الاصطفافات السياسية الاستراتيجية على ضفاف المتوسط تختبر نجاعة الدبلوماسية المغربية


في زيارة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الفرنسية الجزائرية من حيث حجم الوفد الوزاري المشارك فيها، بعد أزمة حادّة عصفت بالبلدين منذ أشهر، نزلت رئيسة حكومة باريس إليزابيث بورن بوفد ثقيل أشبه بإنزال حكومي فرنسي على الجزائر في محاولة لتقويم علاقات تنهي حالة جفاء فرضتها تطورات عالمية ترتبط بالطاقة، الملف الذي أشعل فتيل الصارع وحوّل بوصلة السياسة الفرنسية إلى الإصطفاف مع النظام الجزائري، في وقت اختارت اسبانيا الاستمرار على ذات المنوال الذي سلكته منذ مارس الماضي في دعم المغرب في ملف الصحراء الذي كان لبّ خلاف سابق مع ألمانيا التي عدّلت مضطرة نظرتها تجاه الرباط.

 

ولأن ميدان السياسة ميدان المصالح بامتياز، تحدد باريس الجزائر شريكا، في ما توجهت ألمانيا واسبانيا إلى المغرب الذي أحدث منذ نهاية العام 2020، خلخلت في ميزان العلاقات الاستراتيجية لهذه البلدان عبر الضغط بملف الصحراء المغربية، الذي تقيس به الرباط صدقية شراكاتها ومدى نجاعتها، الذي يبدو أن باريس لم تهضم بعد أو على الأقل أن تستوعب التحولات العميقة التي تجري على ضفاف المتوسط، من هنا يُفهم برودة علاقتها مع الرباط مقابل تقويتها مع الجزائر. ومع تراجع الدور الفرنسي في الساحل الإفريقي وفي ليبيا لصالح دول منافسة وعلى رأسها روسيا، تحاول باريس تدارك الوضع عبر محاولة استعادة شراكتها مع الجزائر بالنظر إلى أهميتها الجيوسياسية في أكثر من ملف سواء في منطقة حوض البحر المتوسط أو الساحل الإفريقي أو المغرب العربي.

 

التغييرات الكبيرة والمتسارعة المدفوعة بإلحاح الزمن السياسي والمصالح الاقتصادية، يقول عنها عبدالعالي الكراح إنها نتاج، ظرفية دقيقة تلعب فيها المصالح المحرك الاساسي، بحيث أن فرنسا تسثمر في علاقتها من الجانب الاقتصادي مع الجزائر، مقابل استفادة نظام الأخيرة من القرار السياسي الفرنسي، وإذا ما تحدثنا عن المغرب فهناك توازن بين المصالح الاقتصادية والسياسية التي تربطه مع برلين ومدريد وعموم الشركاء الأوروبيين.

 

وفي الواقع لم يقدم المغرب تنازلات لإعادة المياه إلى مجاريها مع الشركاء الأوربيين، لأن المغرب كان يرى نفسهُ في موقف قوة بملفات عديدة تؤرق أوروبا بعامة وألمانيا واسبانيا بخاصة، وأحد هذه الملفات الهجرة الذي لعب المغرب فيه دوراً محورياً، فكبح الهجرة الإفريقية الرامية إلى عبور البحر الأبيض المتوسط لبلوغ الضفاف الأوروبية. بالإضافة إلى ملف الهجرة نجدُ الدور المهم الذي يلعبهُ المغرب في تأطير الشأن الديني في أوروبا عموماً وهو ما يحدُّ من تمدد التشدد، وكذا يجفف منابع خطاب التطرف الديني في السياق الأوروبي بشكلٍ ملموسٍ.

 

هذا الأمر الناجم عن إدراك اسبانيا وألمانيا أهمية المغرب باعتباره جسراً يربطُ الشمال بالجنوب سياسياً وثقافياً واقتصادياً وإدراكهما بدور المغرب باستقرار المنطقة، جعل ألمانيا واسبانيا تقِّرُ بأهمية المقترح المغربي المرتبط بالصحراء والمتمثل بالحكم الذاتي باعتباره “مساهمة مهمة” في تسوية النزاع، عكس الرؤية الفرنسية التي ترى في ديمومة النزاع استفادة سياسية كبرى تجني من وراء الكثير.

 

نجاعة مطلوبة والحذر واجب

 

وبحسب الخبير في العلاقات الدولية فالمغرب حقق مكاسب كبيرة من شركائه الأوروبيين، بخاصة في الجانب السياسي المرتبطِ بملف قضية الصحراء، لكن المكاسب قد تتبدد إذا لم يظهر المغرب بشكلٍ حقيقي نفسه شريكاً موثوقاً للشركاء الأوروبيين الذين لا يعرفون سوى لغة المصالح والمنافع، وفي الحقيقة المغرب يجيد لعب دور الشريك المفيد والعقلاني للجانب الأوروبي، هذه العقلانية هي ما مهد لدول الاتحاد الأوروبي الغربية لتجعل المغرب أحد شركائه الكبار، وجعل المغرب يعتبر الاتحاد الأوروبي شريكه الاستراتيجي.

 

 طابع الشراكة الاستراتيجية التي تجمع المغرب بشركائه الأوروبيين، يدعو من خلالها المتحدث إلى الحفاظ عليها رغم ضرورة تجويدها من أجل تجنيب إقحامها مستقبلاً بنفس الأزمة القائمة على التوجس المتبادل الذي يطفو أحياناً، وهو ما لا يمكن تحققه سوى بحل بعض الملفات على غرار ملف الصحراء المغربية.

 

دوائر متحكمة 

 

واعتبر الكارح أن العلاقات المغربية الأوروبية تحكمها ثلاثة دوائر، أولها دائرة القضايا الآنية، ودائرة القضايا متوسطة المدى، ودائرة القضايا الاستراتيجية.

الدائرة الأولى حسب الأكاديمي تتمحورُ حول تأثيرات المشهد السياسي الداخلي الإسباني مثلا، بخاصة حينما يهيمنُ اليمين أو التيار الشعبوي على مفاصل الحكومة. فبلوغ هذا التيار يسمحُ بتمرير بعض المواقف المرتبطة بالهجرة والصحراء وكذا النزاع الحدودي المغربي-الإسباني التي تعكسُ في العمق التحول السياسي الظرفي الذي تعرفهُ إسبانيا ويأخذ مظاهر سياسية تنعكس على طبيعة علاقة البلدين، وأزمة 2002 مثال لذلك، إذ كان الجفاء بين الطرفين مردهُ هيمنة اليمين على الحكومة. 

 

أما الدائرة الثانية فهي المهمة، وينبغي استثمارها بُغية تعزيز علاقات التعاون بين البلدين بسبب ما تضمهُ من مصالح اقتصادية متبادلة، وكذا الانخراط بقضية الهجرة والتعاون الأمني ومراقبة الحدود المشتركة، وهو ما يجعل هذه الدائرة العمود الفقري للعلاقات بين البلدين، وتتأثر عادة بدرجات متفاوتة بالتحولات التي يشهدها المشهد السياسي الداخلي الإسباني، لكن هذا التأثير يكون ظرفياً لأن المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية المتبادلة تجعل الدولتين تتعاملان بحكمة وحذر في تدبير ملفات الأمن والهجرة والاقتصاد.

 

أما الدائرة الثالثة فتتجسدُ بالقضايا الاستراتيجية التي يفرضها الإرث التاريخي والجغرافي بين البلدين بملفات كقضية سبتة ومليلة والجزر الحدودية وقضية الصحراء ونظرة كل دولة إلى الأخرى. وعادة لا تُحرَّك هذه القضايا بين الدولتين حتى لا تتأثر المصالح الاقتصادية والأمنية بين البلدين إلا ببعض المناسبات التي يثير بها المغرب القضايا الحدودية ليذكر العالم بأن هذه الحقوق التاريخية لا تسقطُ بالتقادم.

تاريخ الخبر: 2022-10-11 12:19:26
المصدر: الأيام 24 - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 66%
الأهمية: 76%

آخر الأخبار حول العالم

القوات المسلحة الملكية.. 68 عاماً من الالتزام الوطني والقومي والأممي

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-14 00:25:18
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 54%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية