلسات محاكمة الناصيري وبعيوي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-17 15:26:50
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 50%

العصبة تكشف عن برنامج الجولة الـ29 من البطولة الاحترافية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-17 15:27:10
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 70%

ملف "إيسكوبار الصحراء".. تحديد أولى جلسات محاكمة الناصيري وبعيوي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-17 15:26:52
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 60%

خلافات الحكومة الإسرائيلية حول غزة تخرج إلى العلن

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-17 15:27:59
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 66%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية