مفهوم الدّين والهويّة عند المصريّين


لا شك في أن الدين هو مكوّن أساسي في الشخصية المصرية. الدين وليس التديّن بمفهوم جماعات الإسلام السياسي؛ دين خالص بدون جرعة العنف كما تراها التنظيمات الجهادية المسلحة، التي لم تر من الدين إلا إقامة الحدود والقتل والتفجير. دين فطري خال من أي اجتهادات لا علاقة لها بحدوده ولا بروحه، وهنا تبقى العقيدة مكوّناً أساسياً في الشخصية المصرية.

استغلت تنظيمات الإسلام السياسي ميل المصريين إلى الدين، فهناك من ألبسه ثوب السياسة وطوع نصوصه من أجل خدمة أهدافه، وهناك من لم ير من الدين إلا ما رآه قادته وأمراؤه، فَضَلّوا وَأَضَلّوا، ومن هنا وجدنا متدينين ولكن بلا دين.

هؤلاء أخذوا من الدين اسمه ومن الإسلام رسمه بينما تركوا جوهر العقيدة نفسها. في الحقيقة هؤلاء لم يفهموا الدين، أو فهموا قشوراً منه، مروا على آياته البيّنات فأخذوا بظاهرها، بينما تركوا النصوص بسياقها، هؤلاء للمفارقة دخلوا في معارك كثيرة حول أهمية النص وضرورته في حياة الإنسان، وصدّورا هذه النصوص للنّاس، وعندما تحاول فهمهم، تجد معظم كلامهم مجرد ادعاءات لا قيمة لها، فهؤلاء في حقيقة الأمر هجروا ما دعوا إليه أو ما اختلفوا مع النّاس حوله.

النص الديني ليس ملكاً لأحد ولا يجوز التجرؤ عليه أو الاقتراب منه إلا وفق شروط التفسير المعروفة، بحيث لا يوضع النص في سياق مقتطع أو مخالف للدين نفسه، ولا بد من العودة إلى العلماء الكبار لفهم هذه النصوص، وهذا لا يعني أن تفسير هؤلاء العلماء مقدس، فقد أفتى بعضهم لزمان ومكان مختلفين، ولمجتمع غير المجتمع الذي نعيش فيه. ما تركه هؤلاء من التراث، يمكن الأخذ به أو تركه وفق ما يقتضيه النص الديني، فهو الثابت الوحيد في هذه المعادلة.

عرف المصريون الدين منذ زمن بعيد، وكانوا يستخدمونه في تفسير الظواهر الطبيعية المحيطة بهم، فامتزجت حياتهم بهذا الدين منذ وقت مبكر، ومن هنا أصبح الدين جزءاً من الشخصية المصرية القديمة ومن بعد الحديثة، فقد عرفوا التوحيد قديماً وعاشوه حديثاً مع الدين بعد البعثة المحمدية.

عرف المصريون الأوائل الإسلام المتسامح، فكان الدين دافعاً للعيش المشترك مع أصحاب العقائد الأخرى، لم يفسدها إلا تدين جماعات الإسلام السياسي التي أفتت بقتل غير المسلم، وطابور من الفتاوى المحرّضة بدأت بفتوى عدم إلقاء السلام على غير المسلم أو تهنئته بالمناسبات الدينية الخاصة أو مشاركته الحياة عموماً، فكان الدين بالمفهوم المؤدلج عائقاً أمام الحياة المشتركة بين بعض المسلمين المصريين الذين تلوثوا بأفكار جماعات الإسلام السياسي المنغلقة وبين المختلفين في العقيدة.

تنظيمات الإسلام السياسي قتلت المختلفين معهم في العقيدة بوازع ديني، لمجرد أنهم مسيحيون، فكان المنتمون لتنظيم الجهاد الإسلامي بمصر يقومون بسرقات محال ذهب المسيحيين، يستحلون المال والنفس لمجرد أنهم يؤمنون بغير دينهم، وما فعله تنظيم "الجهاد" فعلته "الجماعة الإسلامية" المسلحة التي كانت تقتلهم في صعيد مصر، وقرية "صنبو" بمركز ديروط بمحافظة أسيوط شاهدة على أكبر فتنة طائفية كان عمودها الأساسي "الجماعة الإسلامية" التي نشطت في هذه القرية بصورة كبيرة.

فكما أن الدين يمثل محوراً أساسياً في شخصية المصريين، فإن هوية المصريين تمثل ركناً ركيناً في هذه الشخصية... جماعات الإسلام السياسي خلطوا بين الدين والهوية، واعتبروا في مزايدة أن الدين هو الهوية، في محاولة للعب على وتر العاطفة الدينية عند المصريين، صدّروا هذه الأفكار العقيمة واغتالوا كل من حاول الاقتراب من هوية المصريين، فهم يدركون أنهم لن يستطيعوا أن يسيطروا على المصريين إلا من خلال ما يعتقدون أو بالسيطرة على هويتهم.

لا أحد يمكنه المزايدة على الهوية المصرية ولا يمكن لهذه الهوية أن تتغير، دافع عنها المصريون كثيراً، ووقفت هذه الهوية أمام غزو جماعات الإسلام السياسي وأمام موجات التسلف الديني التي هبّت علينا من كل مكان. صحيح أن هذا شوّه الشخصية المصرية ولكنه لم يقض عليها ولم يغيّرها ولا تزال هذه الشخصية تتمتع بقوة وتفرد يدفعانها إلى أن تفرض نفسها أمام أي موجة تغريب وافدة من الخارج.

الدين أحد مكوّنات الشخصية المصرية، ولكن الدين يبقى مجرد مكوّن لهذه الشخصية رغم أهميته عند المصريين. صحيح أنهم لا يستطيعون الاستغناء عنه بل هو يمثل جزءاً أصيلاً من حياتهم، ولكن الشخصية المصرية متعددة التراكيب، فهمها لا يقتصر على الدين، فهناك قيم كثيرة تربى عليها المصريون وأثرت في شخصياتهم. وصحيح أيضاً أن هذه القيم لها مقابل أو مثيل في الدين، ولكنهم لم يأخذوها من الدين بل ولد بها المصريون، والدليل إلى ذلك أنك تجد الكثير من المصريين يتحركون بهذه القيم بينما هم في الحقيقة غير متدينين بالمفهوم الدعوي المعروف، وقد تجد صاحب هذه القيم غير مسلم أو ملحداً!

صاحب هذه المقالة يحاول أن يقرأ أهمية الدين عند المصريين، وأن يفهم بصورة أكبر طبيعة الشخصية المصرية، ولم يكن في ذهنه أن يعلي من شأن الدين، فالدين في مراتب عليا لا ينتظر مقالة رحالة ليُعلي من قدره، كما لا يُفهم من المقالة أنه موقف مسبق من الدين، فلا أغلى من العقيدة عند صاحب المقالة وعند المصريين.

المقالة مجرد رؤية مختصرة لموقف يحتاج إلى عمق في الكتابة وإلى مقالات أكثر وبحوث تدقق ما طرح من خطوط عريضة، وهو ما سوف يفعله الكاتب عما قريب، لو أسعفه أجله لذلك، وحتى يأتي الوقت المناسب، لا بد من الإشارة إلى أن الهوية ليست مقابلاً للدين عند المصريين، ولكنّ كلاً منهما مكمل للآخر ومعزز له... فقط الهوية تعصم من الوقوع في زلة الفهم الخاطئ للدين من قبل بعض المنتسبين لجماعات الإسلام السياسي.

*نقلاً عن "النهار"

تاريخ الخبر: 2022-07-15 21:17:26
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 92%
الأهمية: 90%

آخر الأخبار حول العالم

36 رياضيا في فريق اللاجئين بأولمبياد باريس

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 21:26:19
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 54%

36 رياضيا في فريق اللاجئين بأولمبياد باريس

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 21:26:14
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 60%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية