صناعة الحرية (7).. الاقتراح والنموذج


الاقتراح والنموذج..

بعد البيان والبلاغ اقترح صاحب الرسالة مدخلا سلميا وجذريا بديلا يجنب البلاد فتن العنف بأنواعه والظلم بأشكاله والاضطراب بألوانه، وبعيدا عن لغة المؤامرات والثورات الانقلابية العنيفة والنفاق السياسي، عرض الحل في شجاعة الملك وإعلان توبته، ودعوة الشعب إلى الاقتداء به في التوبة، بما تعنيه كلمة “توبة” من معاني الصدق والوضوح والمصالحة مع الله ومع الأمة، وبداية عهد جديد في الإصلاح والبناء، وإنشاء مجتمع جديد، يكون مرجع الإصلاح فيه لا شرقيا ولا غربيا، لا اشتراكيا ولا رأسماليا، وإنما هو منهاج الإسلام في تربية الأمة وتنظيمها وتعبئتها لمستقبل ينتظرها إن هي سارت في المسار الصحيح. يقول محمد الغزالي في حقيقة التوبة: “التوبة كلمة شائعة على الألسنة، حتى لكأن شيوعها ابتذلها وأطفأ سناها الكريم، ومع أن دلالة الكلمة تجعلها أخطر من أن يجازف بها. هل يلغو إنسان فيقول: بنيتُ قصرا، أو يلغوا فيقول: ألفتُ كتابا! إن بناء قصر شاهق أهون من بناء نفس خربة، وإن تأليف كتاب ثمين أرخص من تأليف نفس فرق الهوى أقطارها” .

والمنهج المقترح للتغيير المنشود هو اجتهادٌ منهاجي يستمد أصله ومعناه من الوحيين: قرآن وسنة، ويقصد إلى صناعة المستقبل الإسلامي للأمة، وفق رؤية استراتيجية تؤطرها كليات الإسلام ومطالبه الكبرى، ومتحررة من ثقل الاجتهادات التاريخية، وقد اكتشف الأستاذ المنهاج من خلال قراءاته التدبرية للقرآن الكريم وتتلمذه للسُّنة النبوية بإرادة تجديدية، فارتأى أن طريق تجديد ما بالأمة المسلمة من فتن تبدأ من ثلاثة شروط متصلة كلها بالإنسان: نفسية وتربوية وثقافية هي “الصحبة والجماعة وهي خصلة واحدة. ثم الذكر ثم الصدق” ، وسبعة مبادئ تطبيقية هي “البذل، والعلم، والعمل، والسمت، والتؤدة، والاقتصاد، والجهاد” ، وتشكل في مجموعها منظومة القيم الأساس في تربية الأمة تربية إسلامية إيمانية إيجابية، تنقلها من العيش بذهنية الشكوى العاجزة إلى الحياة بذهنية الوعود الناجزة.

أما المرسَل إليه فـــ“أمامه أولا عقبة نفسه وهواه وملذاته وعاداته وأفكاره السابقة ونظرته للماضي والمستقبل والحاضر، وولائه لما يسميه عرشه. فمتى اجتاز الملك هذه العقبة ورد المظالم كما فعل عمر بن عبد العزيز حق له أن يقتـرح على الأمة اقتحام العقبة معه، ووجب لذلك أن يجمع حوله جماعة بعقد جديد ومبايعة بدل البيعـة تحت قهر السيف، ومشـروعية جديدة” ، بمعنى تصحيح مفهوم البيعة على مقتضى شروط الإسلام لا على مقتضيات التقليد التاريخي الموروث.

لكن قلّما يُصدق الناس تصورا بلا نموذجٍ مُطبَّقٍ أو يحمل إمكانات تطبيقه في مبادئه ووسائله وغاياته، ومن خلال ذلك النموذج تقارن وتنتقد وتقترح، وقد كان الأستاذ واعيا بذلك عندما قال: “ولا تزال الإنسانية تنتظر نموذجاً على ضوئه تنتقد النماذج الفاشلة، وعلى ضوء نجاحه تحلل كذب الوعود التي منّت بها الإيديولوجيات المختلفة ثم أخلفت. لا تزال الإنسانية تنتظر نموذجاً حضاريا يعطي الإنسان قيمته كمخلوق مكرم لا كدابة منتجة مستهلكة، ويعطي الإنسان أفق وجوده، ومعنى وجوده وحياته وموته” ، فأي نموذج للمسلمين اليوم وقد ولَّى زمن النبوة والخلافة الراشدة؟

عرضت الرسالة أمام الملك نماذج من حكام ورجال صالحين مصلحين، كانوا عظماء لأنهم تربوا على أيدي علماء عارفين بالله وكانت لهم بهم صحبة وتلمذة، جعلتهم يرتفعون عن شهوة التسلط، فقدموا نماذج القادة الصالحين الـمـُصلحين، أمثال: يوسف بن تاشفين وأحمد بن عرفان الشهيد في الهند، وسيف الدين قطز في مصر، والمهدي في السودان وعمر المختار في ليبيا… بيد أن الأنموذج السلوكي الفريد للحاكم الذي اقترحه صاحب الرسالة -لتوحيد المسلمين وحقن دمائهم وتجنب الفوضى والعنف- هو الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، الذي أوقف تسلط بني أمية بالسيف والوراثة بعد فسادٍ دام حوالي ستين سنة.

ويعتبر صاحب الرسالة الأنموذج العمري “المخرج الشريف الوحيد الممكن” ، الذي يؤهل الحاكم إن صدق واقتحم واستجاب، ليرقى إلى مصاف القادة الكبار في تاريخ المسلمين، ولينتقل بالمغرب من موقع الضعف والتبعية إلى موقع القوة والاستقلال. فهل يستجيب الملك لهذا النداء؟ ومن هذا الرجل؟ وفي ذلك الظرف؟

صاحب الرسالة وكأنه يعلم بطبائع صاحبه، ويعلم بأنه يصعب على الملك أن ينقاد لرجل يخاطبه بلغة فيها من الشدة والقوة ما لم يعهده من أحد، بل يُستبعد حتى أن يسمع النصيحة، لكنه مضى في نصحه وكأنه يريد إبراء لذمته، وتقديما لشهادته، سواء استجاب المنصوح أو أبـَى، سكت أو تكلّم، قبِل النصيحة أو رفضها، فعهده ماض كما مضى من سبقه في التاريخ، وإنه لابد وأن تتخلص الأمة من أنظمة الحكم الجبري وآفاته، لتنهض بواجبها الرسالي بين الأمم . فهو ينظر إلى ما بعد مرحلة الحكم الجبري وما تستشرفه الأمة المسلمة من مستقبل زاهر.

بين ياسين والملك..بين ياسين والملك..

لم تكن لصاحب الرسالة -من خلال مضمونها- أية رغبة في منصب أو طلب وجاهة، كما يظهر أنه لم يخاطب الملك خطاب حقد وكراهية، بل يظهر من الرسالة أنه يُقدره ويوقره ويحبه لنسَبه الشريف ، وينصحه ويستنهضه بصراحة ووضوح لإحداث قطيعة مع مغرب قديم والانتقال إلى مغرب جديد، أو بتعبير قيدوم الصحافيين بالمغرب سابقا مصطفى العلوي رحمه الله (ت2019م) “وضعُ مستقبل سليم لمغرب سليم” ، لكن “المحبة التي لا تنصح والرفق الذي لا يغرك بحلم الله عليك خداع ممقوت” ، لذلك قام ياسين قومته الفردية بجرأة كبيرة، وقال قولا بليغا لصديقه الملك، من غير وهن ولا استكانة.

أما الملك فقد كان يعرف صدق صاحب الرسالة وعمق رسالته، ويوقن بأنه معارضٌ أصيل؛ يحمل مشروعا تغييريا حقيقيا، ولا يريد كسر جهاز الدولة؛ أي لا يريد عنفا ولا فتنة ولا انقلابا، لذلك تفطن لقوة مشروعه، وحاول التخلص منه في المهد بطريقة صامتة. فهو ملكٌ والملك لا يجد أدنى صعوبة في استصدار فتوى من العلماء لتصفية شخص ما، بل هو يفتي نفسه بنفسه، والأنهار كلها تجري من تحته. غير أنه قدَّر أن تكون عاقبة قتله أخطر من الإبقاء عليه حيا.

وجرى قدر الله كما كان مقدرا.

ولم يعامل الملكُ الأستاذَ كما عامل كبار ضباط الانقلاب ولا الوزراء الطامعين في الاستحواذ على السلطة (بالإعدام فورا)، بل طلب مقابلته بُعيد اعتقاله، إلا أن صاحبنا أبدى عدم استعداده لتلك المقابلة ، وبسبب رفض مقابلة الملك تمَّ تنقيل الأستاذ إمعانا في العقاب من مستشفى الأمراض الصدرية إلى مستشفى المجانين . ويعلم الله إلامَ كان يقصد الحسن الثاني من تلك المقابلة.

 وأنَّى لسجين أن يرفض مقابلة السلطان! 

أم للأكابر والكبراء لُغتهم الخاصة في التواصل والحوار؟

الموقف نفسه نجده عند العلامة الحسن اليوسي لما رفض مجالسة السلطان المولى إسماعيل، وفضل المكث في بيته للتأليف، قائلا:

إن لَزمنا الملوكَ تاهوا علينا.. واستخفُّوا جهلا بحق الجليسِ

فلزمنا البيوت نستعمل الحبر.. ونملأ به وجوه الطُّروس

فـقَنِعــنا بـمـا رُزقـنا فـصِـرنا.. أمراءَ على الملوكِ الرؤوسِ


[1] الغزالي، محمد، الجانب العاطفي من الإسلام، نهضة مصر، الجيزة، ط3، 2005م، ص 157.
[2] ياسين، عبد السلام. الإسلام أو الطوفان، مرجع سابق، ص 134.
[3] المرجع نفسه، ص 134.
[4] المرجع نفسه، ص 133.
[5] المرجع نفسه، ص 146.
[6] المرجع نفسه، ص 58.
[7] انظر: ياسين، عبد السلام. حوار الماضي والمستقبل، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1997م، ص: 257.
[8] ياسين، عبد السلام. الإسلام أو الطوفان، مرجع سابق، ص 44، 45، 48…
[9] العلوي، مصطفى. “قالوا عن الإمام في ذكراه الرابعة”، شهادة منشورة في شريط فيديو يحمل نفس العنوان، يوم 23 دجنبر 2016م، في قناة بصائر (yassine.tv). ابتداء من الدقيقة 10:22.
[10] ياسين، عبد السلام. الإسلام أو الطوفان، مرجع سابق، ص: 52.
[11] انظر: الجزء الثاني من حوار مع الإمام في برنامج مراجعات (الحلقة الثانية)، مرجع سابق.
[12] ياسين، عبد السلام. حوار شامل، حاوره: منير ركراكي وعبد الكريم العلمي، دار العدل والإحسان للنشر، أمريكا (JSPublishing – New Britain, PA, USA)، ط1، 2014م، ص 26.
[13] اليوسي، أبو الحسن. رسائل أبي علي الحسن بن مسعود اليوسي، جمع وتحقيق فاطمة خليل القبلي، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1401ه/1981م، 1/143.
تاريخ الخبر: 2022-08-08 21:20:13
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 53%
الأهمية: 51%

آخر الأخبار حول العالم

بركة : مونديال 2030.. وضع خارطة طريق في مجال البنيات التحتية

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-03 03:24:53
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 64%

بوريطة يتباحث ببانجول مع نظيره المالي

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-03 03:24:56
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 55%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية