د.وليد الخشاب يكتب عنه فى ذكرى ميلاده ووفاته: فؤاد المهندس.. الوجه الباسم لثورة يوليو

«أراجوز أرستقراطى» لم يبتذل نفسه ليثير الضحك.. وأداؤه زاخر بالأناقة

بداية حياته الفنية تزامنت مع تفتح البلاد للحركة الإصلاحية فى يوليو 1952

الكوميدى الوحيد الذى تفرّد بالنجومية فى الإذاعة والمسرح والسينما والتليفزيون 

جمع بين نموذجى «الفتوة» و«الكاوبوى» نصير البسطاء فى «فيفا زلاطا»

لماذا فؤاد المهندس اليوم؟

أبحث وأحاضر وأكتب عن فؤاد المهندس منذ عشر سنوات، والكلام عنه لا ينتهى. ولا يسع كتاب واحد، مهما بلغ حجمه أو أفقه، أن يحيط بكل ما يمكن بحثه وتحليله فى إنجاز فؤاد المهندس الفنى، وفى تراسل هذا المنجز مع التاريخ الثقافى والاجتماعى بل السياسى لمصر والعالم العربى.

بشكل عام، أنطلق من فرضية أساسية، وهى أن الكوميديا مسألة جادة. نكسب الكثير فى فهمنا الثقافة وتفاعلها مع المجمع والتاريخ السياسى إن أخذنا الكوميديا مأخذ الجد، خاصة أن الإنتاج الثقافى للكوميديا يتمتع بحرية نسبية تسمح بتناول موضوعات ومقاربتها من زوايا وإنتاج خطابات لا تسمح بها الرقابة الرسمية أو الذاتية فى حالة الإنتاج الثقافى «الجاد» غير الكوميدى.

وإنتاج فؤاد المهندس على وجه التحديد، مهما نظر البعض له- جزئيًا أو كليًا- باعتباره هزلًا وهذرًا، يحمل قدرًا عظيمًا من الجدية فى صنعته وفنية كتابته وإخراجه وتنفيذه. ثم إن التوازيات والعلاقات بين أعمال فؤاد المهندس- لا سيما السينمائية منها- والظرف الاجتماعى والسياسى أثناء العقدين الأولين من حياة الجمهورية فى مصر، هى لا شك أمور غاية فى الجدية.

نقترب من الاحتفال بمائة عام على ميلاد فؤاد المهندس، ولذلك التاريخ فى حد ذاته دلالات، من حيث فكرة الدقة فى البحث التاريخى «شبه المستحيلة دائمًا»، ومن حيث اندماج التاريخ الفنى للفنان مع التاريخ «الأكبر» الوطنى، السياسى، العام.

تذكر مصادر متنوعة على شبكة المعلومات أن ميلاد فؤاد المهندس قد وقع عام ١٩٢٤، وأحيانًا يكتب التاريخ عام ١٩٢٦، لكنى أميل إلى تصديق التاريخ الذى ذكره الفنان نفسه. صرّح فؤاد المهندس بنفسه فى حوار له مع الإعلامى مفيد فوزى بأنه قد ولد عام ١٩٢٧. من منظورنا فى القرن الحادى والعشرين ليس من فارق كبير بين ١٩٢٤ و١٩٢٧، لكن ميلاد فؤاد المهندس عام ١٩٢٧ يعنى أنه كان يصغر الزعيم جمال عبدالناصر بعشر سنوات، إذ ولد «ناصر» عام ١٩١٧، وأنه كان يبلغ من العمر ٢٥ عامًا عند قيام حركة الضباط الأحرار فى يوليو ١٩٥٢، أى أن تفتح فؤاد المهندس كشاب وكفنان يبدأ حياته الفنية، تزامن مع «تفتح» البلاد لحركة إصلاحية تحديثية أحدثت ثورة سياسية واجتماعية وثقافية فى مصر.

هذه العلاقة بـ«ناصر» والثورة ليست اعتباطية ولا مجرد طرفة. للمتابع أن يقرأ دراساتى العديدة عن العلاقة بين أفلام فؤاد المهندس والمرحلة الناصرية فى تاريخ البلاد فى الخمسينيات والستينيات، ليقرر إن كان يوافقنى أو يخالفنى فى اعتبار تلك الأفلام تجسيدًا للا وعى المرحلة.

لكن هناك علاقة أكثر بساطة ووضوحًا: فقد لمع نجم فؤاد المهندس وترسخت أقدامه كنجم كوميدى صاعد من خلال مشاركته فى برنامج «ساعة لقلبك»، الذى بدأت الإذاعة المصرية فى بثه بعد شهور من حركة يوليو ١٩٥٢. وبشكل عام، فإن كانت هناك شخصيات محورية تشغل مكان الرمز و- بالتعبير الفرنسى- تساعدنا على وضع وجهها على ظاهرة ما، فناصر هو رمز من رموز حركات التحرر الوطنى فى العالم العربى ومصر تحديدًا، وتزامن مع صعود نجمه صعود نجم فؤاد المهندس كرمز الكوميديا المصرية المستقلة بعد التحرر الوطنى، وكالوجه الأمثل الذى نتخيله معبرًا عن ذلك الإنتاج الثقافى عندما نتصور فكرة الكوميديا الخاصة بنا كمصريين أو كعرب.

سبب آخر يجعل من فؤاد المهندس علامة فارقة إلى اليوم، هو استمرار نجوميته حية بعد أفول نجمه كبطل أول فى المسرح والسينما والإذاعة، حتى بين أجيال ولدت بعد توقفه عن العمل، وبين أبناء الدول العربية خارج مصر. 

حكيت أكثر من مرة حكايتين بالغتى الدلالة فى رأيى، وإن لم تكن لهما حجة إحصائية قوية. 

فى نهاية عام ٢٠٢١، دُعيت لإلقاء محاضرة فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، واخترت أن تكون عن فكرة «اللا وعى فى السينما الكوميدية عند فؤاد المهندس». كان بالقاعة خمسة وعشرون شابًا وشابة تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشر والحادية والعشرين، عندما سألتهم مَن منكم يعرف فؤاد المهندس ويشاهد أفلامه؟ أجابوا جميعًا بالإيجاب.

سيدتى الجميلة

 

هؤلاء شباب لم يعاصروا مجد المهندس، وربما تذكره البعض من خلال فوازير «عمو فؤاد» التى كانت موجهة لأطفال جيلهم، لكنهم كانوا مشاهدين نشطين ومستمتعين لأفلام المهندس ومسرحياته، لا سيما من فترة الستينيات، أى من فترة طفولتى وطفولة آبائهم وأمهاتهم.

فى المقابل، سألت المجموعة نفسها: مَن منكم يعرف عبدالمنعم مدبولى؟ فإذا بثلاثة فقط يرفعون أيديهم. وأمين الهنيدى؟ فإذا بفتاة واحدة ترفع يدها وتحكى أنها كانت تشاهد أفلام الهنيدى مع أبيها لأنه كان يحبه.

أزعم أن تلك «العينة» تؤكد ما نعرفه بالتجربة والحس اليومى: إن فؤاد المهندس ما زال على يومنا هذا صاحب أكبر جماهيرية بين أبناء جيله المعروف باسم جيل الستينيات فى المسرح الكوميدى والفن الكوميدى بشكل عام.

نحن الآن فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين. ماذا بقيت من نجومية عبدالمنعم مدبولى وأمين الهنيدى ومحمد عوض؟ بينما نجومية المهندس فى ذاكرة العرب البصرية الجمعية ما زالت حية متألقة.

السبب الرابع الذى يجعل من فؤاد المهندس موضوعًا وجيهًا للدراسة إلى اليوم، هو نجاحه الكاسح المتواصل فى كل الوسائط والأشكال والأنواع الفنية من الإنتاج الثقافى الذى شارك فيه. فقد كان نجمًا إذاعيًا ومسرحيًا وسينمائيًا وتليفزيونيًا وكان نجمًا كضيف على مختلف وسائل الإعلام المزدهرة فى عصره من صحافة وتليفزيون. لم يتوفر لأى نجم من نجوم السينما الجادة أو الكوميدية هذا النصيب من النجاح إلا لفؤاد المهندس. فعلى سبيل المثال، النجمان الكوميديان الكبيران نجيب الريحانى وعادل إمام كانا مثل فؤاد المهندس نجمى مسرح وسينما، لكنهما لم يكونا نجمى إذاعة بالمساحة التى احتلها فؤاد المهندس فى الإذاعة. 

سيدتى الجميلة

« كاوبوى مصرى»

تعامل المهندس مع الإنتاج الثقافى الغربى بمنطق التفاعل الخلاق فى إطار أشهر نموذج لنقل الحداثة إلى العربية: منطق الاقتباس والترجمة. دائمًا ما كان نقل الحداثة إلى العالم العربى يتم عبر الاستيراد، والترجمة شكل من أشكال الاستيراد، لا يستورد المسرحية أو الفيلم تمامًا، وإنما يستوردها ويعدل فى تغليفها بحيث تصير ناطقة باللغة العربية.

هكذا نشأ المسرح العربى فى القرن التاسع عشر، معتمدًا على ترجمة موليير وراسين وشكسبير من إنتاج المسرح الغربى. وهكذا وقف مسرح الريحانى وبديع خيرى على قدميه، انطلاقًا من ترجمة واقتباس مسرح الفودفيل الفرنسى.

المثير أن فترة زهوة المسرح الكوميدى التجارى بمصر فى الثلاثينيات والأربعينيات، ويمثلها مسرح الريحانى، كانت تعتمد على اقتباس المسرح الفرنسى، بينما البلاد تحت سيطرة الاستعمار «الإنجليزى/ البريطانى». أما مسرح المهندس ثم أفلامه، فقد اعتمدا اعتمادًا كبيرًا على اقتباس المسرح الإنجليزى والسينما الإنجليزية فى ظل تحرر البلاد من الاستعمار الإنجليزى.

أركز هنا على أمثلة من فيلم «فيفا زلاطا»، وإن كنت أشير إلى أكثر من عمل لفؤاد المهندس. ففؤاد المهندس قدم أعمالًا سينمائية ومسرحية تشكل إما اقتباسًا جزئيًا أو كليًا. على سبيل المثال، فمسرحية «أنا وهو وهى» مقتبسة عن مسرحية إنجليزية باسم «طلاق السيدة سين»، وربما تأثرت بالفيلم الإنجليزى المقتبس عن المسرحية نفسها، والذى يحمل أيضًا عنوان «طلاق السيدة سين»، أو حرفيًا: «طلاق ليدى أكس»، والتقارب الشديد بين القصة الإنجليزية الأصلية وقصة المسرحية والفيلم العربى، يجعلنى أصف ذلك الاقتباس بأنه تام أو كلى.

انا وهو وهى

والملاحظة نفسها تنسحب على اقتباس مسرحية «بيجماليون» المكتوبة بالإنجليزية، عبر نسختها الكوميدية الموسيقية «سيدتى الراقية» أو «سيدتى الجميلة»، وهى أصل مسرحية فؤاد المهندس الشهيرة: «سيدتى الجميلة».

أما اقتباس المسرحية الإنجليزية «روح المرح» أو «الروح المرحة»، والفيلم الإنجليزى الذى يحمل العنوان نفسه، فقد خلّف لنا مسرحية المهندس «حواء الساعة ١٢»، وإن كانت المسرحية المصرية قد بسطت الأصل الإنجليزى وجعلته أكثر إشراقًا وابتعادًا عن الكوميديا السوداء.

أما فيلم «فيفا زلاطا» فيمثل حالة متفردة فى الإنتاج الثقافى لفؤاد المهندس، وأُعده بكل اطمئنان واحدًا من أكبر كلاسيكيات الكوميديا العربية، وواحدًا من أعظم أفلام فؤاد المهندس. وهو فيلم متميز من حيث صنعة الكتابة وحجم الإنتاج وتعقيد البناء الدرامى ومسحة السخرية المتلبسة كل مشهد فى الفيلم، سواء كانت سخرية من نوع أفلام «الكاوبوى» أو «رعاة البقر»، أو كانت سخرية من الذات.

لقد صرح فؤاد المهندس أكثر من مرة بأن فيلم «فيفا زلاطا» لم يكن مكتوبًا بإحكام، وأن ذلك سبب فشل الفيلم تجاريًا. والحقيقة أن تلك التيمة ألحت على فؤاد المهندس لسنوات طويلة بعد أفول نجمه فى السينما، حيث كان يصر أن الأساس فى إنتاجه هو المسرح، بينما السينما فلم يقدم فيها شيئًا ذا قيمة. 

أرجو أن أثبت هنا خطأ هذا التصور، وتحديدًا من خلال تحليل بعض عناصر «فيفا زلاطا» الفنية. فرأيى أن هذا الفيلم شديد الإحكام فى صنعته، شديد الثراء فى القضايا السياسية التى يطرحها، رغم أنه كوميديا لا يتوقع منها المشاهد أن تتناول قضايا معقدة، وهو فيلم مسلٍ للغاية، يدهش المتابع لسوق السينما فى السبعينيات، حيث إن كثيرًا من نجوم الكوميديا الذين تسيدوا الساحة فى الثمانينيات، قد ظهروا فى أدوار يتفاوت طولها فى الفيلم، بالإضافة لحشده عددًا كبيرًا من النجوم الذين كانوا يتمتعون بجماهيرية عالية وقت ظهور الفيلم. ثم إن «فيفا زلاطا» غنى فى إحالاته الثقافية إلى عالم القصص المصورة وعالم السينما.

لكن من حيث الاقتباس، فهو أيضًا فيلم متميز بين أفلام فؤاد المهندس، لأنه ليس اقتباسًا كليًا من فيلم بعينه، وإنما هو أقرب لاقتباس أو استلهام نوع فنى بعينه، أى أفلام «رعاة البقر». والواقع أن الفيلم لا يستخدم إحالات ثقافية لعالم «رعاة البقر» فقط، بل هو يقتبس ذلك العالم ويقدمه للمشاهد العربى ناطقًا باللغة الوطنية، مثلما فى كل عمليات الاقتباس على مدار تاريخنا الثقافى. فى هذا الفيلم، لا يقتبس المؤلف أنور عبدالله فيلمًا بعينه، وإنما يعيد استخدام «موتيفة» البطل الذى يدافع عن البسطاء ويخلق عالمًا افتراضيًا يلتقى فيه فتوات الحسينية بفتوات المكسيك «الكاوبوى». الأصل فى التصور الجماهيرى عن الفتوة الطيب- على الأقل منذ فيلم محفوظ/ نيازى مصطفى- «فتوات الحسينية»، هو أنه بطل شعبى يدافع عمن لا صوت لهم ومن لا تلتفت إليهم أجهزة الدولة الحديثة لتشملهم بحماية الشرطة والقانون. وبهذا المعنى فهو مرادف مصرى لنموذج «راعى البقر» الأمريكى، والنموذجان ألهما العديد من الأفلام فى الثقافتين المصرية والأمريكية. 

يجمع «فيفا زلاطا» بين هذين التصورين لـ«الفتوة/ راعى البقر» نصير البسطاء ومن لا صوت لهم. حيث إن القصة الأساسية هى قصة «زلاطا» الكبير الذى كان من فتوات الحسينية، يهرب من قضية نفقة رفعتها عليه زوجاته ويلجأ إلى المكسيك، حيث يصير هنا «فتوة كاوبوى»، يدافع عن البسطاء مثلما كان يفعل فى الحسينية، ويستقر فى بلدة صغيرة اسمها «تكسيكو»، منعزلة ولها عالمها الخاص وقوانينها المنفردة البعيدة عن سطوة الدولة المركزية- مثل التصور الجماهيرى عن منطقة الحسينية.

ومع حبه لوطنه «المكسيكى/ التكسيكى» فهو لا ينسى مصر ويغنى فى حبها الأغنية الوطنية الشهيرة «مصر هى أمى» بإخلاص وحرارة وشجن، فى مشهد من أكثر المشاهد عاطفية بلا ابتذال. وبالمناسبة، أرى أن أداء فؤاد المهندس فى «فيفا زلاطا» لهذه الأغنية أفضل ألف مرة من النسخة الأشهر التى تؤدى كأغنية وطنية عادية، بسبب ميزان العاطفية المخلصة والحارة والمبررة بموقع الشخصية كمصرى فى المهجر يحن إلى الوطن ويحكى عنه لرفاقه المكسيكيين وابنته نصف المصرية نصف ابنة السكان الأصليين لأمريكا.

فيفا فؤاد

يقتبس «فيفا زلاطا» نوع أفلام «رعاة البقر» الأمريكى، لكن أيضًا يؤلف بينها وبين نوع أفلام الفتوات المصرية، رغم أن النوع لم يكن قد فرض نفسه على الساحة السينمائية المصرية بعد. اعتمدت السينما طويلًا على شخصية الفتوة، وتحددت ملامحها مع فيلم «الفتوة» من إخراج صلاح أبوسيف وبطولة فريد شوقى، لكن النوع سيبلغ ذروة جماهيريته فى الثمانينيات، مع سلسلة الأفلام التى تستلهم ضمنًا أو تقتبس صراحة قصص «ملحمة الحرافيش» لنجيب محفوظ.

إذًا بمعنى ما فـ«فيفا زلاطا» كان إرهاصة بعودة أفلام الفتوات بقوة، حيث توالت هذه الأفلام بعد عرض «زلاطا» بعدة سنوات. أبلغ تعبير عن هذا «التآلف/ التأليف» بين الفتوة وراعى البقر، يتجسد فى لحظة أداء «المهندس/ زلاطا الكبير» رقصة بلدية بالعصا «وكأنها نبوت»، بينما يرتدى ملابس كليشيه المحارب المكسيكى الكاوبوى: أحزمة تحمل طلقات الرصاص وملابس «الكاوبوى» وحذاءه المميز. 

عنوان فيلم «فيفا زلاطا» يتفاعل مع عنوان الفيلم الأمريكى الشهير «فيفا زاباتا» ويستدعيه- وبالتعبير المتخصص- يتناص معه. إلا أن ذلك الفيلم الذى أخرجه إيليا كازان من بطولة مارلون براندو عام ١٩٥٢، فيلم مغاير للسائد فى أفلام «رعاة البقر» الأمريكية، من حيث إنه يشير بوضوح للبطل المكسيكى «زاباتا»، لا لبطل أسطورى أبيض من المستعمرين/ المغامرين الأنجلو ساكسون أو الناطقين بالإنجليزية، الذين غزوا أرض القارة الجديدة وأطلقوا على الدولة العظمى فيها اسم الولايات المتحدة. وهو فيلم يحيى «زاباتا» كقائد لثورة شعبية جماهيرية، على عكس المعتاد فى أفلام «رعاة البقر» من تمجيد للقائد المتفرد، الفرد المخلص الذى يقود الآخرين. أراها محض مصادفة- وإن كانت مصادفة مثيرة- أن «فيفا زاباتا» قد عُرض فى فبراير ١٩٥٢ أى قبل قيام حركة يوليو ١٩٥٢ بشهور. وكأن «فيفا زلاطا» يستدعى بإحالته للفيلم الأمريكى تداعى ظروف تاريخية عالمية تنتظر ظهور بطل يقود الجماهير فى حركة شعبية لتحسين أحوالهم، وبالصدفة توازت تلك الظروف مع بداية ظهور الزعيم جمال عبدالناصر كبطل شعبى فى مصر.

لا أعنى بالطبع أن «زلاطا» يمثل «ناصر». لكن أقصد أن شخصية «زلاطا» تستلهم نموذج قائد حركة التحرر الوطنى فى العالم الثالث وتقدمها سينمائيًا، بينما فى الواقع التاريخى فالزعيم ناصر هو بالفعل نموذج لواحد من أهم قادة التحرر الوطنى فى العالم الثالث. مرة أخرى، «فؤاد المهندس/ زلاطا» يوازى فى العالم المتخيل «ناصر/ الزعيم» فى العالم التاريخى الحقيقى. ومن المثير أن المؤلف أنور عبدالله قد اختار أن يكون «زلاطا» مكسيكيًا، من أمريكا اللاتينية التى كانت ضلعًا فى مثلث الدول المستقلة حديثًا فى الستينيات، مع آسيا وإفريقيا. بهذا ربط الفيلم عالم «زلاطا» بخطاب دول «عدم الانحياز والتحرر الوطنى»، وبنى جسرًا بين الخطاب الناصرى التحررى داعمًا تلك الفكرة، وبين عالم التسلية والفن. 

البهلوان الأرستقراطى

ربما بدا أن هناك قدرًا من المبالغة فى استدعاء شخصيات تاريخية بقامة «ناصر» فى تحليل التفاعل بين التاريخ والفن فى فيلم «فيفا زلاطا»، وإن كنت قد أوضحت التوازيات بين دور قائد التحرر فى التاريخ ودوره فى الفيلم. تظل فكرة «الزعامة» والتفرد القيادى هى ما يجمع بين فؤاد المهندس وناصر كلٍ فى مجاله. دأب محبو فؤاد المهندس على تسميته «الأستاذ» كما كان ناصر أول من يلقب بـ«الريس»، وكلا اللقبين يضع الشخصيتين فى موضع الصدارة: واحد فى مجال السياسة والتاريخ، والثانى فى مجال الفن والكوميديا.

وأعود هنا للأسباب التى جعلت من فؤاد المهندس أهم كوميديان فى جيله ظلت ذكراه حية إلى اليوم، وأظن أن أقرب وصف ممكن وصفه به هو «الأراجوز»، بالمعنى النبيل المحترم للكلمة، مثلما كانت كلمة «بهلوان» أيضًا تشير إلى قدرات فنية وبدنية متميزة، ومثلما صارت كلمة كلاون «المهرج» الإنجليزية تشير إلى فنان متميز فى مجاله ولا تعنى استهزاءً أو تقليلًا من شأن الفنان. 

لكن ما لا شك فيه أن فؤاد المهندس كان «أراجوز شيك» وأرستقراطيًا. وبالتأكيد فهذا ما يجعل منه إلى اليوم أكثر كوميديانات عصره حضورًا فى ذاكرتنا البصرية. فهو لا «يهزئ» نفسه ليستخرج الضحك من أفواه جمهوره، ولا يبتذل نفسه ليثير الضحك مفتعلًا إعاقة أو تشوهًا، بل يقدم أداء حركيًا منضبطًا معقدًا بالغ الصعوبة من الناحية الإيمائية والأكروباتية، ودائمًا ما يفعل ذلك بكل أناقة، وكأنه يؤكد لنا دائمًا أنه المصرى المحترم ابن الطبقة الوسطى الذى لا يهين نفسه من أجل اجتذاب الضحكات.. وهو ما احترمه فيه المصريون وأحبوه من أجله دائمًا.

تاريخ الخبر: 2022-09-15 21:22:02
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 47%
الأهمية: 62%

آخر الأخبار حول العالم

الحوار الاجتماعي.. التفاصيل الكاملة لاتفاق الحكومة والنقابات

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:27:00
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 69%

السجن 4 سنوات لصاحبي أغنية “شر كبي أتاي”

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:26:44
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 52%

الحوار الاجتماعي.. التفاصيل الكاملة لاتفاق الحكومة والنقابات

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:27:04
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 59%

السجن 4 سنوات لصاحبي أغنية “شر كبي أتاي”

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 18:26:50
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 52%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية