في محاولة سبر كنه العجز المؤسسي للفاعلين السياسيين في بلاد الدوسان


 

في محاولة سبر كنه العجز المؤسسي للفاعلين السياسيين في بلاد الدوسان

بكري الجاك

هنالك مبدا اصيل في النظرية السياسية يعرف بال agency التي يمكن ان تترجم الي الوكالة و تعرّف ب “خاصية او قدرة الفاعلين علي فعل الاشياء” حسب معجم برتانيكا، ومفهوم الagency الوكالة هو ركن اساسي في النظرية السياسية بمنطق أن الأنشطة و الأفعال السياسية يقوم بفعلها فاعلين سياسيين تمكنّهم وكالتهم من امتلاك القدرة و القوة علي تحقيق نتائج و احداث التغيير. و في سياق الممارسة السياسية، الوكالة عادة ما ترتبط بفاعليين من بين الناس، و هنالك جدل و خلاف حول ربطها برهط معين من البشر. و برغم أن الوكالة الفردية Human Agency احيانا تُساوي بالوكالة السياسية Political Agency الا أن هنالك بعض المنظرين من امثال نيكلولو ميكافيلي Niccolo Machiavelli و ماكس ويبر Max Weber قد فرقا بين الوكالة السياسية و الوكالة الفردية و جادل كل منهما أن الحكام الفعّالين يحتاجون الي قدرات خاصة في المعرفة بحرفة ادارة الدولة اي statecraft الا أن السؤال الذي يتبادر الي ذهن القاريء هو ما علاقة كل هذه المفاهيم و المقدمة المفاهيمية و ما يبدو من عجز باين في الحياة السياسية في بلادنا؟

منذ فترة كنت قد كتبت مقالا سردت فيه قصة لاحد المعارف (ج) من ايام التجمع الوطني في اسمرا انه كان يتفرج علي قناة فرنسية حينما قام صديقي (ص) بزيارته ووجه لصاحب البيت سؤال هل تتحدث الفرنسية يا (ج)؟ فاجاب الرجل بلا، ثم اردف (ص) اذن لما تتفرج علي هذه القناة؟ فاجاب (ج) قائلا “ما يمكن تجيب حاجة” و اصبحت هذه المقولة اضافة الي مقولات أخري من بين افضل الأطر النظرية الاصيلة في تفسير الكثير من ما يحدث في بلادنا. و في ذات المقال كنت قد جادلت أن جل الفعل السياسي في بلاد السودان يمكن تفسيره ب “ ما يمكن تجيب حاجة” بمعني أن يقوم الفاعل السياسي بفعل شيء ما دون التفكّر في ماذا كان هذا الفعل له علاقة بالنتائج المرجوة، وهذا جذر فكرة العقلانية الذي يربط الافعال بالنتائج، او حتي بالتدبر في ما اذا كان هذا الفعل هو مجرد جهد لتراكم أفعال كمية يرجي أن تحدث تغييرات نوعية في مرحلة ما. العاملين في المنظمات بالذات لمستجدين في عمل المشروعات عادة ما يلوكون هذه المفهوم و يقشرون به تحت مسمي نظرية التغيير و يحلو لبعضهم تكرارها بالانجليزية The Program’s Theory of Change و يقصد به كيفية ربط التدخلات و الانشطة التي عادة ماتكون ضمن اي برنامج و النتائج المرغوبة و كل ما كان هذا الربط بيّنا و مباشرا و كل ما كان لصاحب المشروع و مصمميه الحق في التشدّق أو ما تسميه الفرنجة بال Bragging Rights

اعتقد في الآونة الاخيرة اننا دخلنا مرحلة ما بعد “ ما يمكن تجيب حاجة” و هي مرحلة تخلي الفاعلين السياسيين بوعيهم او بدونه عن وكالتهم السياسية في القيام بافعال و انشطة تحدث التغيير و هو ما يمكن أن نسميه بالعجز المؤسسي Institutional Inertia و يعرّف العجز المؤسسي و الذي تقول نظريته انه الوضعية التي تعجز فيه اي منظمة (مؤسسة) من تبني او تعديل او التخلي عن او التمسك بممارسات ما في سياقات محددة، و عادة ما يكون هنالك تفاعلات وضغوطات مؤسسية داخلية تشكل و توجه و تعيق اي محاولات لفعل شيء مغاير سواء بتبني او بتعديل او بترك طرائق جديدة او اساليب جديدة يمكن ان تكون نواة لنظرية جديدة للتغيير.

الشاهد أن أهم الفاعلين السياسيين في المشهد السياسي بدءا بالجنرال البرهان و انتهاءا بالقوي السياسية المنظمة أنهم ينتظرون حدوث شيء ما دون التفكير او حتي الافصاح عن من سيقوم بالشيء الما هذا، جلّهم تسمعهم يتحدثون و يقولون أن شيء ما سيحدث دون أن يقول اي منهم من سيفعله أو ما هي العوامل التي ستتغير أو ما هي التدخلات التي ستتغير في معادلة توازن الضعف التي ستكون بمثابة نظرية جديدة للتغيير اذا سمح لنا القاريء باستخدام لغة عيال المنظمات و خصوصا الذين لا يكترثون للعمق المعرفي بعمليات التغيير الاجتماعي و السياسي و الثقافي و لهم زخيرة كافية للقشرات الفلسفية و القفشات الفكرية، و كيف لا و نحن ما زلنا نتجادل في البديهيات و تتسيد مشهدنا ثقافة رؤوس المواضيع أو سمها “الاوضة و البرندة “ التي تشكل مخيال الفاعل السياسي الذي يظن أن ليس بالامكان افضل مما يحدث، و يا له من فقر خيال.

خلاصة القول أن ما يتبدي في الافق هو تخلي الفاعلين السياسيين عن وكالتهم السياسية التي تمنحهم القدرة للقيام بافعال من شأنها ان تكون بمثابة تدخلات لتحقيق نتائج و احداث تغييرات مهما كانت محدودة، و ما يسبب هذه الظاهرة في تقديري هو العجز المؤسسي المشار اليه في عاليه اذ أن جل الفاعلين السياسيين يتحركون في فضاء مؤسسات هي غير قابلة لتبني او تعديل او التخلي عن او التمسك بممارسات بعينها او بغيرها و يصبح الأمر الواقع سيد نفسه، اذ أن حالة العجز المؤسسي تشير الي أن كل الاشياء تتحرك و كأنها طائرة يديرها طيار آلي في حين أن الكابتن اصبح عاجز بالكامل و قد لا يكون حتي قادر علي الفرجة لما سيحدث لطائرته. تجد بعض الفاعلين يحدثونك عن أن شيء ما سيحدث مثل توافق سياسي او حلول فضائية ستهبط و يتناسي هؤلاء أن هذه الاشياء لا تحدث نفسها بل هم المنوط بهم فعلها لانهم اصحاب وكالة سياسية بالاصالة. اما الشارع الثوري علي ما يصيبه من تراجع في حراكه بسبب الارهاق و الاحباط و انسداد الافق و تعقد طبيعة المواجهة من بين اسباب اخري الا أنه يظل الفاعل السياسي الوحيد الذي يستخدم وكالته لفعل شيء حتي و ان كان هذا الفعل محض هتاف أو قصيدة و صفقة فهذه حيلة الثائر. و لقوي الانقلاب نقول أن حالة الطائرة بلا طيار هذي ستقود الجميع بما فيها انتم الي كارثة حتمية، و لقوي الثورة العاملة لتحقيق السلام و اشاعة الحريات و بناء دولة المواطنة المتساوية و العدالة الاجتماعية و النوعية و الانتقالية نقول “ما بتجيب حاجة” و لا شيء سيحدث دون استعادة وكالتكم و فعلكم المبادر و المثابر علي الارض و بشكل منظم، أما نظريات التغيير فهي لا تنتج تغيير دون فعل و فاعل.

بكري الجاك
21 اغسطس 2022

تاريخ الخبر: 2022-08-21 21:23:48
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 51%
الأهمية: 56%

آخر الأخبار حول العالم

أمطار رعدية ورياح تؤدي إلى تدني في الرؤية بعدد من المناطق السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-09 06:23:42
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 56%

ماذا طلب كريم عبد العزيز بعد ساعات من وفاة والدته؟ - منوعات

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-09 06:20:47
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 58%

استقرار صرف السلع بعد تطبيق منظومة التموين الجديدة - أخبار مصر

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-09 06:20:44
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 69%

«ميونخ السينمائي» يكرم كيت وينسلت في دورته الـ41 - فن

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-09 06:20:46
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 65%

وزير النقل يستقبل أولى رحلات الحجاج في المدينة السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-09 06:23:43
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 60%

الأهلي يفاوض صفقة مغربية جديدة.. بديل علي معلول - رياضة

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-09 06:20:48
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 55%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية