نبيل عبد الفتاح يكتب: «مقهى ريش».. تاريخ القاهرة من خلف زجاج المقهى
نبيل عبد الفتاح يكتب: «مقهى ريش».. تاريخ القاهرة من خلف زجاج المقهى
الكتابة عن تاريخ حياة بعض المقاهى تبدو نادرة فى التراث الكتابى المصرى والعربى، لأن هذا النمط من السرديات الحاملة تواريخ هذه الأمكنة وبَشَرها وأفكارها وسيسيولوجية المقاهى وجمالياتها، هى تقليد فكرى وتأريخى دار حولها بوصفها مراكز لإنتاج المعرفة والفنون والأدب والشعر والأطروحات الفلسفية منذ القرنين الثامن والتاسع عشر مع بلزاك ونيرفال والرسام الكبير بول سيزان، مرورًا بالقرن العشرين، حيث تألقت مقاهى حى السان جيرمان التى انطلقت منها السيريالية مع أندريه برايتون وجاك بريفيه والوجودية مع سارتر وسيمون ديبفوار، فنشروا بياناتهم وأفكارهم بين مقاهى الدوم والديماجو والفلور ولويب وكلينيه. فالكتابة عن المقاهى جزء من تاريخ المكان وهويته وحيويته ومحمولاته الفكرية والجمالية ورائحته وتقاليده وعاداته، فتبدو سردية المقاهى الباريسية جزءًا من تاريخ فرنسا بلا نزاع، حيث يمكن القول إنها تعد مرجعًا للكتابة عن تاريخ المقاهى فى كل من القاهرة والإسكندرية وبيروت وبغداد ودمشق.
سردية مقهى ريش موضوع هذا الكتاب هى جزء من تاريخ التحديث المعمارى فى وسط القاهرة المحروسة بروحها الفكرية والفنية والموسيقية، من هنا شكّل المقهى منذ بداية القرن الماضى أحد حراس الحداثة فى الأفكار والحوار والأناقة والجدل الصاخب، حيث الأيديولوجيا وحاملها وبعض من الفلسفيات والأخيلة الفنية والروائية.
من هنا تبدو أهمية كتاب الشاعرة والروائية ميسون صقر الذى يتسم بالسلاسة والجزالة الأسلوبية والسرد التاريخى الموجز للقاهرة وأماكنها وطرزها المعمارية وكبار معمارييها الأجانب والمصريين فى كثافة مقدرة، ووضع المقهى فى مجاله المعمارى والتاريخى والتركيز الموثق على توثيق تاريخه الخاص وتسلسل ملاكه من الأجانب إلى المصريين، وعلاقة المقهى بجهاز الدولة المختص من حيث وثائق التراخيص الإدارية والأمنية، فضلًا عن التوثيقات العديدة لحياة ريش الفكرية والاجتماعية والسياسية ودورها فى هذه المسارات المتعددة.
مقاربة جدية لأنه لا يمكن فهم سيوسيو ثقافة المكان الذى يعد جزءًا من التراث المادى إلا من خلال استيعاب تاريخه وإعادة بناء ذاكرته الشفاهية وطرزه الموثقة وتراثه، والأهم الجوهر وراء أحجاره وبشره وتفاعلاته وصراعاتهم وأدوارهم وعلاقتهم بالمكان عبر الزمن.
أجادت الكاتبة ميسون صقر- فى سردية مشوقة- تحيين ذاكرة المقهى وعوالمه المتغيرة والمتعددة. هذه السردية التى تمثل إعادة بناء لروح المقهى وذاكرته وعوالمه ووسطه المعمارى فى ظل تحولات المدينة وفضاءاتها.
كتاب شيق حول مقهى ريش كجزء من الذاكرة الجمالية والحداثية لفضاءات وسط المدينة المعمارية والاجتماعية والسياسية عبر مراحل تطوره، يحمل روح المحبة للحداثة وهو يمثل مرافعة عن أمكنة التحديث والحداثة والأفكار والانفتاح على الدنيا وانفتاح المجال العام الحر وجدالاته والانفتاح على التجديد فى الرؤى والأفكار والفنون والأدب وعلى القيم الجمالية للحياة الحديثة حول المقهى وتطوراته وشخوصه ونجومه الذين تتجلى صورهم عبر حوائطه ويستثيرون المخيال التاريخى والثقافى لواحد من أهم المقاهى وسط المدينة العامرة لحراسها من المفكرين والمبدعين والفنانين ولا تزال علامة على هوية وسط المدينة وجماليتها.