صناعة الحرية (24).. قديس في زنزانة


قديس في زنزانة..

أمضى الرجل مدة سجنه “قديسا في زنزانة” ضيقة، أو ما يسميه بعض المهتمين بأدب السجون بــ”سجن السجن” ، ينير ظلمتها بذكر الله وتلاوة كتابه، يطالع الكتب ويكتب، ويتعالى بفكره عن وضعه، ويأنس بمحفوظه وملفوظه. ولما كان لا يدخل السجن فقط من ساءت أخلاقه، بل ويدخله أيضا من حسُنت أخلاقه، فقد لقي بالسجن أهل أخلاق من عامة المسلمين وخاصتهم، فكان أحيانا يرافق بعض النزلاء في جولات بفناء السجن، وكان يؤذن ويجمع المصلين من السجناء للصلاة جماعة، غير أن بعض مناضلي اليسار -الذين كانوا يحلمون بمغرب بلا دين- تضايقوا من التفاف الناس حوله فحرضوا الإدارة على منعه. وكذلك كان. مُنع من الصلاة جماعة. فحوَّل زنزانته إلى محراب.

ومن أشعار الأستاذ ياسين عن زنزانة السجن، قوله:

ابسِمِي زَنْزَانَتِي مَا مَعَنا.. غَيْرُ رَبي، فَهَلُمِّي للسَّمَرْ

إِنْ بِجُدْرَانِكِ صَدَّا عَفَنٌ.. فَبِقَلْبِي مِثْلُ رَوْضٍ لِلزَّهَرْ

إِنْ صَريرُ القُفْلِ سَمْعِي صَكَّهُ.. فَبِرُوحِي شدْوُ سُكّانِ الشَّجَرْ

إِنْ يَكُنْ دَجْنُكِ لَيلاً سَرْمَداً.. فَبِقَلْبِي الشَّمْسُ ضَاءَتْ والقَمَرْ

إِنْ تَكُ الشَّكْوَى وأنَّاتُ الشَّقَا.. حَوْلَنَا والدَّمعُ يجْرِي كالنَّهَرْ

فَأَنينِي فِيكِ ذِكْرٌ دَائِمٌ.. وَتِلاَواتٌ لِمَحْفُوظِ السُّوَرْ

صلِّ يا رب على خيرِ نبِي.. حِبِّكَ الـمُخْتَارِ مِنْ بَيْنِ البَشَرْ

خلوة السجن…

وهو يقاوم الابتذال ويصنع الحرية، يقلب أوضاع البؤس إلى حقول الأنس، ويحدثنا عن ذلك بنفسه في أحد حواراته فيقول: “أهم شيء في السجن، وهو الخلوة والتفرغ لله سبحانه وتعالى، وكان هذا من فضل الله علي، واستمرارا لما سبق منذ –الآن-ثلاث وعشرين سنة، تفرغت للذكر والتلاوة ولله الحمد، وكنت لشهور طويلة أختم القرآن يوميا في جلسة واحدة، كنت أصوم باستمرار، كنت في حالة روحية جيدة ولله الحمد، ثم إنني قرأت كثيرا في السجن، كانت تدخل لي الكتب. قرأت كثيرا، وكانت تجربة اختلاطي بالناس، مضافة إلى الحالة الروحية التي كنت أعيش فيها تَكَوَّن لدي من هذا في هذه المدة المهمة سنتين، تحوُّل في الفكر، خاصة الذي وطده وزكاه ما كنت أراه من الإخوان عندما يزورونني في السجن من خلف القضبان من ثباتٍ ومن استمرار رغم المضايقات التي تعرفونها جميعا، رغم أن البوليس في كل سبت كانوا يأخذون البطائق ويأخذون الأسماء، وفي هذا تهديد خفي أو ظاهر، ضمني أو مصرح به، ما كنت أراه من الإخوان من ثبات وهذه اللقاءات التي تعرفونها جميعا، كنت ألقي عليكم فيها كلمات كان يزيدني تشجيعا” .

وقال شعرا:

زنزَانَتِي كُنتِ الـمُخَيَّمْ.. ونَزِيلُكِ الضيْفُ المُكَرَّمْ

فيكِ الضِّياءُ لِمَا تَعَتْـ.. ـتَمَ والعَزاءُ لِمَنْ تَهَمَّمْ

مَا كُنْتُ أدْرِي أنَّ دَر.. بَكِ لِلْعُلا والمَجْدِ سُلَّمْ

مَنْ كان يَعْلَمُ أنَّ «زيـ.. ـداً» قَدْ تَحَدَّاهُمْ وصَمَّمْ؟

مَنْ أخْبَرَ الرُّقَّادَ أنَّ.. بِدَارِهم ناراً تَضَرَّمْ

زَنزَانتي آوَيْتِ أوْ.. رادِي إذا ما الليل أظْلَمْ

يا ربِّ صلِّ على النَّبي.. طَهَ معلِّمِنَا المـُعَظَّمْ

آنسنا عظمة الرجُل..

أما عن برنامجه في هذه الخلوة فهو استئناف الرحلة إلى الله، وتنفيذ مهمة البلاغ الذي اؤتمن عليه؛ التمسك بالحق الذي عرفه بقوة، والدعوة إليه برفق، ولكن برؤية تجديدية وفريدة، بلا سرية ظلامية، ولا نزوة حماسية، ولا دروشة قاعدة. ونذكر بالمناسبة مقتطفا من شهادة الأستاذ عبد الله لعماري، رفيقه في سجن لعلو، يقول فيه:

“عندما ضمَّتنا سنوات الرصاص في أحشاء الاعتقال سنة 1984م، آنسنا عظمة الرجل الرباني في بساطته وعزمه المستميت في الانقطاع إلى ذكر الله، والتقرب إليه بلسان ذرب، لا يفتأ عن الذكر وقراءة القرآن، إذ كان يختمه في كل يوم، يبدأ في التهجد والتلاوة في غسق الليل وفي الأسحار قبل صلاة الفجر، مواصلا إلى ميقات الضحى، حيث يخلد قليلا إلى النوم، ثم يكمل برنامجه بعد الظهر، وعند إكمال ختم القرآن مع صلاة العصر، يكون له موعد مع الاستماع إلى الإذاعات الدولية باللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية والروسية التي كان يحسنها جميعا، ليتعرف على أحداث الساعة، مسجلا بين الفينة والأخرى في دفتره الذي لا يفارقه، ما يعن له من ملاحظات وأفكار، وذلك دأبه كل يوم وإلى صلاة العشاء، في صيام دائم، وفي هيام لا ينقطع بالتفكر في ملكوت الله والدار الآخرة” .


[1] سلحوت، جميل. أدب السجون، دار الجندي للنشر، القدس، ط1، 2012م، ص 197.
[2] ياسين، عبد السلام. قطوف (ديوان شعر)، مطبوعات الهلال، وجدة، ط1، 2019م، قطف 631، 8/21.
[3] ياسين، عبد السلام. حوار شامل، مرجع سابق، ص 49.
[4] ياسين، عبد السلام. قطوف، مرجع سابق، قطف 215، 3/67.
[5] لعماري، عبد الله. “عبد السلام ياسين الرجل الأمة”، نشرت في موقع هسبريس (hespress.com)، يوم الجمعة 14 دجنبر 2012م، وشوهد في 19 أبريل 2020م.
تاريخ الخبر: 2022-10-13 12:20:13
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 55%
الأهمية: 65%

آخر الأخبار حول العالم

وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 00:26:09
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 58%

وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 00:26:04
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 55%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية