طبيعة الدولة الجذر الحقيقي للأزمة


طبيعة الدولة الجذر الحقيقي للأزمة «2- 2» 

خالد فضل

ما الذي يرومه الثائر/ ة في مقابل العسف والجور والعنف والاستبداد والفساد الذي وسم حقبة الحكم الإسلامي الإنقاذي؛ التي خرج ثائراً ومضحياً بروحه ضدها؟.

إنّ رسوخ الهدف ووضوح الرؤية يحفزان المرء على بلوغ الأهداف، والوعي الكامل مما يعين الإنسان على السير في طريقه الواضح المحدد سلفاً، وشعار الثورة يحمل ثلاث كلمات بيد أنّ كل واحدة منها تعني الكثير مما يتطلّب إزالة التغبيش والأوهام التي شاعت لعقود طويلة بوساطة الدولة نفسها.

فعلى الأقل ومنذ سبتمبر من العام 1983م ظلّت قضية الشريعة الإسلامية في السودان تشكّل معضلة يصعب معالجتها، وما تزال كذلك مع الأسف، وقد وصفها الرئيس الراحل النميري؛ والذي ارتبط الموضوع باسمه حتى صار يقال (شريعة النميري) في حوار معه إبان فترة نفيه عقب سقوط حكمه في أبريل 1985م، وصفها بـ(الخازوق) الذي لا يستطيع أحد نزعه!! وهي بالفعل خازوق.

وكان إمام طائفة الأنصار الإسلامية المرحوم الصادق المهدي قد وصف تلك الشريعة في حينه بعبارة (أنّها لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به) بينما رفضها المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ محمود محمد طه، واصفاً إياها بأنها مطية لإذلال الشعب، وقد دفع الأستاذ محمود الثمن غالياً حيث أزهقت روحه شنقاً بالمقصلة في سجن كوبر في 18 يناير 1985م، بعد أن حكمت عليه إحدى محاكم الشريعة؛ برئاسة قضاتها الشرعيين بأنّه قد أرتدّ عن الإسلام!!!!

ولم يرحّب أو يحتفي شخصٌ راشد واحد ذو ضمير يقظ، على امتداد الكون الفسيح بتلك الفعلة الشنعاء سوى جماعة الإخوان المسلمين بزعامة مستشار النميري- حينها- المرحوم د. الترابي، فقد هلّلت ورقصت وطربت جماعته على إيقاع غرغرة الموت، والجسد النحيل بابتسامته الواثقة تصعد منه الروح إلى عليائها.

لقد ارتبط تطبيق حكم الشريعة الإسلامية في السودان بأسوأ الفترات التي مرّت بها البلاد، كانت نُذر المجاعة تُحدق بالناس في معظم الأقاليم خاصةً دارفور وكردفان والشرق، والحرب الأهلية الطاحنة بدأت تلوح في غابات الجنوب- القديم- والأوضاع الاقتصادية والمعيشية تشهد انزلاقاً نحو الهاوية، والعملة المحلية (الجنيه) يفقد قيمته أمام العملات الحُرة، فقد كان الإسلاميون قد بدأوا في تطبيق سياسة التمكين، وتحت ذريعة (شرع الله) بدأوا يزينون باطل البطش والتنكيل باسم الله في الطرقات، ودارت عجلة البنوك الإسلامية بالتمويلات السخية لأفراد التنظيم، والتسهيلات غير المعهودة في المصارف من قبل، كل ذلك حدث من أجل إقامة (شرع الله) في بلاد السودان، وتحت لائحة الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ، عاش السودانيون/ ات حقبة حالكة العتمة، إذ لم يتوفّر عرض من الهتك، ولم يسلم بيت من الأذى، وكان التلفزيون وسيلة بث الرعب الرئيسة، ونشرته المسائية تذيع في الناس أخبار محاكم (العدالة الناجزة) الشرعية، وتتمة خبر إقامة حد شرب الخمر مثلاً؛ يجدُر ذكره أنّ المدان ابن عم الصادق المهدي!!!

نعم هذه وقائع عاشتها أجيال السودانيين/ ات في تلك الفترة، ويمكن الرجوع لإرشيف الصحف والتلفزيون لمن يريد التأكد مما أروي، فقد كنت ساعتذاك شاباً ناضجاً شارف عمري على العشرين، وحدهم كان الإسلاميون ثملين بنشوة الانتقام والظفر، فقد بدأ بعض أفرادهم يترسملون من ريع البنك الإسلامي الناشئ حديثاً، وقد ملأ النميري أشرعة مراكبهم إلى حيث يودون أن يقودوا البلاد، التلفع بشعار شرع الله ومن تحته يمارسون أسوأ الموبقات، والخازوق الذي غرسه النميري كان بالنسبة لهم دريئةً وشعاراً يسلبون به ألباب السذج والبسطاء من عامة الناس وبعض الخواص، ولهذا عجز الصادق المهدي (المنتخب بأغلبية برلمانية) عن المضي قدماً في نزع الخازوق وكشط (ما لا يساوي ثمن الحبر الذي كتب به)، كان الراحل تحت ضغط المزايدات والحملات الإعلامية الكثيفة التي برع فيها الإسلاميون ولا شك، وقد زينوا للناس عن طريق غسيل الدماغ أنّ إلغاء قوانين سبتمبر كفر وخروج عن الإسلام وردة تستوجب الجهاد!!

حدث ذلك خلال الفترة الديمقراطية القصيرة (1986- 1989م) وعوضاً عن الإلغاء صار رئيس وزراء السودان المنتخب يتحدّث عن تعديل! ثمّ جاء ببرنامج الصحوة الإسلامية مثلما فعل صنوه اللدود مولانا الميرغني بدعوته للجمهورية الإسلامية، هكذا تكالب الثلاثة الكبار انتخابياً- وقتها- على الحكم باسم (الإسلام) والحرب الأهلية الطاحنة تتمدّد لتشمل جبال النوبة بقيادة الراحل يوسف كوة، والنيل الأزرق بزعامة مالك عقار (آآي عقّر الحي وقاعد هسه ده مع انقلابيي الجبهة ذاتم) والشرق تثلمه نيران الاحتراب بقيادة ناس موسى محمد أحمد وآمنة ضرار.

هذه وقائع وأحداث وقعت في زمان ليس بالبعيد، وتغيير مواقف القيادات لا يعني بأي حال تغيير جذور الأزمات وأسبابها الكامنة في طبيعة الدولة السودانية التي تحولت بفضل الإسلاميين إلى أداة تسوق الناس إلى عالي الجنان إن همو ماتوا في الحروب الأهلية التي قدحوا نارها بالبنزين الديني سريع الاشتعال!

المهم وفي اللحظة التي عاد فيها الرشد إلى رئيس الوزراء حينها، وقبل بإعلان المبادئ الذي كان قد وقّعه الميرغني مع قرنق في 1988م، وفيه نص يقول بتجميد العمل بحكم الشريعة لحين حل معضلة الحرب في السودان؛ وهي مسألة وجودية ومصيرية وضرورة عاجلة وملحة في واقع حياة الناس أكثر من جلد شارب الخمر أو رجم الزاني، في تلك اللحظة الحاسمة وثب الإسلاميون للسلطة عن طريق انقلاب عمر البشير/ الترابي، ولتعود المزايدات باسم شرع الله مما عاشته الأجيال المعاصرة من السودانيين/ ات لمدة 30 سنة، وليثور عليه الثوار من فئة الشباب خاصةً في ثورتهم المجيدة ينشدون الحرية والسلام والعدالة، وهي القيم التي بموجبها تحوز فنلندا على المراتب الأولى، وتتحكر أستراليا في العشرة الأوائل، وتحل اليابان في موقع متقدِّم، وكذلك فرنسا وبريطانيا وهلمجرا مما يتم تحديثه سنوياً في دراسة (معايير إسلامية الدول) المار ذكرها، وهي دول كلها علمانية، لم ينشأ فيها تنظيم ضلالي مستهبل يستغفل الناس ويستغلهم باسم الله أو شريعة الإسلام، دول علمانية ديمقراطية شعارها (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، ومع ذلك طبّقت القيم والمعايير التي دعا لها دين الإسلام ودعت لها الأديان الأخرى واعتمدتها البشرية في مواثيق وعهود منظومة حقوق الإنسان وبدون إراقة قطرة دم واحدة فداءً للدين. فماذا يروم الثوار لبلدهم وشعبهم سوى الحرية السلام والعدالة.

ونعيد التذكير فقط بأنّ هناك اتفاقاً على وثيقة إعلان مبادئ كان قد أبرمه رئيس الوزراء المستقيل د. عبد الله حمدوك مع رئيس الحركة الشعبية شمال القائد عبد العزيز الحلو، تلكأ المكون العسكري وبعض المكون المدني في قوى الحرية والتغيير في السير على هديه، ثم عاد البرهان ليوقع إعلاناً مشابهاً مع الحلو، ولكن سارت الرياح مرّة أخرى بما لا يتوافق ومطلوبات الحل الجذري لطبيعة الدولة السودانية، وكان الفريق الكباشي عضو المجلس الانقلابي بطل تعطيل تلك الخطوة المحمودة.

الآن وبعد عودة المرابين باسم الإسلام إلى ساحة السيطرة من جديد، وبعد عودة كل واجهات ومنظمات الفساد باسم الإسلام، ترى هل من أفق لحل هذه المعضلة؟

تاريخ الخبر: 2022-10-15 03:22:32
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 62%

آخر الأخبار حول العالم

رسميا.. انسحاب اتحاد العاصمة الجزائري من مواجهة نهضة بركان

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 21:26:04
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 57%

رسميا.. انسحاب اتحاد العاصمة الجزائري من مواجهة نهضة بركان

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 21:25:56
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 67%

عاجل.. تأجيل انتخاب اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال 

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 21:26:10
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 63%

عاجل.. تأجيل انتخاب اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال 

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 21:26:06
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 69%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية