الجلود في الدنيا والآخرة


في مقال سابق تناولت موضوع الجلد وحاسة اللمس، مشيرا إلى حقيقة أن الجلد الذي يغطي أجسادنا هو أعمق مما يبدو ومما نتخيل، وهو العضو الأكبر من بين أعضاء جسم الكائن الحي، وهو المسئول عن الحاسة التي لو انقطعت انقطعت الحياة، حاسة اللمس. (رابط المقال في نهاية هذا المقال) وتصادف أن اطلعت على كتاب بعنوان “اللزوم الدلالي لأسماء الإنسان وأعضائه فى القرآن الكريم: الإعجاز والتفسير” للدكتور محمد سامي عبد السلام. وما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو إبراز البعد الديني “للجلد” والذي يختلف كليا عن نظرة العلوم الاجتماعية والإنسانية، فدلالات الجلدفى القرآن الكريم، ترتبط بثتائية الدنيا والآخرة، وتحمل معاني نعم الله على عباده، والخشوع والسكينة للمؤمنين، ومعانى الحساب والعذاب للمشركين، فالجلد الديني يختلف عن الجلد العلمي، وخاصة في الآخرة الذي يختص به الدين ويخرج عن نطاق العلم.

يذكر الكاتب في كتابه أن كلمة جلود وردت فى القرآن الكريم تسع مرات، ويقسمها إلى ثلاثة أقسام وهى: الجلود في الدنيا، الجلود وقت الحساب، والجلود والعذاب. ويبدأ بالآية الكريمة عن جلود الأنعام، والتي ترتبط دلاليا فى القرآن الكريم بالسكن، فى قوله تعالي: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ﴾ [النحل: ٨٠]. وهذه الآلية، حسب، ابن كثير، من باب ذكر نعم الله على عبيده. أما الموضع الثانى فقد جاء فى سورة الزمر (الآية ٢٣) حيث ذكر الاسم مرتين، ولكل منها دلالته، وذلك في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾. وهنا يقول الكاتب أن الآية تشير إلى تحول جلود المؤمنين فى الدنيا إلى جلود تقشعر من خشية الله تعالى إلى جلود لينة بذكر الله حيث تطمئن بذكره. ولكن في الحقيقة أن الربط بين الجلود والقلوب له دلالاته، فالجلد ذلك العضو الظاهر والسطحى، هو من منظور الإحساس بعمق القلب الخفى بين الضلوع. وربما يكون الجلد هو الدال الرئيس على الخشية، والتي تشير إليها كلمة “تقشعر”، وهى كلمة متدالة فى الفصحى والعامية كتعبير عن الخوف “جسمى أو جلدى قشعر” . وفى لسان العرب فإن القشعريرة تعنى الخشونة والانقباض، وهي تنطبق على الجلد والأرض، فالجلد يقشعر من الجَرَب والأرض من تقشعر من العطش.

والموضع الثالث، يوم الحساب، حيث يتحول الجلد من عضو احساس إلى عضو ناطق، فيشهد على أصحابه، وذلك كما ورد في سورة فصلت الآيات ١٩- ٢٢، فى قوله تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢). وهنا تبرز خصوصية الجلد فهو الوحيد، دون السمع والبصر، الذى موضع التساؤل: “وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا”. يخبرنا الكاتب بأن سبب السؤال هو أقرب إلى الدهشة، حيث أن الجلود هي التي ستكون عرضة للتعذيب، وكأنها تشهد على ذاتها، وربما يكون هذا التأويل جزئى ومرتبط بموضوع العذاب، وخاصة وأن آراء أخرى تفسر الآية بشكل مختلف، منها ما يفسرها بقدرة الله على إنطاق ما لا ينطق، ومنها ما يرى أن الجلود كناية عن الفروج (الأعضاء الجنسية). ومع تعدد الأراء والتأويلات، يظل السؤالمطروحا على أهل العلم، لبيان دلالات ذلك، وخاصة في سياقها الثقافى والاجتماعي.

وبعد استعراض ذكر الجلود في الدنيا ووقت الحساب، يحدثنا الكاتب عن ذكر الجلود في العذاب، وهنا يمكن أن نلاحظ أن ذكر الجلود في الحياة الدنيا ارتبط بنعم الله والخشوع والسكينة، أما فيما بعد الحياة الدنيا. فقد ارتبط ذكرها بالكفر والحساب والعذاب. فقد جاء ذكر الجلود مغ وصف عذابها في النار ثلاث مرات فى موضعين، الأول، قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (النساء: ٥٦)، والموضع الثاني في قوله تعالى: ﴿هَـذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾ (الحج: ١٩، ٢٠). وفى هذا الوصف نجد أن الجلود ليست مجرد موضوعا للعذاب والإيلام، وإنما للخلود كذلك، والخلود قد يكون دلالة على أن الجلود تعبير عن أصحابها أي عن الذات الإنسانية.

لا شك أن العلم يفسر الظواهر الدنيوية، ولذلك يمكن أن نفهم معنى القشعريرة، وقد أحال عزز الكاتب رأية بمصادر علمية عندما تحدث عن الجلد في الحياة الدنيا، ولكن الأمر يختلف عند الحديث عن الآخرة، فهذا أمر تختص به الأديان، ولكن من منظور الخطاب الدينى، أتصور أن هناك حاجة لدعم التأويل الدينى بمنجزات العلوم الإنسانية من أجل فهم أعمق لدلالات النصوص.

رابط مقال فى معنى اللمس:

فى معنى اللمس

تاريخ الخبر: 2022-07-18 09:22:26
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 69%

آخر الأخبار حول العالم

زلزال بقوة 5.1 درجات يضرب جزر قبالة سواحل نيوزيلندا - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-15 09:24:06
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 58%

ما هو الدافع؟

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-15 09:22:02
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 69%

الرئيس الروسي يزور الصين يومي 16 و17 ماي

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-15 09:24:49
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 53%

وزير الري يتابع موقف منظومة الشكاوى بالوزارة

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-15 09:21:45
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 57%

صباح الخير يا مصر

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-15 09:22:14
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية