الاحتضان الأسري للمسنين


يُعد الاهتمام بفئة المسنين من صميم الاهتمام بالأسرة المسلمة التي أمرنا ديننا الحنيف بصيانتها والحفاظ على عرضها وهيبتها ووقارها. فإذا كان الصغار يمثلون مستقبل الأمة المسلمة فإن كبارها يعتبرون خزانا وافرا من التجارب الإنسانية، ورصيدا كبيرا من القيم الأخلاقية الأصيلة التي تم الحفاظ عليها بعد المعاناة والتجارب الحياتية الطويلة.

يُجمع الباحثون المعاصرون على أن الرجل المُسِنّ هو كل رجل بالغ للستين من العمر. واعتبروا الشيخوخةَ مرحلة من مراحل نمو الإنسان. وقد تمتد وتفوق المراحل التي قبلها عند البعض. واعتمد بعض الباحثين المعيارَ الزمني لتحديد هذه المرحلة العمرية. فقد تحدث “كافان وهورلوك” عن كبر السن المبكر وكبر السن المتقدم وغيرها من التسميات . ومن العلماء من أخذ بالتقسيم الآتي:

1) الكهل: من 60 ـ 75 سنة. والمسن في هذه الفترة ما يزال قادرا على أن يساهم في مجالات الحياة المختلفة بحيوية.

2) الشيخ: من 75 ـ 85 في هذه الفترة تضعف قدرته على المساهمة في مجالات الحياة وغالبا ما يلزم بيته.

3) الهرم من 85 عام فأكثر غالبا ما يرقد في فراشه في هذه الفترة.

4) المُعَمَّر: هو من بلغ سن المائة فأكثر.

ويرى آخرون “أن المعيار الزمني وحده ليس كافيا لتحديد مرحلة الشيخوخة، ولذلك يلجأ كثير من الباحثين لمعيار آخر وهو المعيار الوظيفي والذي يعطي مؤشرا للعمر بالنسبة للقدرة الأدائية “ .

وهناك بعض النظريات التي تسعى لتفسير ظاهرة الشيخوخة. من بينها نظرية هرمون الشيخوخة، حيث يعتقد بعض الخبراء أن الهرمونات التي تتحكم في وظيفة الأعضاء يمكن أن تكون السبب في الشيخوخة . وهذا الهرمون هو هرمون الأندروجين عند الرجال وهرمون الإستروجين عند النساء. لذلك اعتبره بعضهم مرضا. وكذلك اعتبره رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في قوله: (تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد، الهرم) . فالهرم مرض كما ورد في هذا الحديث. ومهما اجتهد العلماء في ابتكار دوائه فلن يفلحوا أبدا. وقد أخبرنا الصادق المصدوق بعدم وجود دواء هذا الداء.

يستمر المسن بحياته الطبيعية في حدود القدرات الجسدية التي يمتلكها. وعندما يتعرض للأمراض تتأثر حياته بها وتتعرض لصعوبات التكيف مع مجريات الأحداث. ويبدأ في فقدان استقلاليته تبعا لنوع المرض الذي أصابه. ويتميز هذا السن بجملة من المتغيرات الفزيولوجية والنفسية والاجتماعية، وتؤثر بصورة مباشرة على وتيرة ونوعية حياته اليومية وعلى حياة الأسرة التي يعيش فيها.

لذلك وصف الإسلام هذه المرحلة بالضعف، وأكد على توقير ذي الشيبة المسلم وغير المسلم. ونص على وجوب إكرامه وبره. فقد ذكر الله هذه الفئة، بصيغ مختلفة، في أكثر من آية. نقف منها على قوله عز وجل:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ. وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (سورة الروم الآية 54).

 2 –وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ. وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (سورة النحل. الآية 70).

 3- وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نَنْكُسْهُ فِي الْخَلْقِ. أفَلا يَعْقِلُونَ (سورة يس الآية 68).

فقد بين الله عز وجل التطورات التي تطرأ على جسم الإنسان، عبر الزمن، على المستوى الصحي وما يتبع ذلك من ضعف على المستوى الجسدي والنفسي والعقلي. والضعف نقصان العلم، ونقصان البصر والأسنان وهشاشة العظام والأمراض المختلفة. من ضعف إلى قوة ثم العودة إلى الضعف مرة أخرى. فسبحان الله أحسن الخالقين.

 4 – وإن من مكارم الأخلاق، والفضائل الحميدة الإحسان إلى المسنين عامة، ورعايتهم والسعي في إزالة الهموم والأحزان عن حياتهم والحفاظ على هيبتهم. ولذلك أمرنا بالعناية بهذه الفئة من الناس، وربَط ذلك بعبادته عز وجل في قوله: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذلّ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَقُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا(سورة الإسراء الآية 23 و24).

إن توقير المسنين وحمايتهم، يذكي لديهم الشعور بالطمأنينة والأمن النفسي. وهذا أقل ما يمكن أن توفره الأسرة للمسن. وإن التقليل من شأنهم وإحساسهم بالمهانة واستفزازهم لفظيا يذكي لديهم الشعور بالتهميش والمهانة، ويجعلهم يسخطون على وضعهم ويحتجون باستمرار ويوبخون من حولهم.

ولم يغفل رسولنا الكريم ﷺعن الالتفات لهذه الفئة من عباد الله الذين أمضوا عمرهم في خدمة غيرهم وإسعادهم، وأوصى الشباب والصغار في أكثر من حديث بإكرامهم.

1 – عن أَبي موسى قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: (إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرآنِ غَيْرِ الْغَالي فِيهِ والجَافي عَنْهُ، وإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِطِ). حديثٌ حسنٌ، رواه أَبُو داود.

2 – عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا) .

وإذا كان الإسلام يدعونا إلى حسن المعاملة مع الناس عامة، فإنه أفرد لهذه الفئة آيات وأحاديث عديدة تدعونا لحسن معاشرتهم ووقارهم. نحتضنهم بدفء الصحبة ليحسوا بالأمان. نتفقد أحوالهم نرعى مصالحهم، ونتدخل لعلاج مشاكلهم. فاحتضانهم رعاية مستمرة ومنتظمة. لذا تتطلب صبرا وحلما ومداراة وسعة الصدر وعدم الانزعاج من الانتقادات.

وإذا رجعنا إلى الإحصائيات الوطنية والدولية نجد أن منظمة الأمم المتحدة توقعت أن تكون الشيخوخة: “واحدة من أبرز التحولات الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين، حيث ستؤثر في جميع قطاعات المجتمع، بما في ذلك سوق العمل والأسواق المالية، والطلب على السلع والخدمات، مثل السكن والنقل والحماية الاجتماعية، فضلا عن البُنى الأسرية والروابط بين الأجيال” . “وستواجه كثير من البلدان ضغوطا سياسية ومالية بسبب النظم العمومية فيها مثل نظم الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية وإتاحة الحماية للشريحة المسنة” .

والمغرب ليس ببعيد عن هذا الوضع، فقد سجل ارتفاعا في عدد المسنين. ومن المتوقع أن يعيش المشاكلَ نفسَها التي عانتها وما زالت تعانيها البلدان الأوروبية، وعلى رأسها مشكلة أنظمة التقاعد ودور المسنين والتأمين الصحي. وتكشف أرقام رسمية سابقة صدرت عن المندوبية السامية للتخطيط عن كون الإحصاء الأخير لسنة 2014 خرج بنتيجة أن المسنين الذين يتجاوز عمرهم 60 عاما يمثلون 9.6 في المائة من مجموع ساكنة البلاد الذين يصلون إلى زهاء 34 مليون نسمة .

وأمام هذه الوضعية فإن حُسن احتضان جيل الشباب لجيل المسنين الموجودين داخل بيوتهم، أو ضمن أسرهم الممتدة، أو من حولهم من جار وصديق، عمل واجب. والمقصود هنا بحسن الاحتضان هو احتضان بالمعنى الإيماني الذي يتأسس فيه العمل على التقرب إلى الله عز وجل وطلب وجهه الكريم. احتضان يتعدى تقديم الخدمات اللازمة إلى رعاية الأحوال الإيمانية للمسنين بعد ضعف قِواهم. وذلك بالتذكير المستمر بالله عز وجل وتذكيرهم بأوقات الصلاة، وتذكيرهم بفضائل الأيام صوما وذكرا وقياما. هذا فضلا عن القيام بالخدمات الخاصة بهم وتوقيرهم وإجلالهم. والاحتضان العرقي يقتصر على معاني الأبوة والأمومة ولا يتعداها لغير ذلك. وهذا الأخير قد يتأثر بما اصطلح عليه بصراع الأجيال.

ولا شك أن الأجيال تختلف في الرؤى والتصورات من بيئة إلى أخرى. فالبيئة التي تقوم على الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم تقِلّ فيه الفجوة بين الأجيال السابقة واللاحقة، نظرا لوجود فكر جامع وقيم موحدة يقرب بينها. يتواصل فيها الشباب مع الشيوخ بيسر. ويسود التقدير والتوقير والاحترام. فلا يُقال لهم أفٍّ ولا ينهرون فيها. وتكون خدمة الشباب للكبار مَسلكا من مسالك طاعة الله ورسوله، وعملا يُؤجَرُ عليه فاعله. في هذه البيئة توصف العلاقة بين الأجيال على أنها تكاملية. يستفيد الشباب من خبرات الشيوخ في الحياة، ويستفيد الشيوخ من خدمات الشباب.

والأجيال المتباعدة عن المعاني الإيمانية غالبا ما تكون فيه العلاقة علاقة صراع حول التصورات المتعلقة بالمعتقدات الدينية أو السياسة أو الثقافة. صراع إيديولوجيه تغذيه تيارات وافدة باسم التجديد الثقافي. تتصارع الثقافة الغربية مع الثقافة الإسلامية في مظاهر مختلفة أبرزها التضاد بين الأصالة والمعاصرة. وتضيع هيبة ووقار الشيوخ في خضم صراع فكري يتذرع بعامل السن. فنجد جيل الشيوخ يتشبث بالموروث، وله ذوقه الخاص به، سلوكا وتعبيرا. وجيل الشباب يدعو إلى الحداثة، وله مفاهيمه وسلوكه يصارع بها سابقه. يتهمه بالتخلف عن الركب الحضاري. وقد يصل الاختلاف إلى حد تبادل التهم. فيتّهِمُ الأبناء آباءهم بأنهم لا يتناغمون مع إيقاع العصر، ويصفونهم بالتشدد. بينما يتهم الآباء أبناءهم بقلة الخبرة وعدم احترام القيم والعادات والتقاليد .

ومن المؤكد أن المسنين عاشوا في مرحلة شبابهم على تصورات ومفاهيم مجتمعية محددة، صنعت عقليتهم، وحددت طرق تفكيرهم في مرحلة رجولتهم. وراكموا خبرات في مجالات تخصصية لا يمكن الاستغناء عنها. لذا فإن الرجوع إليهم بين الحين والآخر يُمَكن من الاستفادة من تلك الخبرات واستثمارها.

إن احترام الشباب لكبار السن له جذور ثابتة في الشريعة الإسلامية. فعـن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال: (ليس منا من لم يرحمْ صغيرَنا، ويُوَقِّرْ كبيرَنا) . وفي رواية أخرى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ : (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا) .

ذهب المفسرون إلى أن المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم “ليس منا” أي ليس على طريقنا وهدينا وسنتنا. هنا تتضح خطورة التفريط في حقوق المسنين، والتي تتجلى في مجانبة السنة النبوية. لذا فإن التحلي بهذا السلوك عمل تربوي يمتد إلى جذور الطفولة، حيث يبدأ الكبير باحترام من هو أصغر منه سنا. فينطبع الاحترام المتبادل في قرار قلوب الأبناء، ثم يصير جِبلة في سلوكهم اليومي. واضح إذن أن التنشئة على احترام المسنين وتوقيرهم يتأسس منذ الطفولة المبكرة.

في المجتمع المبني على القيم الإسلامية يتحمل الوالدان مسؤوليتهم كاملة في تنشئة أبنائهم وتربيتهم تربية حسنة. فتكون العلاقة مبنية على الاحترام والحب المتبادل. وتكون والرحمة بينهم والرفق والتوقير والوئام. يعطف الكبير على الصغير ويوقر الصغير الكبير. يكون التحاور والتشاور، فيكون التكامل بين الآباء والأبناء في أداء الأدوار المطلوبة في الحياة. وتتوارث الأجيال هذا السلوك أبا عن جد، فينعكس ذلك على تعامل الشباب مع المسنين.

ولعل التطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تشهدها المجتمعات الإسلامية اليوم ساهمت في توسيع الفجوة بين الأجيال داخل البيت الواحد. ولكن النداء الإيماني يحدونا لاحتضان المسنين إكراما وإحسانا لهم، ليس من باب رد الجميل فقط ولكن اعتبارا للتوجيهات الربانية في قوله عز وجل: وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذلّ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَقُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا(سورة الإسراء الآية 23 و24). فاحتضانهم عمل يرضاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسلوك نبتغي به وجه الله عز وجل ونتقرب به إليه.


[1] الدكتورة أمينة الهيل،الحماية الأسرية للمسن في المجتمع القطري. ندوة “الحماية الاجتماعية والقانونية لكبار السن” 2014.
[2] حسني إبراهيم عبد العظيم، الشيخوخة النشطة: رؤية أنثروبولوجية.الموقع الإلكتروني: الحوار المتمدن، العدد 5204. بتاريخ 25/06/2016.
[3] تركواز بوست، هرمون الشيخوخة : ماذا تعرف عن هرمون التقدم في العمر. نشر بتاريخ 15 مارس 2020 . قسم الصحة، العدد 2475.)
[4] أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ،واللفظ له. أخرجه الترمذي والنسائي في الكبرى، وابن ماجه عن أسامة بن شريك. وقال الترمذي حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
[5] رواه البخاري وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
[6] الموقع اٌلإكتروني لمنظمة الأمم المتحدة. اطلعت عليه بتاريخ 08 يوليوز 2022.
[7] المرجع نفسه
[8] الموقع اٌلكتروني: العربي الجديد. نشر بتاريخ: 18 نونبر 2018.
[9] راندا العكاشة، مفهوم فجوة الأجيال في علم النفس. موقع العربي.كوم، 03 يناير 2022.
[10] أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد واللفظ له.
[11] رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
تاريخ الخبر: 2022-09-13 12:20:13
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 55%
الأهمية: 55%

آخر الأخبار حول العالم

وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 00:26:04
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 55%

وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 00:26:09
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية