اغتصاب حقوق أتراك إقليم تراقيا الغربية ورفض السلطات اليونانية تنفيذ قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ما هو إلا استمرار لمسلسل سلب حقوق المسلمين واضطهادهم منذ اندلاع التمرد الذي أشعله اليونانيون ضد الدولة العثمانية مطلع القرن التاسع عشر.

وإذا ما أخذنا سيلانيك (سالونيك) مثالاً، نجد أن المدينة الساحلية التي ظلت عثمانية لأكثر من 500 عام وكانت تُعرَف باسم "مدينة المآذن"، تخلو من المساجد تماماً وليس فيها مسجد واحد مفتوح للعبادة اليوم.

لمدة 500 عام كانت سيلانيك مدينة تركية بامتياز ساد بين حاراتها وأزقّتها التعايش والتسامح، حيث عاش الأتراك واليونانيون واليهود في سلام تامّ في ظلّ الحكم العثماني، وتطورت التجارة بفضل السكة الحديد والمواني التي بناها العثمانيون وبفضلها أصبحت المدينة قاعدة اقتصادية ومركزاً تجارياً لكل منطقة البلقان، لدرجة أنها وُصفت آنذاك بـ"بوابة أوروبا"، بعد المعاهدات التي عقدتها الدولة العثمانية مع أوستريا-هنغاريا وروسيا، إذ تكونت في المدينة طبقة تجار كبيرة ذات علاقات مع كل دول أوروبا.

سيلانيك العثمانية

كمعظم الأراضي اليونانية التي وقعت تحت الحكم العثماني قبل عدة عقود من فتح العثمانيين مدينة إسطنبول عام 1453، ضم العثمانيون مدينة سيلانيك تحت مظلة حكمهم نهائياً في عهد السلطان مراد الثاني عام 1430.

وخلال الفترة العثمانية، شهدت المدينة نموّاً متزايداً في عدد السكان من المسلمين واليهود، فيما نما عدد اليهود اطّرادياً بالتزامن مع اضطهاد يهود إسبانيا في محاكم التفتيش، فبدأ هؤلاء الوصول والاستقرار في المدينة بعد استقبال العثمانيين لهم بدءاً من عام 1500.

وبمرور الوقت أصبحت المدينة تحتوي على ثلاث مجموعات عرقية أساسية: المسلمون الأتراك، والأرثوذكس اليونانيون، واليهود السفارديم (القادمون من إسبانيا)... إلى أن تغير كل شي مع استيلاء المتمردين على المدينة خلال حرب البلقان الأولى في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1912.

سلخ المدينة من ذاكرتها

لم يغيّر استيلاء المتمردين على المدينة تركيبتها السكانية والعرقية وحسب، بل امتدّ ليطال ذاكرتها ويدمّر تاريخها وهندستها المعمارية الرائعة التي بدأت تتعرَّض للهدم منذ عام 1912. وكما استُوليَ على ممتلكات المسلمين واليهود الذين خلت منهم الأحياء والأزقة، حُوّل عديد من المساجد في سيلانيك إلى كنائس. أيا صوفيا والقاسمية والمسجد القديم وورتاشي سلطان وإسماعيل باشا وإكي شيرفلي، بالإضافة إلى مساجد السلطان مراد، هي بعض من هذه المساجد.

بعد ذلك تُركت المدينة التركية التاريخية رسميّاً لليونان بموجب معاهدة أثينا لعام 1913. في ذلك الوقت كان يعيش في المدينة 61 ألفاً و430 يهودياً و45 ألفاً و867 تركياً و39 ألفاً و956 يونانياً.

وفي الحرب العالمية الأولى دخلت القوات المتحالفة سيلانيك، ومنها فُتحت الجبهة المقدونية ضدّ البلغار. عند احتلال المدينة يوم 18 أغسطس/آب 1917 اندلع حريق لم يأتِ فقط على مباني ومساجد المدينة، بل وشرّد نحو 70 ألف نسمة من سكانها، سبّب هذا الحريق هجرة كثير من سكانها المسلمين واليهود إلى تركيا واستُبدل بهم مهاجرون يونانيون من آسيا الصغرى بعملية التبادل السكاني عام 1923.

"مدينة المآذن"

طوال العهد العثماني الذي امتد أكثر من 5 قرون، زيّنت المآذن مدينة سيلانيك الساحلية، حتى عُرفت باسم "مدينة المآذن". بمرور الوقت، إما بفعل الزلازل والحرائق وإما عملاً بمنهج التدمير المفتعل، لم يبقَ في المدينة إلا مئذنة واحدة فقط من بين مآذن 139 مسجاً كبيراً كانت في سيلانيك عام 1923.

تُعتبر سيلانيك ثاني أكبر مدينة في اليونان بعد أثينا، كما أن مظهرها يشبه إلى حد كبير مدينة إزمير التركية غرب الأناضول. مع ذلك دُمّر 98% من المباني والأعمال الهندسية التركية. المباني التي صمدت أمام الحرق والتدمير الممنهَج لم تنصمد أمام زلزالَي 1936 و1978، وبدلاً من استعادتها وترميمها أُزيلَت من التاريخ كلياً.

ويُستخدم عديد من المساجد التاريخية في اليونان لسنوات طويلة استخداماً يتنافى مع الغرض من بنائها، فبينما حُوّل بعض المساجد إلى كنائس ومتاحف وقاعات عرض، صار بعضها حانات أو دور سينما، فيما تُرك عديد من المساجد الأخرى لتواجه قدرها.

ولم تقتصر تجاوزات اليونانيين على المباني والمساجد، إذ امتدت لتطال قبور المسلمين أيضاً. يُذكر أن من بين القبور التي دُمّرت كان قبر علي رضا أفندي، والد مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك.

TRT عربي