بدأت رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن، الأحد، زيارة رسمية إلى الجزائر غير مسبوقة في تاريخ العلاقات من حيث حجم الوفد الوزاري المشارك فيها، بعد أزمة حادة عصفت بالبلدين منذ أشهر، يسعى البلدان لتجاوزها عبر مصالحة تُنهي حالة الجفاء في ظل تطورات عالمية متسارعة.

قادت بورن وفداً مكوناً من 16 وزيراً يمثلون نحو نصف طاقمها الوزاري، في تحرّك من شأنه تصحيح خطأ ارتكبه سلفها جون كاتسكس في أبريل/نيسان 2021، عندما قلّص وفده الذي كان سيرافقه للجزائر إلى أربعة وزراء، وعزى ذلك إلى وباء كورونا، فردت الجزائر بإلغاء الزيارة في اللحظة الأخيرة.

محاولة باريس الضغط على الجزائر عبر عدة أوراق وملفات زادت تصلّب الأخيرة، خاصة وأن لديها حلفاء وأوراق، ما جعل النفوذ الفرنسي يتقلص لصالح تعاون الجزائر مع دول أخرى مثل الصين وروسيا وتركيا وإيطاليا.

ومع تراجع الدور الفرنسي في الساحل الإفريقي وفي ليبيا لصالح دول منافسة وعلى رأسها روسيا، تحاول باريس تدارك الوضع عبر محاولة استعادة شراكتها مع الجزائر بالنظر إلى أهميتها الجيوسياسية في أكثر من ملف سواء في منطقة حوض البحر المتوسط أو الساحل الإفريقي أو المغرب العربي.

وهذه الأهمية برزت أكثر مع أزمة الطاقة العالمية، باعتبار الجزائر أكبر مُصدر للغاز في إفريقيا، وأسرع الخيارات لأوروبا للتزود بالغاز الطبيعي عبر الأنابيب بأسعار تنافسية مقارنة بالغاز المسال.

وقبل وصول بورن إلى الجزائر، جرى اتصال هاتفي من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بنظيره الجزائري عبد المجيد تبون، ما يُفسّر حرص باريس على إنجاح الزيارة، رغم أنها تحمل الكثير من الملفات الحساسة.

ملفات ملغمة

لا شك أن زيارة بورن التي تأتي بعد نحو شهر ونصف من توقيع ماكرون وتبون "إعلان الجزائر" من أجل شراكة متجددة، تهدف لوضع آليات تنفيذ ما اتُّفق عليه نهاية أغسطس/آب الماضي.

ولإنجاح الزيارة نُزعت الملفات الملغمة من جدول أعمال زيارة بورن، والمتعلقة بالغاز والتأشيرات والذاكرة، وفق وسائل إعلام فرنسية نقلاً عن فريق بورن.

وبالنسبة لملف الغاز، تسعى فرنسا لزيادة حصتها من الغاز الجزائري بنسبة 50 في المئة وبأسعار تفضيلية، بينما لا تملك الجزائر فائضاً متاحاً بعد اتفاقها مع إيطاليا على رفع صادراتها من 21 إلى 30 مليار متر مكعب سنويا.

وتفضّل الجزائر بالمقابل اتفاقاً طويل الأمد لتصدير الغاز الطبيعي إلى فرنسا عبر أنبوب ميدغاز المار عبر إسبانيا، وفق أسعار السوق.

تخفيض تأشيرات شينغن الممنوحة للجزائريين إلى النصف، هي إحدى نقاط الخلاف المستمرة بين الجزائر وفرنسا، حيث تشترط الأخيرة ربطها بملف الهجرة.

غير أن وجود وزير الداخلية الفرنسي جيرارد دارمانان، ضمن الوفد الحكومي، يبعث على الاعتقاد أن ملفي التأشيرات والهجرة، لا يمكن إلا بحثهما ولو بشكل غير رسمي.

وهو ما حدث فعلاً عندما أثار الوزير الأول الجزائري أيمن بن عبد الرحمن، بشكل رسمي مع نظيرته الفرنسية مسألة التأشيرات، "لتسهيل التواصل بين العائلات في البلدين".

وبخصوص الذاكرة، فالأمر أعقد من أن يُحسم في زيارة لرئيسة الحكومة الفرنسية، خاصة أن ماكرون ترك الملف معلّقاً، واقترح أن يُترك الملف للجنة مشتركة من المؤرخين.

ومرافقة المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا ، لبورن، يعني أن ملف الذاكرة لن يُستبعد تماماً، وإنما سيُثار على هامش الزيارة بأقل قدر من الأضواء لتفادي ما من شأنه تعكير الزيارة.

ومن الممكن أن يُبحث تشكيل لجنة مشتركة للمؤرخين لكتابة التاريخ المشترك للبلدين.

الاقتصاد أولاً

من الواضح أن رئيسي حكومتي البلدين يضعان التعاون الاقتصادي على رأس أولوياتهما بالرغم من اختلافها.

ففرنسا تسعى لاستعادة مكانتها كأول ممون للسوق الجزائرية بعدما انتزعتها منها الصين، رغم بُعدها الجغرافي، فيما تفضّل الجزائر أن تستثمر فرنسا في قطاعات الصناعة والتكنولوجيا والطاقات المتجددة.

إذ لا يقتصر الوفد المرافق لرئيسة الحكومة الفرنسية على طاقمها الوزاري فقط، بل يشمل رجال أعمال وشركات وعلى رأسها "سانوفي" عملاق صناعة الأدوية الفرنسي، بالإضافة إلى شركات متوسطة وصغيرة أقل أهمية.

فالملف الاقتصادي أكثر ما ستركز عليه "الدورة الخامسة للجنة الحكومية رفيعة المستوى" التي لم تنعقد منذ عام 2017.

وفي الفترة الأخيرة تبادل البلدان رفض منتجات بعضهما البعض، إذ رفضت فرنسا قبول شحنة من تمور الجزائر، وردت الأخيرة برفض شحنة من العجول الفرنسية، في إشارة إلى أن العلاقات التجارية بينهما تواجهها بعض الصعوبات.

ففرنسا مستاءة من تقليص الجزائر لفاتورة استيرادها لمنتجاتها، رغم أن ذلك يأتي ضمن سياسة جزائرية عامة لتقليص الواردات وتحقيق توازن في الميزان التجاري، بعد أن بلغت الواردات 64 مليار دولار في 2014، لتنخفض إلى قرابة النصف في 2021، ما أدى إلى تحقيق الجزائر فائضاً تجارياً لأول مرة منذ 7 سنوات.

أما في ملف الاستثمارات، تراجعت مكانة فرنسا في الجزائر خلف كلٍ من تركيا والصين وقطر، ومع ذلك لا تُبدي باريس حماسة في استعادة مكانتها في هذا الميدان، إلا أنها لا تُخفي امتعاضها من ارتفاع استثمارات دول منافسة بالجزائر.

الملف الأمني مغيب

زيارة بورن تزامنت مع قرار فرنسا الانسحاب نهائياً من جمهورية إفريقيا الوسطى، بعد القرار الذي اتخذته في مالي، والسبب تعاونهما العسكري مع روسيا.

وتحاول فرنسا إبعاد الجزائر عن التحالف مع روسيا والانتقال للتعاون الأمني والعسكري معها في الساحل الإفريقي، لهزيمة الجماعات الإرهابية التي تشكل عدواً مشتركاً للبلدين.

في المقابل، تطالب الجزائر فرنسا بوقف نشاط تنظيم "الماك" الانفصالي على أراضيها، وتسليمها مطلوبين أمنيين على غرار فرحات مهني، وهشام عبود، وأمير بوخرص، بالإضافة إلى مسؤولين سابقين على غرار وزير الصناعة السابق عبد السلام بوشوارب، وقائد الدرك الوطني السابق غالي بلقصير.

لكنّ رفض القضاء الفرنسي تسليم بوخرص مؤخراً من شأنه إضفاء مزيد من التعقيد بشأن التعاون القضائي وتبادل المطلوبين.

ففرنسا تتحجج باستقلالية القضاء لمنع تسليم المطلوبين، والجزائر تتمسك بأمنها القومي مقابل أي تعاون أمني مع باريس في منطقة الساحل.

لذلك يُعتبر الملف الأمني أحد الملفات التي من الممكن أن تُبحث خلال الزيارة دون أن يُحسم، ليُترك لاجتماعات لاحقة.

وتسعى بورن من الزيارة بالدرجة الأولى لتمتين المصالحة وتعزيز التعاون الاقتصادي مع مناقشة الملفات الخلافية دون منحها أولوية.

TRT عربي - وكالات