من المنتظر أن يؤدي خروج الاحتياطي الفيدرالي السريع من سياسات حقبة الأزمة إلى وضع سوق السندات الحكومية الأمريكية البالغة قيمتها 24 تريليون دولار تحت ضغط إضافي، الأمر الذي يزيد المخاوف حول متانة الأساسات التي يرتكز عليها النظام المالي العالمي.
وفقا لمؤشر بلومبيرج، تراجعت سهولة إتمام الصفقات في سوق سندات الخزانة إلى أدنى مستوياتها منذ الأيام الأولى للجائحة في آذار (مارس) 2020. واتسعت الفجوات بين الأسعار التي يشتري المتداولون ويبيعون فيها بشكل أكبر وأصبحت التحركات الضخمة في الأسعار شائعة وعلى نطاق لم يكن من الممكن تصوره حتى قبل عام.
وسيسرع الاحتياطي الفيدرالي هذا الشهر وتيرة الإغلاق التدريجي للميزانية العمومية التي تبلغ نحو تسعة تريليونات دولار، وأنشأها على مدى أكثر من عقد في محاولة لحماية الاقتصاد من الصدمات. ويسعى البنك المركزي إلى تقليص المبلغ الإجمالي بمقدار 95 مليار دولار شهريا - ضعف وتيرته في آب (أغسطس).
نتيجة لذلك "قد تظهر لدينا مشكلة ضغط السيولة في النظام المصرفي"، كما قال فيرال أشاريا، الاقتصادي في جامعة نيويورك. أضاف: "عندما تتعرض البنوك للضغط، فإن ذلك يمتد عادة إلى غير البنوك وأسواق سندات الخزانة وأسواق التمويل الأخرى".
وبحسب بانك أوف أمريكا، "يمكن القول" إن الضغوط في سوق الخزانة تعد "أحد أكبر التهديدات التي تواجه الاستقرار المالي العالمي في يومنا الحاضر، وربما أسوأ من فقاعة الإسكان التي حدثت بين عامي 2004 و2007".
وتلوح في الأفق بشكل كبير سابقتان حدثتا أخيرا: أزمة عام 2019 في سوق الإقراض قصير الأجل، الريبو، وانهيار سوق سندات الخزانة عام 2020. في الواقعة الأولى، وبين عشية وضحاها، تجمدت سوق إقراض البنوك إلى مؤسسات أخرى مقابل ضمانات عالية الجودة مثل سندات الخزانة. وفي آذار (مارس) 2020، انتعشت سوق الخزانة مع اندفاع الشركات للحصول على السيولة، وتم ذلك جزئيا من خلال بيع سندات الحكومة الأمريكية. كلتا الحالتين عرضت ركائز النظام المالي العالمي للمخاطر، ما أدى بالاحتياطي الفيدرالي إلى إصلاح هذا الخلل.
عكست كلتا الواقعتين أيضا تأثير تحرك بنك الاحتياطي الفيدرالي لتقليل حجم ميزانيته العمومية - وهي عملية تعرف باسم التشديد الكمي - وفقا لورقة قدمها أشاريا وعديد من المؤلفين المشاركين في ندوة جاكسون هول السنوية الأخيرة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي.
ركزت الورقة التي تم تداولها على نطاق واسع وشارك محافظ بنك الاحتياطي الهندي السابق، راغورام راجان، في تأليفها، على كيفية تأثير التشديد والتخفيف الكمي في سيولة السوق. قالوا إن التشديد الكمي كان "السبب الأكبر المحتمل الذي جعل النظام يصاب بالضعف" خلال أزمتي 2019 و2020.
وجادلوا بأن شراء البنك المركزي للأصول، المعروف باسم التسهيل الكمي، يحفز النمو في الودائع المصرفية والتسهيلات الائتمانية. وذكر أيضا أن التراجع عن ذلك لا يؤدي بالبنوك إلى ضبط تلك الالتزامات، حتى مع سحبه للسيولة من النظام المالي.
بدلا من ذلك، يكمن الخطر في أن جميع المشاركين في السوق سيندفعون في لحظة التوتر للمطالبة بتمويل قصير الأجل - كالاستفادة من التسهيلات الائتمانية، مثلا - عندما لا يكون هناك ما يكفي من المال.
قال مايكل هويل، الرئيس التنفيذي لشركة كروس بوردر كابيتال، وهي شركة أبحاث واستثمار مقرها لندن، إن الورقة "تعكس المخاوف التي توقعناها منذ زمن بأن يكون للتشديد الكمي تأثيرات أكثر مما قد تعترف به البنوك المركزية".
حتى الاحتياطي الفيدرالي كان قد اعترف بأنه غير متأكد من تأثير التشديد الكمي. قال رئيسه، جاي بأول، بعد اجتماع البنك المركزي في أيار (مايو): "أود أن أؤكد مدى الشك في تأثير تقليص الميزانية العمومية"، على الرغم من أنه قال لاحقا: "حسب جميع التقييمات، يجب أن تكون الأسواق قادرة على استيعاب ذلك".
سوق سندات الخزانة التي ظلت تعاني لفترة عيوبا هيكلية، فضلا عن عدم اليقين بشأن المسار المستقبلي للتشديد النقدي للاحتياطي الفيدرالي، كانت تواجه أقسى ظروف يشهدها التداول منذ أعوام. مثلا، مقياس عمق السوق الذي يحتسبه بنك جيه بي مورجان، والذي ينظر إلى سندات الخزانة لمدة عامين وخمسة أعوام و10 أعوام و30 عاما، يظهر أسوأ سيولة منذ ربيع عام 2020. أما هوامش العرض والطلب - وهو مقياس للسيولة يرصد الفجوة بين أسعار الشراء والبيع - فقد وصلت في الأشهر الأخيرة إلى أكبر مستوياتها منذ أيار (مايو) 2020.
أدى ضعف السيولة إلى ارتفاع معدل التذبذب. ويحوم مؤشر آيس-بوفا موف لتقلبات سوق الخزانة قريبا من مستويات آذار (مارس) 2020، وهو أعلى بكثير من متوسطه على المدى الطويل.
وحذر محللون من أن التشديد الكمي قد يؤجج الوضع. وعندما يحل أجل السندات التي يحتفظ بها الاحتياطي الفيدرالي، سيقوم البنك المركزي بإعادة الأموال إلى السوق. وحين يتوقف ذلك، يجب على البنوك الاستثمارية - المعروفة باسم البنوك المتداولة - التخلص من أي أوراق فائضة في النظام فوق أي سندات جديدة تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية. لكن ليس من المؤكد أن لدى القطاع التجاري الجرأة على ذلك.
قال مارك كابانا، رئيس استراتيجية أسعار الفائدة الأمريكية في بانك أوف أمريكا: "سيحتفظ التجار حتما بمزيد من مخزون سندات الخزانة. وسيتعين عليهم تمويل ذلك، ما يضع ضغطا تصاعديا على سوق الإقراض قصيرة الأجل، ريبو، قد يسهم بمرور الوقت في تقلبات إضافية لأسواق الخزانة، ومن المحتمل أن يفضي ذلك إلى تفاقم سيولة الخزانة".
سكوت سكيرم، متداول في سوق الريبو في شركة كيرفاتشور سيكيوريتيز، يشير إلى أن سوق الخزانة التي تكافح لامتصاص مخزون إضافي قد تؤدي في أقصى الحالات إلى أثر "تعاقبي". ومع إغراق السوق بالعرض، يمكن لمشتري سندات الخزانة التراجع عن توقعاتهم بأن تصبح الأسعار أفضل في المستقبل. ويمكن أن تظهر نقاط الانهيار المحتملة في آخر ربع من العام أو نهاية العام، وذلك عندما تنسحب البنوك من أسواق التمويل من أجل تحسين الميزانيات العمومية قبل حلول موعد التقارير النهائية.
اتفق كابانا وسكيرم على أن الانسداد في الريبو، على غرار عام 2019، لم يكن مصدر قلق مهم. أشار سكيرم إلى وجود نقد يبلغ 2.2 تريليون دولار في تسهيلات سوق الريبو العكسي "آر آر بي" التابع للاحتياطي الفيدرالي، وهي فجوة كبيرة يكسب المستثمرون من خلالها قليلا من الفائدة على الأموال التي ليس لها أي منفعة أفضل من ذلك. ولم يكن "آر آر بي" مستخدما حتى عام 2021.
قال سكيرم: "لا أرى أن (تضخيم الريبو) يشكل خطرا على النظام المالي إلى أن يتم استنزاف آر آر بي بالكامل".
قدم مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي تقديرات تقريبية لتأثيرات التشديد الكمي، بما في ذلك تقييم نائبة الرئيس، لايل برينارد، بأن ذلك سيعادل زيادتين أو ثلاث في أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة. وقد توصل البحث الأخير الذي نشره موظفو بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى استنتاجات مشابهة.