تأثيرات إستعمارية: صناعة الهوية القومية في الأردن (كتاب)

عودة للموسوعة

تأثيرات إستعمارية: صناعة الهوية القومية في الأردن (كتاب)

تأثيرات إستعمارية: صناعة الهوية القومية في الأردن
المؤلف جوسف مسعد
البلد الولايات المتحدة
اللغة إنجليزية
الموضوع القومية العربية
الناشر مطبوعات جامعة كولومبيا
الإصدار 2001
عدد الصفحات 396

تأثيرات إستعمارية: صناعة الهوية القومية في الأردن هوكتاب من تأليف جوسف مسعد عام 1998 ، من مطبوعات جامعة كولومبيا, ويدور الكتاب حول رسالة الدكتوراة الخاصة بها حول تأثير الإستعمار على صناعة الهوية القومية في الأردن, وقد فاز بجائزة معهد دراسات الشرق الأوسط Malcolm Kerr Dissertation في عام 2001.


الأطروحة الأساسية التي يقدمها هذا الكتاب العميق والهام تتجاوز الحالة الأردنية التي يحملها عنوان الكتاب, وتصل إلى قلب النقاش عن تشكل الهويات الوطنية, وفكرة القومية, وأثر السياق الإستعماري في صياغة الهويات والقوميات. ولأن الهوية تتشكل أساساً بتعريف "الأنا" في مرآة التضاد مع "الآخر", فإنه لا يمكن فهم تطور صياغة الهوية الأردنية من دون الانخراط في فهم علاقتها مع "آخرها" الذي كان الاستعمار البريطاني في فترة ما قبل تأسيس إمارة شرق الأردن, ثم أصبح هذا "الآخر" متمثلاً ولوجزئياً في الوجود الفلسطيني في الأردن بعد حرب فلسطين وهجرة الفلسطينيين بأعداد كبيرة إلى المدن الأردنية.

فكرة الكتاب

يقول المؤلف جوزيف مسعد -وهوأستاذ تاريخ الفكر العربي بجامعة كولومبيا في الولايات المتحدة- إذا تشكل الهوية الأردنية منذ بدايات تأسيس الكيان الأردني -إمارة شرق الأردن- في عشرينيات القرن الماضي كان وطيد الصلة بالوجود البريطاني الذي أسس الإمارة وساهم في صناعة هويتها وشكلها. وإن أبرز آليات تكوين تلك الهوية تمثلت في المؤسستين العسكرية والقانونية اللتين شكلتا الإطار "الوطني" العام الذي بدأت تترعرع فيه الهوية الوليدة.

وقد تمكنت هاتان المؤسستان عن طريق الدعم والإشراف البريطاني أولاً ثم الرسمي الحكومي فيما بعد, من استيعاب الأفراد والقبائل والمجموعات السكانية في شرق الأردن وإعادة تنظيمها وفق رؤية جديدة تتسق مع مفهوم "الدولة الأمة" الذي فرضه الاستعمار في المنطقة بعمومها, وذلك على حساب الأشكال والبنى التقليدية والمحلية التي كانت سائدة قبل قيام الكيان الأردني.

يرى المؤلف حتى هاتين المؤسستين خلقتا مجموعة من الصور والتعبيرات والممارسات والتنطقيد جعلتها وكأنها أصلية ووطنية وتراثية ومشكلة لعناصر الهوية الجماعية الأردنية. وفي الواقع فإن جميع تلك "المنتجات" كانت حديثة الصنع, ولا علاقة لها بتاريخ وتنطقيد القبائل التي استبدلت مؤسساتها التقليدية بالمؤسسات المفروضة من قبل الاستعمار البريطاني.

وكما هوالحال في الكثير من الكيانات الوليدة في أفريقيا وآسيا, تم تبني المؤسسات والبنى التي خلقها الاستعمار بوصفها مؤسسات وبنى محلية من دون الانتباه إلى حداثة سنها, وإلى أصلها المستورد والقادم من الخارج, وأصبحت وكأنها مؤسسات وطنية يجب الدفاع عنها ببسالة.

وبالتوازي فإن إنتاج هذه الثقافة والهوية الوطنية اللصيقة الصلة بالسياق الاستعماري صار يُنظر لها نظرة جوهرانية وكأنها قديمة وتقليدية وتمثل العمق التاريخي والتراثي للبلد والشعب. وقد يتوقف المرء هنا للتساؤل إذا ما كانت هاتان المؤسستان وليدتي الحالة الاستعمارية ومفروضة من قبلها أم أنهما أبعد من ذلك، إذ إذا جميع تجمع بشري -حضري أم بدوي أم ريفي- عبر التاريخ كانت له أشكاله العسكرية والاقتصادية والقضائية، وإن تطور هذه الأشكال مع الزمن, وخاصة مع ولادة الدولة الحديثة, لربما اتى طبيعياً وليس قسرياً. إذ ما الشكل البديل الذي يمكن تخيله بعيداً عن "التأثيرات الاستعمارية" في العصر الحديث الذي أصبحت فيه فكرة "الدولة الأمة" مركزية في صوغ الشكل الدولي للعلاقات بين مجتمعات العالم, سواء أكان ذلك الشكل جيداً أم سيئاً.

لكن تظل في الوقت نفسه ضرورة الإقرار بأن الوطأة الاستعمارية هي التي خلقت الأطر السيادية عن طريق تحديد ورسم الحدود السياسية الجغرافية الاعتباطية في الكثير من الأحيان, وأعادت إنتاج القوالب القانونية في داخل هذه الحدود.

ويرى المؤلف حتى هذا النمط في توليد هويات وطنية مستحدثة كان ومازال سائداً في البلدان التي كانت مستعمرة في آسيا وأفريقيا. فالمؤسسات الاستعمارية الإدارية التي أنشئت لإدارة تلك الدول ظلت على أشكالها الأساسية بعد انتهاء حقبة الاستعمار ومغادرة الإدارة الكولونيالية وإحلال إدارة "وطنية" مكانها.

وكانت آلية اشتغال تلك المؤسسات -سواء خلال سني الاستعمار أوبعدها- مزدوجة. فهي من ناحية عملت على قمع عناصر ومكونات ثقافية أصلية, وعملت من ناحية ثانية على إنتاج عناصر ومكونات جديدة. وخلاصة عمليات "القمع والإنتاج" كانت الخليط الجديد الذي صار يُنظر إليه باعتباره الهوية الوطنية الممتدة تاريخياً وذات العمق القديم, فيما هي حقاً جديدة ومخترعة إلى حد كبير.

يلج المؤلف في نقاش معمق بشأن مفاهيم نظرية إزاء دور المؤسسات في المجتمع الحديث, وهويوظف مقولات منظرين من أمثال فوكووغرامشي عن الضبط والإرغام من أجل خلق إجماع عام في وسط المجموعة السكانية المعنية. ويربط هذه المفاهيم بالدور الذي تقوم به مؤسسات الدولة الحديثة وخاصة تلك التي تكون قيد التكوين والتيقد يكون هدفها خلق أفراد يسهل انقيادهم وانخراطهم في الشكل القانوني والانضباطي المفروض من قبل تلك المؤسسات. وفي الحالة الاستعمارية تعمل مجموعة وأنساق العلاقات التي يوجدها المستعمر في البلدان الخاضعة له -سواء أكانت علاقات عسكرية أوقانونية أواقتصادية- على قمع بعض المكونات الثقافية في المجتمع المحلي وخلق مكونات ثقافية بديلة. وتصبح هذه المكونات الجديدة وكأنها هي الأصل ويتبناها القوميون لاحقاً ويدافعون عنها باعتبارها مكونات هوياتية أصلية.


الدولة في أربع لحظات تاريخية

يجادل مسعد حتى هناك أربع لحظات تاريخية تساهم في تكوين الهوية الوطنية, وهي لحظات تبتر الواحدة منها مع الفترة التي سبقت حلولها.

اللحظة الأولى هي الكولونيالية حين تؤسس الإدارة الاستعمارية شكلاً من أشكال الكيانات السياسية البيروقراطية في البلد المستعمر, وتعهد الأفراد بحسب وجودهم وانتمائهم إلى ذلك الكيان. مع هذا التأسيس تصبح هناك قوانين وجيش وقضاء وتصنيفات إدارية تحكم الأفراد وتدخلهم إلى فترة جديدة لا علاقة لها بما كان سائداً قبل بداية اللحظة الكولونيالية. اللحظة الثانية هي لحظة مقاومة الاستعمار التي تستمر حتى تحقيق الاستقلال. وهنا فإن الكيان المستقل الجديد يتبنى المؤسسات الإدارية (القانون والجيش وغيرها) التي أنشأها الاستعمار, لكنه يستبدل الأطقم العاملة فيها. وهذه اللحظة تبتر مع الفترة الاستعمارية برمتها وتبدأ فترة جديدة, هذا وإن كان من الضروري ملاحظة حتى "تقنيات الحكم" تظل مستمرة وواحدة عبر النمط المؤسساتي الذي خلفه الاستعمار وتم تبنيه. أما اللحظة الثالثة فهي لحظة توسع وانكماش الأمة/الشعب. وقد يحدث التوسع أوالانكماش هنا جغرافياً أوديمغرافيا. فعن طريق ضم أراض جديدة أومجموعات سكانية إضافية, أوعن طريق انفصال أجزاء من الأمة -أرضاً وسكاناً- عن الوطن الأم, فإن لحظة التوسع والانكماش تؤثر في صميم تشكل وتبدل الهوية الوطنية للكيان السياسي المعني وسكانه. اللحظة الرابعة تكمن في الانفجار الداخلي الذي قد يأخذ شكل الحرب الأهلية, أوالثورة أوالنزاعات الطائفية أوالعرقية التي ترغب حتى تعيد تعريف الهوية الوطنية. قياساً على هذه اللحظات التكوينية يرى مسعد حتى الأردن مر بأربع لحظات تاريخية ساهمت في صياغة هويته وثقافته الوطنية الحديثة.

أولها لحظة وصول الاستعمار البريطاني وقيامه في الأردن عام 1921, والتحالف الذي تم مع الشريف حسين للتخلص من الحكم الهجري في المنطقة. بعد تلك اللحظة ولج شرق الأردن فترة تاريخية جديدة أنهت فترة سابقة, وبدأت الإدارة الاستعمارية ترسم الشكل السياسي والاجتماعي ثم الثقافي للبلد. اللحظة الثانية تمثلت في التوسع الجغرافي والديمغرافي الذي شهده شرق الأردن سنة 1925 باتجاه الجنوب حيث ضمت مدينة ومنطقة معان إليه, ثم لحظة التوسع الثانية سنة 1948 والتي تمثلت بضم الضفة الغربية وسكانها. أما اللحظة التاريخية الثالثة فتجسدت في حركة تعريب الجيش الأردني وطرد الجنرال غلوب باشا سنة 1956, وقد مثلت هذه اللحظة مفترقا كبيرا في صناعة الهوية الوطنية الأردنية. واللحظة الرابعة كانت في اندلاع الحرب الأهلية سنة 1970 والصراع الذي انفجر بين النظام الأردني والمقاومة الفلسطينية آنذاك. وفي سياق هذه الصيرورة -تصنيع هوية وطنية عبر لحظات تاريخية تبتر مع المراحل السابقة وعبر آليات مؤسستي "الجيش" و"القانون"- يلاحظ مسعد وجود مكون جندري (تفارق الرجل عن المرأة لجهة الوظيفة الاجتماعية) في قلب قيام تلك الهوية, خاصة بكونها مرتبطة بالمؤسسة العسكرية, ونظام الدولة الانضباطية. فهنا يأخذ الرجال مكاناً واضحاً, وتأخذ النساء مكاناً واضحاً آخر, أدنى بالطبع. وعليه, تتطور الهوية تطوراً ذكورياً وتمييزياً وليس مواطنياً ذي سمة مساواتية. وقد رسخ وكرس هذا التفارق في الدور الأساليب الاستعمارية في الإدارة والتي ظلت سائدة فيما بعد.

دور جلوب باشا

يتوسع مسعد في الفصل الثالث في مناقشة دور المؤسسة العسكرية في إنتاج الرموز والتعبيرات الوطنية وتكريسها في داخل المجتمع الحديث التكوين. وفي حالة الأردن يسلط الضوء على دور جلوب باشا (جون جلوب) الضابط البريطاني الذي خدم في أعلى مراتب الجيش الأردني من عام 1930 إلى 1956 (وكان قائداً للجيش الأردني في الفترة من 1939 وحتى 1956 عندما طرده الملك حسين).

كان هدف غلوب إقامة جيشقد يكون بمثابة العمود الفقري للمجتمع ويمثل بوصلة الهوية الوطنية سواء من حيث الشكل أوالزي أوالنشيد الوطني أوالممارسة.. وكان حتى استقدم إليه كثيراً من تنطقيد الجيش البريطاني, سواء من جهة الانضباط, أوحتى الزي والموسيقى, وأضاف إلى تلك التنطقيد رتوشاً أخذت صبغة محلية (مثل الكوفية الحمراء التي استقدمها أصلاً من مدينة مانشستر البريطانية) بحيث يظهر جميع الجيش وكأنه مؤسسة محلية خالصة بتنطقيد أردنية صرفة.

وقد ترافق مع تأسيس الجيش الذي لم يزد عدده عن 1500 عنصر سنة 1923 يوم أسسه البريطانيون مع الأمير عبد الله, عملية نزع سلاح البدووحصر القوة العسكرية لتكون بيد الجيش الوليد.. ومن أجل القيام بهذه المهمة تم استنادىء الضابط البريطاني جون غلوب من العراق سنة 1930 الذي كان يعمل على "تهدئة" بدوالعراق هناك وتأهيلهم لمسايرة الانتداب البريطاني.

قام غلوب بمهمة نزع سلاح البدوبنجاح فائق عن طريق تأسيس "قوات البادية" التي كانت مهماتها تتنوع من حراسة الحدود مع السعودية خاصة في ظل أجواء التوتر بين آل سعود والهاشميين, وحراسة أنابيب النفط المملوكة من قبل بريطانيا والمارة في الأراضي الأردنية, وملاحقة الثوار الفلسطينيين ضد بريطانيا المتسللين من فلسطين.

تطورت هذه القوات وأصبحت هي نواة الجيش العربي الأردني خاصة بعد حتى تحولت القوة التي تم تأسيسها عام 1923 إلى مجرد قوات شرطة ضعيفة.. وكان غلوب باشا يفضل البدوعلى الحضر في التجنيد للجيش الأردني, لأنه كان يعتبرهم أكثر صلابة وجدية على عكس الحضر الذين كان ينظر إليهم بنوع من الدونية. كما كان الهدف من استقطاب البدوفي الجيش إخضاعهم تحت لواء الدولة بدل حتى يظلوا مصدر تهديد لها, لاسيما وأن القبائل البدوية في الصحراء الأردنية ممتدة عبر الحدود السعودية والعراقية ولم يكن لها ولاء لأية دولة بالمعنى الحديث للحدثة.

لهذا فإن "توطين" البدوكانت مسألة ملحة وتقع في قلب عملية صياغة الهوية الوطنية الأردنية وبناء الكيان. وأثناء عملية تقربه من البدووتوظيفه لهم كان غلوب على غاية من الذكاء والفطنة وقد استخدم خبرة كثير من المستشرقين ممن سبقوه.

وكان قد خط لاحقاً عن أسلوبه في التعامل معهم "كنت أتمنى لوأخط بأحرف من مضى على جدار جميع مخط استعماري في المنطقة ما يلي:

تعامل بإنسانية وتعاطف

ضرائب خفيفة ورواتب مجزية

أعطيات ومساعدات لشيوخ القبائل

التزم بالقانون العشائري".

وعلى العموم كان جلوب معجباً بالبدووبأنظمتهم, وخط يقول "إن العرب من أشجع الناس قولاً, وأكثرهم ديمقراطية, وهم يحبون حتى يحكموا بالرجال لا بالقوانين واللوائح".

أما على صعيد القضاء والقانون فقد عمل البريطانيون منذ أوائل العشرينيات على تصفية الأنظمة العشائرية القضائية (نيابة العشائر) وإخضاع بدوشرق الأردن إلى نظام الدولة القضائي والقانوني. وصار الانضباط بمؤسسة الدولة العسكرية والقانونية مصدر تعريف المواطنة والهوية الوطنية والمرجعية الأساسية في تعريف الانتماء إلى الكيان الجديد. ويأتي في هذا السياق أيضاً إصدار مجموعة من القوانين الخاصة بالجنسية والتجنيس وتعريف من هوالأردني، إضافة إلى ذلك كان هناك اهتمام خاص بترقية وضع البدووجعلهم محوراً مركزياً من محاور الهوية الوطنية.

يسهب مسعد في شرح دور غلوب باشا في التأثير في تشكيل وجه الأردن الحديث إلى درجة قد يلاحظ القارئ حتى فيها مبالغة. فتأسيساً على دوره المركزي في تأسيس الجيش العربي الأردني, عمل غلوب على صياغة معادلات خاصة به رآها الأصلح في مواءمة الحداثة -أوبعض عناصرها- مع البيئة المحلية الأردنية، وعمل على تحويل البدووفق ما كان يراه من "نمط جدير بالاتباع" عبر قوات البادية والانضباط العسكري الذي فرضه على أفرادها والذين فرضوه بالتأثير في قبائلهم.

ولكن غلوب المعجب بالبدووالآنف من تطبيق القوانين الأوروبية عليهم لأنها لا تناسبهم, ليس بريئاً من نزعات العنصرية الحضارية والشعور بالتفوق. ويرصد مسعد اقتباسات مطولة من مذكرات وكتابات غلوب باشا عن العرب وتجربته في الأردن, وفيها إشارات عنصرية واضحة, وفيها عجرفة استعمارية تقليدية.


نهاية جلوب باشا

في سياق تطور الأوضاع السياسية داخل الأردن في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي وعلوكعب الخطاب القومي العربي في المنطقة, قام الملك الراحل الحسين بخطوته الكبيرة في إزاحة غلوب باشا عن قيادة الجيش الأردني, وطلب منه مغادرة الأردن في غضون 48 ساعة. وقد عهد ذلك القرار التاريخي بقرار "تعريب الجيش العربي" أوبـ"انقلاب القصر".

وكان غلوب قد خط في مذكراته بمرارة فائقة عن لحظات طرده واعتبرها نكراناً للجميل وللخدمات التي قدمها للأردن على مدار 26 سنة قضاها هناك. من ناحية أخرى -وكما يقول المؤلف- كان الملك قد وجه بتلك المستوى ضربة استباقية لتطور النزعة القومية والمعارضة داخل الجيش والتي كانت ناقمة على غلوب باشا وتتوجه باللوم إلى الملك، فعن طريق تلك المستوى ظهر الملك أكثر وطنية ولم يستطع أحد حتى يزايد عليه.

الأردن: الكيان المرن

يرصد مسعد أثر توسع الأردن في الخمسينيات من القرن العشرين وتقلصه في أواخر الثمانينيات من القرن نفسه, في تشكل الهوية الأردنية داخل كيان مرن احتوى الكثير من المكونات البشرية والديمغرافية المتنوعة.

ففي الحالة الأولى وبقرار ضم الضفة الغربية إلى شرق الأردن سنة 1949/1950 تشكلت المملكة الأردنية الهاشمية وأصبح الفلسطينيون الذي هاجروا إليها مواطنين أردنيين ذوي حضور قوي وفعال.

وفي الحالة الثانية ومع قرار فك الارتباط بالضفة الغربية سنة 1988 لف الغموض وضع الفلسطينيين الأردنيين الذين بقوا بطبيعة الحال ومن ناحية قانونية مواطنين أردنيين, لكن طبيعة العلاقة مع الضفة الغربية التي ينتمي إليها غالبية فلسطينيي الأردن أصبحت معقدة. وفي كلا اللحظتين كان هناك انعطاف مهم في النظرة إلى الهوية الأردنية وكينونتها ومن هوالذي تنطبق عليه أولا تنطبق.

وفي الغالب الأعم كانت سياسة الدولة الأردنية تقوم على أردنة الفلسطينيين أي جعلهم أردنيين, وطبقت إجراءات عديدة من أجل هذه الغاية. لكن الدولة ذاتها كانت تتبنى سياسات مناقضة لذلك خاصة في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي عندما شجعت الانقسام الاجتماعي والسياسي بين المجموعتين الديمغرافيتين خشية حتى يؤدي التقارب والتوحد بينهما إلى تشكيل أحلاف على أساس طبقيقد يكون هدفها قلب نظام الحكم. وقد كانت سياسة الدولة هي تخويف الشرق أردنيين من "البعبع الفلسطيني" والاحتماء بالتالي بالنظام وتزويده بالحماية الشعبية المطلوبة بوصفه الجهة التي تحقق الأمن والحماية للأردنيين.

في حقبة ما بعد حوادث سبتمبر/ أيلول بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني, وتحديداً في نوفمبر/ تشرين الثاني 1970, أسس الملك حسين باستشارة مع رئيس وزرائه المتشدد آنذاك وصفي التل "الاتحاد الوطني" بهدف إعادة تعريف الهوية الوطنية الأردنية. كان الهدف من هذا الاتحاد "أردنة الأردن" وصهر الجميع في بوتقة واحدة وتوفير بيئة لكثير من المثقفين الأردنيين الذين لم تكن لهم خلفيات قبلية أوعائلية قوية. لكن لم يستمر ذلك الاتحاد طويلاً رغم جميع الجهد الرسمي لبث الروح فيه, وخاصة حتى "مؤسسه الروحي" وصفي التل كان قد اغتيل بعد وقت قصير من تأسيس الاتحاد.

لكن همّ "إعادة تعريف الهوية الأردنية" ظل ملحاً, وقد تجسد هذه المرة في مشروع سياسي أخطر هو"المملكة العربية المتحدة" الذي طرحه الملك حسين سنة 1972 على أمل حتىقد يكون الصيغة السياسية التي تتجاوز منظمة التحرير الفلسطينية ويندرج تحتها الفلسطينيون على شكل وحدة مع الأردن. لكن المشروع سرعان ما فشل وطواه النسيان أمام المعارضة الشرسة التي لقيها ليس فقط من منظمة التحرير والفلسطينيين, بل ومن العرب أيضاً, إذ بترت مصر وسوريا علاقاتهما الدبلوماسية مع الأردن لكون المشروع يعني تصفية القضية الفلسطينية. وظل الصراع بين الأردن ومنظمة التحرير قائماً على تمثيل الفلسطينيين إلى حتى حسمته القمة العربية في الرباط سنة 1974 التي أعربت حتى منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

يرصد مسعد آليات تكريس وتعزيز الهوية الأردنية في مجالات عديدة قد تبدوثانوية.. مثلاً في مجال الزي الوطني حيث تم تبني وتشجيع الكوفية الحمراء التي صار الملك حسين يلبسها في أحايين كثيرة. كما قامت الإذاعة الأردنية بدور كبير في "بدونة الأردنيين" عن طريق استخدام اللهجة البدوية وبث المسلسلات البدوية التي اشتهر الأردن بها. وفي السياق نفسه بدأت كرة القدم تلعب دوراً مهماً في تكريس الاستقطاب الأردني الفلسطيني، فمع بروز "قوى كروية" في مخيمات اللاجئين أهمها فريق مخيم الوحدات, استعر التنافس الكروي بين الفرق التي مثلت الفلسطينيين وتلك التي مثلت الأردنيين مثل فريقي الرمثا والفيصلي.

بالعودة إلى تسلسل تطور العلاقات بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية من ناحية وانعكاسها على تشكل الهوية الأردنية وعلاقتها بالفلسطينيين داخل الأردن, شهدت تلك العلاقات تحسناً مطرداً بعد زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس عام 1977، ثم استمرت في التحسن ووصلت إلى ذروتها بانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في عمان سنة 1984 الذي ألقى فيه الملك حسين خطابا افتتاحيا دافئاً.. أعقب ذلك اتفاق التنسيق الأردني الفلسطيني في فبراير/ شباط 1985.

لكن تحسن العلاقات تباطأ وتم إلغاء اتفاق التنسيق, وكانت الأمور تتجه بسرعة نحوتغير كبير تمثل في اندلاع الانتفاضة الفلسطينية عام 1987. ففي شهور الانتفاضة الأولى أكد الملك حسين أكثر من مرة عدم رغبة الأردن في السيطرة على الفلسطينيين أوانادىء تمثيلهم, وأن منظمة التحرير الفلسطينية هي ممثلهم. ثم انتهى به الأمر لإعلان فك الروابط القانونية والإدارية مع الضفة الغربية في شهر يوليو/ تموز 1988.

من هوالأردني؟

يصل مسعد إلى هذا السؤال المركزي بعد حتى يطوف بنا في عوالم تشكل وصناعة الهوية الأردنية. وهوينتقد هنا الدعوات التي تنادي بها أقلية متشددة في الأردن إزاء الفلسطينيين الأردنيين وتطالبهم بالتخلي عن "فلسطينيتهم" لإثبات "أردنيتهم". فمن ناحية أولى -كما يقول مسعد- فإن هؤلاء الفلسطينيين لا يرون تناقضاً بين مكونات هويتهم الفلسطينية الأردنية, بل يرونهما مكملتين لبعضهما بعضا. ومن ناحية ثانية, وعلى عكس التخويف والمبالغة التي يرددها المتشددون, فإن فلسطينيي الأردن لم يشكلوا أي تهديد للنظام في الأردن، فهم لم يقوموا بأية ثورة شعبية ضده, ولم ينظموا أي انقلاب عسكري عليه, لا أثناء أحداث أيلول الأسود سنة 1970 ولا بعده خلال الانتفاضات الشعبية في شمال أوجنوب الأردن في أكثر من مرة. بل عاشوا بسلام في الأردن وصارت هويتهم ثنائية وممزوجة في السياق الأردني, إذ إذا الكثير منهم وخاصة الجيل الجديد لا يعهدون وطناً لهم غير الأردن.

إضافة إلى ذلك فإن سياسة الحكم في الأردن في "بدونة الأردنيين" قد لحقت بالفلسطينيين الأردنيين أيضاً وامتزجت عاداتهم ولهجاتهم وممارساتهم بنظيراتها عند الشرق أردنيين, وزادت نسبة الزواج المختلط, وتم صهر عناصر عديدة من التكوين الهوياتي المتنافر لصالح هوية مشهجرة. ويشير مسعد إلى حادثتين قد تبدوان هامشيتين لكنه يستخدمهما للاستدلال على عمق "أردنية" فلسطينيي الأردن، أولهما فوز منتخب الأردن الكروي على نظيره السوري في بطولة العرب لكرة القدم التي أقيمت في لبنان سنة 1997, وكيف خرج فلسطينيوالأردن إلى الشوارع للتعبير عن فرحتهم بفوز الفريق الأردني الذي كان ثمانية من لاعبيه من أصل فلسطيني. والحادثة الثانية هي تشجيع فلسطينيي الأردن للفريق الأردني ضد الفريق الفلسطيني في مباراة كروية في عمان سنة 1999. وهاتان الحادثتان تشيران إلى "ولاء" فلسطيني الأردن بشكل حاسم.

ينتقد مسعد دعوات متشددي الأردنيين مثل ناهض حتر وفهد الفانك وأحمد عويدي العبادي ومروان الساكت التي تطالب بأن يتخلى الفلسطينيون عن جنسيتهم الأردنية وجوازاتهم ويحملوا جوازات سفر فلسطينية ويعملوا بالتالي كعمال أجانب في الأردن. ويتناول خصوصية بعض تلك الأسماء ويلاحظ بروز "متشددين مسيحيين أردنيين" بشكل ملفت معادين للوجود الفلسطيني في الأردن. لكنه يلاحظ أيضاً حتى تشدد هؤلاء ضد الفلسطينيين لا يعني بالضرورة حتى مواقفهم على صعيد التسوية مع إسرائيل منسجمة مع الطرح الرسمي، بل إنهم أيضاً متشددون في دعم قيام دولة فلسطينية, وبعضهم ضد التسوية الأردنية الإسرائيلية.

ويرى مسعد حتى ليس هناك تناقض بين مواقفهم تلك, بل هي مكملة لبعضها بعضا, حيث إذا قيام كيان فلسطيني يمضى إليه فلسطينيوالأردن معناه تحقيق الهدف الذي يسعون إليه وهوطرد الفلسطينيين ولا يغيب عن المؤلف أيضاً الإشارة إلى العامل الإسرائيلي في زيادة تطرف "التيار الأردني الإقصائي", ويتمثل هذا العامل في تكرار الهجريز الإسرائيلي -الليكودي بخاصة- على مقولة حتى الأردن هي الوطن البديل للفلسطينيين, وأنه بعد عدد من السنين فإن هذا هوالحل الواقعي للمسألة الفلسطينية.

ربما يختلف القارئ مع إحدى خلاصات المؤلف التشاؤمية والتي يقول فيها إنه ما لم يصل الأردن والأردنيون إلى خلق صيغة استيعابية للهوية الأردنية تضم الجميع وغير إقصائية وغير طاردة للفلسطينيين الأردنيين, فإن مستقبل الأردن يظل بعيداً عن الاستقرار, وقد ينجر إلى حرب أهلية ثانية (بعد الحرب الأهلية الأولى في سبتمبر/ أيلول 1970). لكن يظل في المجمل العام حتى الإفادة التي يقدمها هذا الكتاب العميق تفوق ما تقدمه خط كثيرة, وسوف يحتل بالتأكيد مكانة مركزية في الأدبيات الخاصة في تاريخ الأردن الحديث.


انظر أيضا

  • قومية عربية
  • جوسف مسعد

المصادر

  1. ^ الجزيرة نت
تاريخ النشر: 2020-06-04 04:43:45
التصنيفات: كتب باللغة الإنجليزية, كتب 2001, جورج مسعد, قومية عربية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

كشفتهما البصمات.. جديد حول مقتل شيماء جمال

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-08 00:16:41
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 88%

قرار جديد للسعودية بشأن اللبنانيين

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-08 00:16:18
مستوى الصحة: 90% الأهمية: 94%

تسريب صوتي لجو بايدن يعيد إلى الواجهة ملف فساد نجله هانتر

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-08 00:16:19
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 92%

رئيس وزراء إسرائيل الجديد يجري أول اتصال مع رئيس عربي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-08 00:16:19
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 93%

البنتاغون يؤكد: روسيا تتقدم في دونباس

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-08 00:16:31
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 90%

الكشف عن الموقف من بيع الكحول "الجعة" أثناء مونديال قطر 2022

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-08 00:16:21
مستوى الصحة: 79% الأهمية: 92%

رونالدو لن يسافر مع يونايتد الى بانكوك

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-08 00:16:06
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 88%

مصر.. مصرع أستاذ جامعي وزوجته وأبنائهما الـ5 في حادث مروري

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-08 00:16:16
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 91%

إدارة مطار بغداد تنفي حدوث إطلاق نار فيه

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-08 00:16:12
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 89%

المقداد يبحث مع رئيس مجلس الأمة الجزائري العلاقات بين البلدين

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-08 00:16:12
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 86%

بريطانيا.. هذا موعد اختيار خليفة جونسون

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-08 00:16:31
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 95%

الهند تفرض قيودا على تصدير الدقيق ومنتجات القمح

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-07-08 00:16:15
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 91%

تحميل تطبيق المنصة العربية