قصص الأبطال الحقيقيين لـ«كيرة والجن»

نجيب الهلباوى.. مناضل انتظر ثمن نضاله فتحول إلى خائن

دولت فهمى.. بطلة مصرية ضحت بحياتها ولم تنتظر الثمن

عبدالحميد عنايت.. بطل مصرى دفع حياته ثمنًا لحسن نيته

الفدائيون المصريون قاموا بـ«خمسين» عملية ضد الإنجليز ولولا الخيانة لما تمكن منهم أحد

كل تاريخ الحركة الوطنية الفدائية مجهول لأن عملهم يقوم على السرية ولم يتحدث منهم سوى ثلاثة أبطال من بين مئات المجهولين

عبد الحميد عنايت

مشاعر متضاربة انتابتنى بعد أن شاهدت فيلم «كيرة والجن» الذى يؤرخ للأبطال المجهولين لثورة ١٩١٩، وهم فى غالبهم أعطوا أكثر مما أخذوا، وفعلوا أكثر مما تكلموا، وزرعوا بأكثر مما حصدوا.. وهو عمل كبير لمخرج مصرى فذ، يواصل به مرحلة سينمائية بدأها مع فيلم «الفيل الأزرق»، يراهن فيها على إقامة جسر بين جودة الفن والجماهير، يقدم منتجًا بمواصفات فنية فائقة وفى الوقت نفسه يراهن على جماهيرية عالية.. إن هذا هو اختياره الفنى الذى عبر عنه هذه المرة من خلال إنتاج كبير، وقضية مهمة، قدم فيها أبطالًا مصريين.. فى زمن أراد فيه البعض للمصريين أن ينسوا قيم البطولة والفداء، ولأن الهدف هو تقديم البطولة «كنموذج» وليس كـ«دراما» من دم ولحم، فقد لجأ كاتب الفيلم لعملية «كولاج» تاريخى، جمع فيه بين قصص وشخوص مختلفة لأبطال مصريين، جمع بينهم النشاط ضد الإنجليز فى تلك الفترة الساخنة من عمر مصر، لكن من الوارد أن بعضًا ممن رأيناهم فى الفيلم ويجمعهم عمل مشترك لم يقابلوا بعضهم البعض فى الواقع، لكن ضرورة الدراما اقتضت أن يعمل كاتب الفيلم خياله ليصيغ مواقف تجمع هؤلاء الأبطال مع بعضهم البعض.. لقد قدم الفيلم نماذج لأبطال مصريين مثل «عبدالقادر شحاتة الجن» و«أحمد عبدالحى كيرة» و«دولت فهمى» التى قدمت حياتها ثمنًا لشجاعتها، وقدم أيضًا نموذجًا للخيانة هو «نجيب الهلباوى»، أو «يهوذا الحركة الوطنية»، وهو شخصية ثرية دراميًا لأقصى درجة، فهو نموذج للسياسى الانتهازى، الذى ينتظر أن يقبض الثمن، فإذا أحس بأن الثمن تأخر، انقلب على نفسه، وقدم رقاب رفاقه لعدوه، وتفانى فى الإيقاع بهم، تنفيسًا عن حقده، وسعيًا للمكسب الذى كان يظن أنه يجب أن يناله مكافأة عن العمل الوطنى.. 

نجيب الهلباوى

لقد قدم صناع «كيرة والجن» عملًا مهمًا فتح الباب لرواية القصة الحقيقية لأبطال الظل فى ثورة ١٩١٩، وهى قصة سجلها المؤرخ الكبير د. حسين مؤنس فى كتابه المهم «دراسات فى ثورة ١٩١٩» وعاد فيها لمراجع شتى.. وهى تمتد لتسع سنوات كاملة من ١٩١٥ حتى ١٩٢٤، وقد بدأها «نجيب الهلباوى»، وأنهاها نجيب الهلباوى، وكانت المأساة أنه بدأها بطلًا كأروع ما تكون البطولة، وأنهاها خائنًا كأحقر ما تكون الخيانة.. لقد بدأ نشاط الجناح المسلح فى الحركة الوطنية المصرية بعد إعلان الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من عزل الإنجليز للخديو «عباس حلمى الثانى» الذى كان مناوئًا لهم، وهو ما أدى لإعجاب المصريين به، وسخطهم على عمه «حسين كامل» الذى قَبِل أن يصبح سلطانًا على مصر تحت الحماية الإنجليزية، وقد وقعت أكثر من محاولة لاغتياله، كانت إحداها تلك التى قام بها «نجيب الهلباوى» فى الإسكندرية، حيث أطلق النار على عربة تجرها الجياد كان يركبها الخديو، فلم يصبه، وتم القبض عليه، وحكمت عليه المحكمة البريطانية بالإعدام.. وكانت المفارقة أن السلطان نفسه هو الذى تدخل، ليتم تخفيف الحكم عليه للأشغال الشاقة المؤبدة، والمفارقة أن «الهلباوى» كان رابط الجأش فى التحقيقات لأقصى درجة، وأنه لم يبح بمعلومة واحدة عن رفاقه فى الحركة الوطنية، وقد قضى بالفعل تسع سنوات كاملة فى السجن، يكسر الأحجار فى الجبل، حتى انتصرت الثورة، وأصبح سعد زغلول رئيسًا للوزارة فأصدر قرارًا بالإفراج عنه هو وكل من صدرت ضده أحكام بتهمة المشاركة فى الثورة، بمن فيهم زميله فى الفيلم عبدالقادر الجن الذى كان محكومًا عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة على ذمة قضية أخرى.. وحسب المتاح من معلومات، فقد خرج الهلباوى ليجد نفسه مفصولًا من مدرسة الحقوق التى كان طالبًا فيها، وبلا عمل، ولا مورد رزق، وغالبًا وجد بعض رفاقه فى التنظيم السرى وقد أسندت إليهم مناصب مهمة، وكانت الفكرة أن سعد زغلول يواجه اتهامًا من الإنجليز بالوقوف خلف أنشطة الجناح المسلح للثورة، وبالتالى كان يسعى لقطع أى علاقة مباشرة مع من أدينوا فى جرائم جنائية منهم، أو يعرض عليهم وظائف صغيرة فى الأقاليم، حتى لا يبدو الأمر وكأنه مكافأة لهم.. كان هذا وضعًا مختلفًا عن وضع رجال مثل محمود فهمى النقراشى وأحمد ماهر وإبراهيم عبدالهادى.. لعبوا أدوارًا مهمة، ولكن لم تتم إدانتهم ولا التحقيق معهم، وبالتالى كانت فرص الصعود مفتوحة أمامهم فى حياة سعد زغلول وبعد مماته أيضًا.. هكذا شعر نجيب الهلباوى بالحقد وبالخديعة أيضًا.. لأنه كان ممن يقدمون للوطن فى انتظار حصاد النتائج.. وقد قال فيما بعد إنه شعر بأنه تم استخدامه فقرر الانتقام.. حين خرج كان الإنجليز يطلقون على أعمال الوطنيين المصريين ضدهم مسمى «الجريمة السياسية»، وكان عدد هذه الحوادث قد بلغ خمسين عملية، وكانت المعلومات لدى الإنجليز شحيحة للغاية، وحتى الآن فإن المعلومات عن هؤلاء الوطنيين المصريين نادرة، وقد رحل معظمهم وسرهم معهم، ولم يتحدث منهم سوى ثلاثة أحدهم «محمد سيد حامد» الذى كان شابًا وطنيًا فى العشرينات من عمره، وسجل شهادته للدكتور حسين مؤنس فى بداية السبعينيات، فضلًا عن الفدائى «عريان نصيف سعد» الذى صدرت مذكراته فى حياته، ونجيب الهلباوى نفسه الذى تحدث عن قصة خيانته فى الستينيات!، كانت معظم الحوادث بلا شهود، وكانت الرومانسية هى سمة هذه الحوادث، فمرتكبوها طلبة أو موظفون فى معظمهم، ومسدساتهم بدائية، والقنابل التى يستخدمونها قنابل «بيتى» مصنوعة فى البيوت بطريقة بدائية، لكن المحاولات نفسها كانت تلقى الرعب فى قلوب الإنجليز وحلفائهم، كما أن الفدائيين نجحوا بالفعل فى اصطياد عدة قادة إنجليز، وكان البريطانيون يشكون من أن شهود هذه الحوادث ينكرون أنهم رأوا أى شىء، وإذا تم القبض على الفاعل فإنه يرفض الاعتراف بأى شىء، عندما يذهب إلى السجن يحتفى به الضباط المصريون، ويواصل اتصالاته بزملائه وإدارة العمل من داخل السجن بمساعدة الضباط والعساكر، وكان الهلباوى يعرف ذلك كله، فتقدم لحكمدار العاصمة الإنجليزى بطلب التعاون، فخصص الإنجليز ضابطين مصريين للتعامل معه، أحدهما يُدعى «أحمد حمدى» والثانى هو «سليم زكى»، وقد كان مخلصًا للإنجليز بشكل يدعو للأسى، وقد ترقى حتى أصبح حكمدار العاصمة، لكنه فقد حياته إثر انفجار قنبلة ألقيت عليه فى ساحة كلية طب قصر العينى أثناء تجمع طلابى، ولم يتم القبض على مرتكب الحادث.. قابل سليم زكى، نجيب الهلباوى فى شوارع مصر الجديدة الفارغة من البشر وقتها، واستمع له، وراقبه حتى يتأكد من صدق خيانته لزملائه.. وكانت المأساة أن الهلباوى لم يشارك فى أهم حادث قام به الفدائيون المصريون وهو اغتيال السير «لى ستاك» سردار الجيش المصرى فى شارع قصر العينى عام ١٩٢٤، وقد نفذت الاغتيال خلية من ثمانية أشخاص كان عمادها الأخوين «عنايت»، عبدالحميد عنايت وعبدالفتاح عنايت، وكانا طالبين فى مدرستين مختلفتين، وكان لهما أخ ثالث هو محمود عنايت سبقهما فى مدارج الفداء والتضحية بسنوات، وكان العقل المدبر للخلية هو المحامى «شفيق منصور» وهو محام وفدى، كان مسئول الجناح المسلح وغالبًا شعر بنفس الإحباط لأنه لم يُسند إليه منصب سياسى، فقرر اغتيال السير «لى ستاك» دون الرجوع لسعد زغلول، وكان هذا انتقامًا ذا طبيعة خاصة، إذ أدى الحادث لاستقالة سعد زغلول وعدم عودته لرئاسة الوزارة حتى وفاته، وهو ما أدركه سعد، فوصف الرصاصات التى اغتالت سير «لى ستاك» بأنها وجهت لصدره هو.. لم يكن الخائن نجيب الهلباوى عضوًا فى الخلية لأن الحادث تم تنفيذه قبل أن يعيد اتصاله بزملائه، لكنه استغل طيبة عبدالحميد عنايت، الفاعل الرئيسى، ورغبته فى الثرثرة حول بطولته، فاستدرجه للحديث، حيث كان سليم زكى يضغط على الخائن، ويشكك فى قدرته على أن يفيد الإنجليز بأى معلومات، فأخبره الخائن بأنه سيجعله يسمع «عنايت» وهو يروى تفاصيل الحادث، واستأجر له الإنجليز حجرة فى لوكاندة وصفوها بأنها «حقيرة»، واحتل سليم زكى الحجرة المجاورة وكان بينهما باب، وتنصت على حديث «عبدالحميد عنايت» وهو يروى للخائن تفاصيل الحادث الذى كان قد مر عليه شهران.. فتأكد سليم زكى أنه أمام صيد ثمين، وفى اليوم التالى عقد الصفقة مع الخائن، «عشرة آلاف جنيه» مكافأة، و«أربعون جنيهًا» راتبًا شهريًا، مقابل الإيقاع بالخلية كاملة.. رسم الإنجليز للخائن خطة تقوم على الخداع، واستغلال براءة الأخوين «عنايت» تحديدًا، باعتبارهما الأصغر سنًا، والأقل خبرة.. كان المحامى «محمود راشد» أحد المشاركين فى الاغتيال، لكنه صقر مدرب لا يمكن الضغط عليه ولا نيل أى اعتراف منه.. تم القبض عليه دون تهمة واضحة، وأخبروه بأن وزير الداخلية إسماعيل صدقى باشا يريد أن يراه.. ذهب لمكتب وزير الداخلية فالتقطوا صورة لهما معًا، ونشروها فى جريدة حملها الخائن للأخوين عنايت، بعد أن أقنعهما بتطبيق خطة الفرار من مصر، رغم أنهما حتى تلك اللحظة غير متهمين بأى شىء، أقنعهما الخائن بأن زميلهما «محمود راشد» اعترف بكل شىء لوزير الداخلية، والدليل الصورة المنشورة له فى مكتبه، فى حين أن «راشد» قال لوزير الداخلية إنه لا يعرف سبب القبض عليه ويرجو إعادته لمنزله.. كانت الخطة تقضى أن يغادر الأخوان «عنايت» مصر عبر منفذ السلوم، فى حالة وجود خطر، وكان دور الخائن أن يقنعهما بوجود خطر، فيحاولان الهرب، فيقبض عليهما الإنجليز على الحدود، فتعتبر هذه قرينة ضدهما.. إذ لماذا يحاول طالبان فى مدرستى الحقوق والمعلمين العليا التسلل عبر الحدود إلا إذا كان فى الأمر جريمة.. راقب الإنجليز الأخوين «عنايت» وهما يسافران الإسكندرية، ثم عندما ركبا قطار السلوم، جندوا بعض البدو لمراقبتهما، وكان من سوء الحظ أنهما حملا معهما فى القطار نفس المسدس «الأوتوماتيكى» الذى تم استخدامه فى الاغتيال! فكان هذا قرينة لا يمكن ضحدها.. ألقى الإنجليز القبض على آل عنايت، واقتادوهما للقاهرة، وأقنعوهما بأن محمود راشد اعترف بكل شىء، رغم أن راشد كان صامدًا ولم ينطق بحرف، انهار شفيق منصور أولًا، واعترف بكل شىء بعد أن تم خداعه.. أسقط فى يد سعد زغلول، واستقال لأنه رفض تقديم التنازلات التى طلبتها إنجلترا كتعويض عن الحادث.. تابعت الصحافة محاكمة الثمانية الذين اشتركوا فى الاغتيال.. أعدم سبعة منهم.. كان عبدالحميد عنايت فى مقدمتهم.. وكان رابط الجأش أثناء تنفيذ الحكم.. وقال عبدالحميد.. فعلت ما فعلت فداء لوطنى وأنا غير نادم.. مات البطل.. وعاش الخائن لنلعنه جيلًا بعد جيل، ونروى لأبنائنا قصة خيانته، كما نرجم إبليس كل عام لنعرف جميعًا أن علينا ألا نتبع خطواته.

عبد-القادر-الجن
عبدالحميد عنايت
دولت فهمى
كيرة
تاريخ الخبر: 2022-07-16 21:21:08
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 48%
الأهمية: 58%

آخر الأخبار حول العالم

رشق إيريك زمور بالبيض خلال حملته الانتخابية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:39
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 54%

المقابر الجماعية في قطاع غزة على طاولة مجلس الأمن

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:46
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 67%

استئناف مرتقب لجولة المحادثات بالقاهرة حول الهدنة في غز

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:58
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 67%

توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:03
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 60%

رشق إيريك زمور بالبيض خلال حملته الانتخابية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:45
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 51%

استئناف مرتقب لجولة المحادثات بالقاهرة حول الهدنة في غز

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:54
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 57%

بطولة السعودية.. ثلاثية الـ "دون" تخرق بريق الصدارة الهلالية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:26:01
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 60%

بطولة السعودية.. ثلاثية الـ "دون" تخرق بريق الصدارة الهلالية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:26:07
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 57%

المقابر الجماعية في قطاع غزة على طاولة مجلس الأمن

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:53
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية