تحليل صلاة الشكر طقسياً وموسيقياً (٦)


بنعمة ربنا نستكمل هذا الجزء المتبقي، ونختتم الدراسة والتأمل في ألحان ومردات صلاة الشكر، كما نستخلص بعض الملاحظات الموسيقية الخاصة بهذه الصلاة الهامة في كنيستنا القبطية.

الفقرة الثالثة من الجزء الثالث والأخير في صلاة الشكر:وموضوعها الطلب من الله أن يرزقنا بكل ما هو صالح، وهو الذي أعطانا السلطان على قوة العدو (من الدقيقة 8:35 – 9:07)، “ني ذى إثنانيف” (أما الأمور الحسنة) – “نيم ني إتئرنوفري ساهني إموؤو نان” (والأمور النافعة أرزقنا بها) – “جى إنثوف إتاكتي إمبي إرشيشي نان” (لأنك أنت الذي أعطيتنا السلطان) –”إهومي إيجين ني هوف نيم ني إتشلي” (أن ندوس على الحيات والعقارب) – “نيم إيجين تي جوم تيرس إنتى بي جاجي” (وعلى كل قوة العدو).

في هذه الفقرة نجد البداية اللحنية مثل باقي الفقرات السابقة،مع علو واضح في عبارة (لأنك أعطيتنا السلطان)، وبها تعبير القوة والسلطان، وتنتهي هذه الفقرة بنهايتين: الأولى مثل باقي الفقرات السابقة “إهومي إيجين ني هوف نيم ني إتشلي” (أن ندوس على الحيات والعقارب)، والتي تنتهي بقَطع سريع للنغمة،لتكمل بنهاية أخرى مختلفة عن كل النهايات السابقة “نيم إيجين تي جوم تيرس إنتى بي جاجي” (وعلى كل قوة العدو)، والتي لها طابع خاص في موسيقاها فهي تميل إلى الهبوط النغمي، وهذا التحويل جديد وغريب، فلقد تحول المقام إلى مقام النهواند،والمعروف أن سلم (مقام) النهواند (السلم الصغير) له مشاعر الحنان وبه لمسة من الشجن، والملحن لم يستخدم هذا المقام في كل هذه الصلاة التي استمرت حوالي عشر دقائق، كما أن الركوز الذي إنتهى عنده اللحن غريب؛ حيث ارتكز على ثانية المقام،وكأننا ننحني خضوعاً وتسليماً لله الوحيد الذي يستطيع أن ينقذنا من حروب ومكايد إبليس، كما أن الركوز الغريب على ثانية المقام ربما يُعَبِر أيضاً عن طبيعة الشيطان ومعاونيه، فهم غرباء في أفكارهم و أفعالهم عن محضر القديسين والمؤمنين، فهو الكذاب وأبو الكذاب وليس فيه الحق.

وهنا يقف الكاهن في صلاته الجهرية وتسبيحه عند هذا الجزء؛ليستكمل الجزء الباقي من الصلاة سراً (ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير بالنعمة والرأفات ومحبة البشر اللواتي لابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، هذا الذي من قبله المجد والكرامة والعزة والسجود تليق بك معه مع الروح القدس المحيي المساوي لك، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين).

ويقول قدس أبونا القمص إسطفانوس سمير معلقا: “كأن الكاهن يستكمل صلاته في صورة “وشوشة” سِرِية بينه وبين الله …،وحسب قول القديس بولس البوشي من آباء القرن الثالث عشر: أن هذه “الذكصا” (التمجيد) تُقال سراً من أجل إتاحة الفرصة للهدوء والصمت في حضرة الثالوث؛ حتى لا يكون التمجيد من الفم دون القلب، لكي تتهيأ الفرصة لطِلبة القلب التي تَخُص كل واحد”.

لينك اللحن بصوت المتنيح المعلم صادق عطاالله:

في النهاية عزيزي القارىء أحب أن أستنتج بعض الأفكار التي تُكَوِن صورة عامة، أستخلصها من الدراسة الموسيقية لهذه الصلاة في عدة نقاط :

أولاً: صلاة الشكر من الناحية الموسيقية عبارة عن مجموعة أفكار متكررة، ولكن موضوعة بتصرف لتساعد على فهم الموضوعاتوالأفكار المتنوعة في هذه الصلاة.

ثانياً: المقام (أوالسلم) الموسيقي هنا هو أساساً مقام (السيكا مع فروعه) متناسب مع فكرة صلاة الشكر؛ فهو مقام الحُب ويمتاز بالتَمَهُل، ومقام الابتهال، وهذا المقام له فرع يُسَمى (راحة الأرواح) يستخدم كثيراً في هذه الصلاة ويتناسب مع موضوعها.

ثالثاً: من الأمور الجميلة في مقام لحن صلاة الشكر أنه يتوافق مع طبيعة أصوات آباءنا الكهنة، فمنهم من يرتاح صوته على الطبقة العالية الحادة التي تناسب صوته (فيصبح المقام هنا هزام)، وبعض الآباء الكهنة تناسبهم الصلاة على طبقة غليظة فيتم “تصوير” مقام الهزام على طبقة أغلظ (فتصبح مقام راحة الأرواح)، (التصوير في الموسيقى هو غناء المقام الموسيقي بنفس أبعاده على درجة موسيقية أخرى)، وهنا تُتيح الكنيسة للكاهن الصلاة في طبقة مناسبة له.

رابعاً: أعطى الملحن عبارة لحنية مميزة تتكرر كثيراً مع نهاية كل فقرة في الصلاة (لها فكرة معينة) لتنهي هذه الفكرة، ونلاحظ أنها دائماً تٌعَبِر بتطويلها عن المعنى المقصود في هذه النهاية.

خامساً: الركوزات الموسيقية خلال هذه الصلاة تُعَبِر عن الأفكار الثانوية (التي لم يكتمل كل المعنى فيها)، والأفكار الرئيسية (التي توضح المعنى السابق أو تكون نتيجة لما سبق من الأفكار) في موضوع هذه الصلاة، وفيها استُخدِمَت الركوزات الموسيقية التى تركز على درجة موسيقية ثانوية في المقام للتوافق مع الأفكار الثانوية في موضوع الصلاة، والركوزات الأساسية التي تكون على درجة الأساس في المقام والتي تريح الأذن،لإنهاء الأفكار والمواضيع الأساسية، أو لتوضيح نهايات الفقرات في الصلاة.

سادساً: إهتم الملحن بوضع خلايا لحنية إضافية مميزة وخاصة،قد تعلو أو تهبط أو تطول؛ لِتُعَبِر عن المعانى المطلوبة في كلمات محددة خلال الصلاة.

سابعاً: وجدنا أيضاً أن اللحن أصبح له وظيفة أخرى كمساعد للحركة الطقسية التي يقوم بها الكاهن (رشم الصليب)؛ لتعطي فرصة لأن تتم الممارسة الطقسية بصورة متأنية.

ثامناً: تنتهي صلاة الشكر موسيقياً بجملة أو عبارة غريبة في مقامها عن المقام المستخدم في كل صلاة الشكر، وفيها تعبير عن الخضوع لله الذي سيحمينا من حروب الشيطان ومعاونيه، كما تُوَضِح أيضاً إختلاف طبيعة الشياطين عن طبيعة القديسين والمؤمنين المتحدين بالله.

تاسعاً: مردات الشماس تكون من نفس طبيعة وروح المقام الموسيقي وتُعتبر تكملة للأفكار الموسيقية التي للكاهن، فألحان الكاهن تُسَلِم اللحن لمردات الشماس، ومردات الشماس تُسَلِم اللحن لمردات الشعب، وينتقل اللحن مرة أخرى للكاهن،وهكذا حتى نهاية الصلاة.

عاشراً: نجد ملاحظة أخرى أن مقدمة الصلاة والتي فيها التبادل مابين الكاهن والشماس والشعب تكون على مقام الصبا، الذي يتميز بنغمة الشجن، وهذا فيه نوع من مناداة الشعب بروح الاتضاع وتهيئة النفوس للوقوف للصلاة في مهابة وخضوع، كما نجد أن مرد الشعب (يارب إرحم) خلال صلاة الشكر يكون على نفس المقام، والذي يناسب طلب الرحمة من الله، ثم يعود الكاهن ليُصَلي بالمقام الذي بدأ منه مرة أخرى.

الحادية عشر: نقول في النهاية أن الألحان القبطية التي نُسَبِح بها في الكنيسة القبطية لها نغمات وألحان وجُمَل موسيقية ثابتة لا تتغير، وتُسَلَم بدقة لا تحتمل الارتجال.

أما في حالة صلوات الكاهن، فالألحان موضوعة بحيث تقال بصورة متحررة من الإيقاع، ومتحررة نوعاً من الجُمَل اللحنية المحددة والثابته، ويمكن التعامل معها بتَصَرُف، بحيث لا تؤثر على السياق العام للحن.

ولكن يتم الإلتزام بالآتي:

1- الركوز النغمي الأساسي أو الثانوي الذي يُحَدِد طبيعة العبارة الموسيقية سواء كانت في صيغة سؤال أو جواب.
2- العبارات الموسيقية المحددة التي تعتبر نهايات محددةللفقرات.
3- المحطات المحددة بخلايا لحنية رئيسية، والموضوعة في اللحن بحكمة لتُعَبِر عن معاني كلمات بذاتها.

وأضع هنا بين يديك رسم توضيحي، يُبَيِن القالب الخاص بصلاة الشكر، والألوان توضح أماكن أداء الكاهن والشماس والشعب، كما تُبَيِن الخلايا أو الأفكار الموسيقية المتنوعة والمتكررة التي رَكَزَ عليها الملحن، والتي تتوافق مع كلماتها من حيث التطويل أو العلو أو الهبوط في النغمات كما تم شرحها في الدراسة.

أتمنى أن تكون هذه الدراسة نواة للفهم والتأمل والاستمتاع بجمال صلواتنا الطقسية في كنيستنا القبطية، راجياً من الله أن تكون هذه الصلاة بركة لحياتنا.

تحليل صلاة الشكر (6)

تاريخ الخبر: 2022-07-21 09:21:41
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 53%
الأهمية: 62%

آخر الأخبار حول العالم

محامي التازي: موكلي كشف أمام المحكمة أشياء كانت غائبة عنا جميعا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 21:26:18
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 59%

محامي التازي: موكلي كشف أمام المحكمة أشياء كانت غائبة عنا جميعا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 21:26:14
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 59%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية