أنور ماجد يكتب: إدوارد سعيد.. مفكر شرقى سكن عقل الغرب

إن إدوارد سعيد مبدع لغوى، ونظرته فى الاستشراق شديدة الأهمية، ومعقدة، لقد كتب بطريقة سرية، فكر فى أحداث مختلفة ولكن متصلة فى الظاهر، ولذلك فالعرض الموجز لأعماله لا بد أن يكون مهتمًا بأعظم كتبه «الاستشراق» ١٩٧٨. 

مزج إدوارد سعيد بين فكرة ميشيل فوكو للخطاب مع نظرية أنطونيو جرامشى للهيمنة، ووصل إلى أن الكتابات البريطانية والفرنسية والأمريكية عن العرب والمسلمين تنتمى جميعها إلى تراث استشراقى واحد، هدفه «دعم الاستعمار العنصرى» و«الإمبراطوريات»، كما قال أحد النقاد أمام لجنة الكونجرس بالولايات المتحدة فى عام ٢٠٠٣.

بالنسبة لـ«سعيد» فإن الطريقة التى تعامل بها الكتاب الغربيون مع الشرق، ساعدت فى الشعور بأن أوروبا بما أنها صاحبة حضارة متفوقة وحضارة متطورة، عليها رفع مستوى الشرقيين المطمئنين المتأخرين من خلال الإمبريالية، خاصة خلال فترة الصعود الأوروبى الذى بدأ من أواخر عصر النهضة، وصولًا إلى الوقت الحاضر.

ربط سعيد هذا النقص فى المقاومة بعدم قدرة الشرقيين على التحدث أو التعبير عن أنفسهم «وهى نقطة أصبحت فيما بعد موضوعًا بارزًا لنظرية ما بعد الاستعمار»، هذا لا يعنى أنه كان على الشرقيين أن يتحملوا ويرضوا بالصمت، ولكن الأوروبيين رفضوا هذه الحياة ورأوا أنها تعبر عن شعب بدائى.

وبمرور الوقت ظهر إجماع واسع حول مكونات الشرق، واستندت النصوص المختلفة إلى أدلة تجريبية أو نظريات خيالية أو مزيج من الاثنين معًا، ومع تكاثر النصوص وتداخلها أصبحت هناك رواية واحدة تم اعتبارها أنها موثوقة وأساسية.

بالنسبة لإدوارد سعيد كانت هذه الرواية التى اعتبرها الغرب أنها أساسية فى تكوين نظرتهم للشرق، دافعًا للهيمنة العسكرية، كما يتضح من غزو نابليون لمصر، كان نابليون منذ مراهقته مفتونًا بالإسكندر الأكبر، قرأ روايات كونت دى فولنى «١٧٨٧» الذى حدد العناصر الثلاثة الرئيسية للسيطرة الفرنسية على الشرق، هذه العناصر تتمثل فى: البريطانيين والعثمانيين والمسلمين.

ولمخاطبة المسلمين حاول نابليون الظهور كمؤمن مسلم للمصريين، قائلًا لشعب الإسكندرية وشعب مصر: إن الفرنسيين هم المسلمون الحقيقيون، ولم يدم الاحتلال الفرنسى طويلًا فتم إجلاؤهم عام ١٨٠١.

ولكن نابليون ضخ حياة جديدة فى المشروع الاستشراقى، مشروع ضخم متعدد الأجزاء، وهو كتاب «وصف مصر».

عندما غادر الفرنسيون مصر، بقى ديليسبس، ممثلًا غير رسمى لفرنسا، افتتح ابنه فرديناند ديليسبس قناة السويس عام ١٨٦٩، مما جعل الشرق أقرب إلى الغرب من خلال تسهيل التجارة البحرية لمسافات طويلة مع آسيا، واحتفل المبعوث البابوى آنذاك بالحدث لتلاقى الشرق مع الغرب.

رأى سعيد أن ديليسبس أذاب الهوية الجغرافية للشرق، عن طريق جر الشرق إلى الغرب وتبديد وتهديد الإسلام. تقييم سعيد لإنجاز ديليسبس يبدو ساخرًا للغاية، لأن عمله فى الاستشراق لم يكن فقط مسألة أكاديمية، بل كان جزءًا من محاولاته المستمرة لجعل أصوات شعبه مسموعة.

ولد إدوارد سعيد عام ١٩٣٥ فى فلسطين، قبل ظهور وإنشاء إسرائيل بثلاثة عشر عامًا، كان مدركًا تمامًا لكونه نشأ كمواطن شرقى فى مستعمرة بريطانية.. كتب سعيد:

«من نواحٍ عديدة، كانت دراستى للاستشراق محاولة لسرد آثار الثقافة المهيمنة للغاية على حياة الشرقيين، وهذا هو السبب فى أن الشرق الإسلامى يجب أن يكون مركز الاهتمام بالنسبة لى».

عندما انتقل سعيد إلى الولايات المتحدة كطالب، ازداد وعيه بهويته العربية الفلسطينية. وجد شبه إجماع على عدم وجود لرأى سياسى للشخص العربى الفلسطينى، فمن خلال آليات الاستشراق تم طمس وجود العربى الفلسطينى، فى مقال له يصف سعيد تجربته بأنها تشبه تجربة يهود الشتات.

من خلال قضية فلسطين الشائكة، اجتمع الاستعمار والصهيونية، وكلاهما نتاج للقومية الأوروبية فى القرن التاسع عشر، حاول سعيد الاحتفاظ بحياة الأكاديمى الهادئ، لكن حرب الستة أيام التى أعطت لإسرائيل المزيد من الأراضى الفلسطينية أى حرب ١٩٦٧، أيقظته على هويته العربية. 

ليكتب سعيد كتاب «القضية الفلسطينية» وفى هذا العمل رأى سعيد آثارًا للصهيونية، وأن هناك فكرة غربية لمحو العرب، تتردد حتى فى الكتب والروايات الغربية غير السياسية. عند قراءة سعيد يشعر المرء بأن قناعاته السياسية القوية يتم تعديلها باستمرار بسبب تأثير أسلوبه فى الكتابة. وبالرغم من أنه كان من المناضلين ضد الهيمنة الغربية، إلا أنه اعتبر الوعى النقدى ضروريًا لنوع النقد العلمانى، الذى يقدره، خاصة أن هذا النقد معارض بطبيعته، لأسلوبه الخاص الذى يمكن أن يضلل مؤيديه، ويجعلهم يعتقدون أن العالم منقسم بشدة بين الغرب العدوانى والآخرين الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة.

كل هذا بالرغم من أن المفاهيم الحديثة عن الغرب والشرق، قد تلاشت، تحديدًا فى عصر الرأسمالية، وظهور شركات التكنولوجيا الكبرى، التى تنتشر بقوة فى جميع أنحاء العالم، حتى مع ظهور الصين كقوة عظمى، ولكن الغرب لا يزال يوجه الاقتصاد العالمى، ويكون تأثيره محسوسًا على جميع أنحاء الكوكب. فمثلًا لو أخذنا منصة «Netflix» كمثال فهى الآن تنتج محتوى واحدًا أصليًا تبثه فى شرق آسيا والعالم العربى كما تبثه على العالم أجمع.

وفى هذا النظام العالمى، المتغير والفوضوى، استطاع إدوارد سعيد أن يكتسب مكانة بارزة كدراسة وكأنه منفى. عند إعادة قراءة أعمال سعيد مؤخرًا اندهشت، فهو رجل يصارع مسألة الهوية، تحديدًا عقب عمليات تشكيل بلاد الشام فى القرنين التاسع عشر والعشرين، بكل الاضطرابات التى تحدث فيه.

ولد سعيد مواطنًا أمريكيًا فى القدس لأبوين فلسطينيين، وفى الوقت الذى تم فيه إنشاء إسرائيل كان هو طفلًا فى القاهرة، يتعلم فى مدارس خاصة، ويتحدث الإنجليزية، أى أنه من النخبة، وزار الولايات المتحدة فى بداية مراهقته، ثم التحق بمدرسة داخلية فى ولاية ماساتشوستس الأمريكية، تخصص فى العلوم الإنسانية فى جامعة برينستون، وحصل على الدكتوراه فى اللغة الإنجليزية من جامعة هارفارد، فى تلك الفترة تجول فى بعض الهويات الثقافية المتعددة والمعقدة، التى كانت غير عادية حتى فى بلاد الشام متعددة الطوائف فى أوائل القرن العشرين. 

اكتشف سعيد لاحقًا أن جدته لأمه لبنانية، وكان وديع والد سعيد قد عاش بالفعل فى الولايات المتحدة وخدم فى جيشها خلال الحرب العالمية الأولى، وكان جده قسيسًا، ولذلك كان من الغريب أن يكون سعيد الذى من نسل قسيس معمدانى وابن أحد المحاربين الأمريكيين، أن يكون متأثرًا بشدة بالإسلام، ولذلك فى مذكراته «خارج المكان»، يقول سعيد:

«لقد احتفظت بهذا الشعور غير المستقر للعديد من الهويات، معظمها فى صراع مع بعضها البعض».

عندما ألقى سعيد محاضرات على الـ«بى بى سى»، اعترف بأن النفى هو أتعس مصير، وشكل من أشكال العقوبة القاسية، وأن النفى أصبح مصير مجتمعات وشعوب بأكملها، غالبًا نتيجة لقوى غير مباشرة مثل الحرب والمجاعة والمرض. والأسوأ من ذلك أنه من المستحيل البدء من جديد بسجل نظيف، لأن حركة الحياة اليومية المعاصرة، أبقتنا على اتصال دائم بما هو جديد، ولكنه اتصال غير مكتمل بما هو قديم، فسعيد يعتبر أن المنفى موجود فى حالة وسيطة ليس فى حالة واحدة تمامًا مع الوضع الجديد، ولا بعيدًا عن الوضع القديم.

زوجة سعيد الأولى، كتبت مرة إليه تخبره بأنه يعيش ثلاثة عوالم منضبطة، لكنه لا يعيش فى أى منها، فكان من الممكن أن يكون فيلسوفًا أو شاعرًا أو ناقدًا، إنه ثلاثة فى واحد، ثالوث مزعج.

تاريخ الخبر: 2022-10-06 21:21:32
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 54%
الأهمية: 63%

آخر الأخبار حول العالم

شرطة أمستردام تفرق اعتصاماً طلابياً للتضامن مع غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-07 18:26:12
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 68%

بوريطة يستقبل وزير خارجية مملكة البحرين

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-07 18:26:04
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 59%

تقارير.. 3 أندية سعودية تسعى للتعاقد مع مورينيو

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-07 18:26:05
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 53%

شرطة أمستردام تفرق اعتصاماً طلابياً للتضامن مع غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-07 18:26:18
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 56%

تقارير.. 3 أندية سعودية تسعى للتعاقد مع مورينيو

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-07 18:26:11
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 50%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية