مجلة “راكوتي” ودورها فى إحياء الوعي بالدراسات القبطية


لم تنل دراسة تاريخ العصر القبطي لسبب أو لآخر، ردحاً كبيراً من الزمن، من المؤرخين الأقدمين منهم والمحدثين ما هي جديرة به من الرعاية والإهتمام، حتى قال عنهم البعض أنهم كانوا ينظرون إلى ذلك العصر كمن ينظر إلى وادٍ عميق ومظلم يفصل بين القمم المجيدة للتاريخ الفرعوني والرُبى الجميلة لمصر الإسلامية، وقد تعّود المؤرخون أن يعبروا هذا الوادي فوق جسر علوى دون أن يتكرموا بالوقوف لإلقاء نظرة عليه من عليائهم.

ولسنا ننكر أن إهتمام علماء التاريخ المصرى الذى كاد أن يكون قاصراً على الحضارة الفرعونية طوال سنين عديدة، قد أمتد في الفترة الأخيرة – فشمل لغة القبط وآدابهم وفلسفتهم وأفكارهم وعلومهم وفنونهم، إلا أن الجهود المبذولة في هذا السبيل ظلت غير متكافئة مع ما يحق لهذه الدراسات من التقدير والإعتبار. يضاف إلى ذلك أن بعض ما كُتب تعوزه الأمانة العلمية أو على الأقل حُسن النية، لأن الغربيين من مذاهب مسيحية أخرى هم الذين تولوا ذلك، ومن هنا ظلت صفحات عديدة من هذا التاريخ لم تُكتب بعد. وهكذا ظل القبطي المثقف يعرف مع الأسف تاريخ غيره من الشعوب والأمم أكثر مما يعرف عن تاريخ آبائه وأجداده، أولئك الأمجاد الذين عاشوا منذ فجر التاريخ معدناً أصيلاً قد تخبو إصالته حيناً لكنها لا تموت أبداً.

من هذا المنطلق بدأ حلم يراود أبناء مدينة الإسكندرية – منذ بضعة سنوات – فى القيام بدراسات هامة لفترة عزيزة فى تاريخ مصر وهى فترة العصر القبطى، تلك التى تحققت فيها إنجازات عديدة ما زال العالم كله يستمتع بها. فعلى سبيل المثال تمثل “الرهبنة القبطية” إنجازاً هاماً تعد من أهم الإنجازات الحضارية التى قدمتها مصر للعالم. ففى أديرتها أزدهرت العمارة القبطية، والفن القبطى، والصناعات اليدوية المتعددة، والأدب القبطى مما كان له أثر مباشر على الثقافة الأوروبية حتى أن العديد من الجامعات فى العالم الغربى أنشأت بها أقسام أكاديمية متخصصة لدراسة تلك الفترة، وهو أمر يجب أن يكون سبباً فخر لكل المصريين. فالأديرة بالنسبة للكنيسة القبطية ليست مجرد تاريخ وتراث إنما هى أساس كل إزدهار روحي وتعليمي.

أيضاً في تلك الفترة أزدهر العديد من الفنون الأخرى كالموسيقى والنحت والنسيج والزخرفة كما وأكبها تقدم العديد من العلوم كالرياضيات والطب والصيدلة .. إلخ.

من هذا المنطلق كان من المحتم الإهتمام بإبراز هذه الفترة بوضوح بعيداً عن الدراسات الدينية المتخصصة. فكانت رغبة أبناء الإسكندرية هو إيجاد وسيلة عملية وجادة لإظهار إنجازات هذه الفترة لأبناء مصر رغبة فى زيادة الوعى الثقافي والحضاري عندهم حتى تكون صورة مصر متكاملة إبتداءً من العصر المصرى القديم إلى العصر القبطى وصولاً إلى العصر الإسلامى مما يزيد من وحدة وتكاتف وتلاقى وتآلف أبناء الشعب الواحد.الوسيلة كانت فى إصدار مجلة متخصصة – تخاطب أصحاب الثقافات المتنوعة – في هذا الموضوع الغني في جميع مجالاته وبالأخص أنه لا يوجد فى المكتبة العربية مجلة واحدة في هذا الموضوع تكون في متناول أبناء الشعب.

وقد آلت جمعية مارمينا العجايبى للدراسات القبطية بالإسكندرية على نفسها – والتى تعمل في هذا الحقل منذ عام 1945- أن تحمل لواء هذه الدراسة الجادة بمساهمة من أبناء الإسكندرية سواء الموجودين على أرض مصر أو بأوروبا أو بكندا أو بالولايات المتحدة الإمريكية على أن يشارك فى تحريرها مجموعة من الباحثين المهتمين والمتخصصين فى دراسات تلك الفترة.

وفي بقعة غالية من أرض الإسكندرية، فى منطقة فاروس، والتى تقع في نطاق منطقة “راكوتي” القديمة، أجتمع نفر قليل من أبناء مؤسسى جمعية مارمينا العجايبى للدراسات القبطية بالإسكندرية وتدارسوا فى شئون تلك المجلة فكان الاسم المختار هو “راكوتى” Rhakoti، وكان التأييد لإصدار هذه المجلة تأييداً بالإجماع.

لماذا “راكوتى”؟

“راكوتى” بالقبطية (لهجة بحيرى)، “راقوده” بالقبطية (لهجة صعيدي) وقد أستُخدمت فى العربية، و”راكوتيس” باليونانية، كانت قرية فرعونية صغيرة لكنها هامة ومعناها “الحصن” أو “الوقاية” أو “الجسر”، فكانت عاصمة لأقليم يضم عشرة مدن أخرى.

وكانت حصناً أمامياً ولها أهمية فى الأقليم الغربى الواقع على الحدود تجاه ليبيا منذ الأسرة 12 وبأكثر دقة منذ عصر “الرعامسة”.

وتدل الأبنية القديمة لها على أنها كانت المنفذ الرئيسى بين مصر وأقطار البحر المتوسط ومركزاً تجارياً هاماً مع بلاد الأغريق فى عصر الأسرات 26، 29، 30. ومن منطلق هذه الأهمية لتلك القرية الصغيرة جاء إختيار الإسكندر الأكبر لهذا الموقع ليؤسس عليه مدينة الإسكندرية. من هنا يمكن إعتبار الإسكندرية بلدة قديمة (راكوتى) أُعيد تأسيسها وبناؤها وتوسيعها على نطاق واسع.

شعار مجلة “راكوتي”

كان لابد من إختيار شعار للمجلة ليعّبر عن هويتها التى تتميز بها، فبداخل خرطوشة مصرية (إشارة إلى مصرية المجلة) يوجد رسم للقديس مرقس (إشارة إلى قبطيتها) فى الوضع التعليمى وتحيط برأسه هالة نورانية وهو بداخل مركب في مياه الإسكندرية وينظر إلى فنارها (إشارة إلى راكوتي). وهكذا تتحقق هوية المجلة من خلال هذا الشعار.

مواصفات المجلة:

وفعلاً أستقر الرأى على إصدار المجلة فى 40 (أربعين) صفحة من القطع الكبير بداخل غلاف ملوّن، الغلاف الأمامى يحتوى على صورة لإيقونة قبطية، والغلاف الخلفي يحتوى على منظر لأحد الفنون القبطية من خشب أو نسيج أو معدن أو رخام .. إلخ. على أن يوضع بظهر الغلاف شرح وافٍ للأيقونة والقطعة الفنية باللغتين العربية والإنجليزية.

كذلك أستقر الرأى على أن المجلة تحوى مجموعة من المقالات فى الموضوعات الآتية: لغة قبطية، تراث قبطي، عرض لرسائل جامعية في الدراسات القبطية، صفحة من تاريخ القبط على مر العصور، تاريخ مدن مصرية فى العصر القبطى، تاريخ وأعمال أحد علماء القبطيات سواء من المصريين أو الأجانب، عرض وافٍ لأحد الكتب فى الدراسات القبطية، عرض موجز لمجموعة من الكتب في القبطيات، ثم مقال باللغة الإنجليزية في القبطيات.

صدر العدد الأول من المجلة فى يناير 2004 تناول عدة موضوعات فى تاريخ اللغة القبطية، المخطوطات القبطية، تاريخ الأقباط فى عصر الولاة، الطب المصري في العصر القبطي، تاريخ مدينة آون (عين شمس) في العصر القبطي، تاريخ عميد الأدب القبطي أقلاديوس بك لبيب (1868 – 1918)، ثم مقال باللغة الإنجليزية عن أهمية اللغة القبطية.

ما أن صدر العدد الأول حتى كان الترحيب رائعاً على المستوى الإعلامي وعلى المستوى الكنسي أيضاً. فقد أستُقبلت “راكوتي” بما يفوق توقعاتنا من ترحيب وإحتفاء ولاقت قبولاً حسناً.

فقد وصفتها مجلة “الكتب وجهات نظر” التي تصدر عن “دار الشروق” ويرأس تحريرها الصحفى المتميز الأستاذ سلامة أحمد سلامة، بأنها (إضافة جديدة للدوريات المتخصصة)، فى صفحة “غذاء العقول” بجريدة الأهرام، الصادرة صباح الثلاثاء 6 يناير 2004 (ليلة عيد الميلاد المجيد)، أقامت الأستاذة ماجدة الجندى (الصحفية المتالقة بالثقافة وحرم الكاتب وأديب مصر القدير الأستاذ جمال الغيطاني) أحتفالاً بالمولود الجديد يذكرنا بحفل السبوع ذلك التراث المصرى في الصميم الذي لايزال يُقام في بيوتنا حيث يتبارى فيه الأهل والأصدقاء لتقديم أغلى هداياهم للمولود الجديد وكانت هديتها لـ “راكوتي” أغلى الهدايا وأثمنها. قالت الأستاذة ماجدة تحت عنوان “مولود جديد في ليلة عيد الميلاد المجيد”: (لقد آثرت فى البداية أن تكون بطاقة التعريف خالية من أى تأثيرات تخص جانب قراءتي الأجتهادية. أما لو سألنى القارئ عما قدمته لى “راكوتى” فأقول ببساطة أن شيئاً أساسياً قد أضيف، وأننى بعد قراءة المجلة غير قبل قراءتها وليس في ذلك أي قدر من المبالغة. “راكوتي” يحررها نُخبة متخصصة فى صيغة موجهة أساساً لغير المتخصصين، لذلك فهى تستكمل معلومات القارئ دون تعال. لكن الأهم أنها تحاول أن تملأ فجوة فى معرفتنا بتاريخنا بمصر الفرعونية القبطية الإسلامية). ثم قالت فى النهاية: (فإن “راكوتى” إضافة حقيقية أختارت لنفسها شعاراً مصرياً صميماً – خرطوشة مصرية – إشارة للهوية، بداخلها رسم القديس مرقس فى داخل مركب في ميناء الإسكندرية ناظراً إلى فنارها). وأعلنت عن صدورها جريدة “القاهرة” التى تصدر عن وزارة الثقافة ويرأس تحريرها الأستاذ صلاح عيسى. وكتبت عنها جريدة “وطني الدولي” مقالاً بقلم د. سعد ميخائيل سعد بالولايات المتحدة الأمريكية يقول: (إنها إضافة للدراسات القبطية حول العالم كما للقبط المتطلعين لأن يعرفوا تراثهم ويقدموه للعالم من حولهم)، كما قام د. رشاد منير شكري (نجل أحد مؤسسى الجمعية ويشغل وظيفة أستاذ رياضيات وعلوم الحاسب بالكلية الملكية العسكرية بمدينة “كينجستون”Kingston الكندية بتسجيل مقال بجريدة “وطنى الدولى” فى الأحتفالية بمرور العام الأول على صدور المجلة سجل فيه – بأسلوب باحث مدقق فى القبطيات – دور الحضارة القبطية فى تقدم العلوم وتهافت الغرب على دراستها بتدقيق بالغ.

ولتقدير الكنيسة لدور مجلة “راكوتى” فى مجال القبطيات وجدنا مجلة “الكرازة” التى يرأس تحريرها البابا شنوده الثالث، كتبت عنها تحت عنوان “هؤلاء يعملون” وأشار المقال إلى غلاف المجلة الأمامى الذى تتصدره صورة ملونة لأيقونة باويط الشهيرة (رسم جدارى) للسيد المسيح وبجواره القديس مينا رئيس الدير بينما الغلاف الخلفى عليه صورة بالألوان لقطعة نسيج من القرن 4-5 الميلادى من محفوظات المتحف القبطى وهى من صناعة وفنون مصر القبطية التى ذاع صيتها في أفاق العالم المعمور وقتئذ.

كما نسجل بكل الحب والتقدير دور جريدة “وطني” التي أهتمت بالإعلان عن صدور أعداد المجلة بالألوان ودون أن تتحمل الجمعية أية تكاليف مادية، مما كان سبباً مباشراً في أقبال القراء على البحث عن المجلة في المكتبات المختلفة.

وفي أثناء إعداد العدد الأول من السنة الثالثة للمجلة – يناير 2006 – وصلنا خطاب من الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار د. زاهى حواس بتاريخ 19 سبتمبر 2005 طالب فيه بضرورة الحصول على أعداد المجلة لوضعها فى مكتبة المجلس الأعلى للاثار والمتخصصة فى كل ما هو معنى بالآثار والتراث الثقافي المتنوع.

كما وصلنا رسائل تقدير وإعجاب بالمجلة من أقباط المهجر نذكر منهم الأستاذ الدكتور فايق متى اسحق – استاذ الأدب الأنجليزى بجامعة تورنتو ورئيس تحرير مجلة “الدراسات القبطية”، والأستاذة دورا حبيب المصرى (شقيقة المؤرخة الكنسية القديرة الأستاذة ايريس حبيب المصرى)، والدكتور رودلف ينى مرقس (الطبيب المقيم بمدينة بلسلفانيا الأمريكية ورئيس تحرير مجلة “القبطيات” Coptologia.

كما ساهم معنا في نشر وتوزيع المجلة بالولايات المتحدة الأمريكية الأستاذ الدكتور نشأت بقطر ساويرس (أستاذ الإحصاء الرياضى بالجامعات الأمريكية بكاليفورنيا).

واصلت الجمعية إصدار مجلتها الشيقة فأصدرت العديد من الأعداد الخاصة التى تغطى إحتفالية معينة منها:

الفنون القبطية (مايو 2004)، مئوية إكتشاف مدينة بومينا بمريوط (مايو 2005)، الجمعية وستون عاماً فى خدمة الدراسات القبطية (سبتمبر 2005)، فى ذكرى أب الشركة الرهبانية القديس أنبا باخوم (مايو 2006)، الإستشهاد والرهبنة (سبتمبر 2006)، المتحف القبطى (يناير 2007)، فى ذكرى رئيس المتوحدين القديس أنبا شنوده (مايو 2007)، فى ذكرى النيروز وعالم مصرى مدقق د. عزيز سوريال عطية (سبتمبر 2007)، منطقة كيليا أقدم ثانى تجمع رهبانى (يناير 2008)، منطقة نتريا أقدم أول تجمع رهبانى وعالم مصريات زاهد د. لبيب حبشى (مايو 2008)، وادى النطرون أقدم ثالث تجمع رهبانى وأمير وطنى شغوف بالقبطيات الأمير عمر طوسون (سبتمبر 2008)، الفن القبطي ورواده (يناير 2009)، اللغة القبطية وروادها (مايو 2009)، الموسيقى القبطية وروادها (سبتمبر 2009)، النوبة في ذكرى إنقاذها (يناير 2010)، روائع النسيج القبطي ومستشرق هولندى فى القبطيات الأب يعقوب مويزر (مايو 2010)، روائع الأدب القبطى وعميد الأدب العربى المسيحى د. جورج جراف (سبتمبر 2010).

واستمرت الجمعية في إصدار مجلتها المتميزة بإنتظام حتى يناير 2011 حينما أصدرت عددها الخاص بمناسبة مائة وخمسون عاماً على نياحة رجل الإصلاح القبطى البابا كيرلس الرابع (1816 – 1861م) البطريرك 110، وكان هذا العدد يمثل العدد رقم 22 والأخير من المجلة إذ بسبب الظروف السياسية التى إجتازتها البلاد كان من الصعب العمل فى تلك الأجواء القاسية وحظر التجول. فتوقفت المجلة عن الصدور.

وهكذا ساهمت جمعية مارمينا العجائبي للدراسات القبطية بالإسكندرية فى إحياء فكر الدراسات القبطية عند المصريين، فنجد أهتمام مكتبة الإسكندرية بإنشاء قسم للدراسات القبطية، كما قامت كلية الآداب – جامعة الإسكندرية- بتأسيس قسم للدراسات القبطية، حتى صار للدراسات القبطية نصيب فى اهتمام الباحثين وطلاب الدراسات العليا.

ونحن فى هذا المقام نذكر بكل الشكر والتقدير الأب الروحي للجمعية البابا كيرلس السادس (1902 – 1971) البطريرك 116 الذى أوحى لمؤسسى الجمعية – في عام 1943 – باسم الجمعية، وأخذ يتابع بأهتمام شديد نشاط الجمعية، ونحن نثق أن صلواته وهو في الفروس هي سنداً لجمعيتنا. كما نطلب الرحمة والراحة الحقيقية لكل آباءنا الذين تعبوا في تأسيس الجمعية وبذلوا مجهودات فائقة بإمكانيات بسيطة.

تاريخ الخبر: 2022-10-17 12:21:50
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 55%
الأهمية: 58%

آخر الأخبار حول العالم

توقعات أحوال الطقس اليوم السبت

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-27 12:25:40
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 51%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية