جمال الغيطانى يكتب: اسمه عبدالعاطى

كان الكاتب الراحل جمال الغيطانى «١٩٤٥- ٢٠١٥» مراسلًا حربيًا بموهبة أديب وكان صحفيًا بقلبٍ يختلج بحب مصر.. بدأ حياته الصحفية فى «الأخبار» بعد أن أثبت موهبته الأدبية، وقاده اختياره لأن يصبح مراسلًا حربيًا على الجبهة فى سنوات المواجهة والصبر والعبور من الهزيمة إلى النصر.. حوّل الغيطانى تغطياته على الجبهة إلى قطع أدبية فريدة عبّر فيها عن انحيازه لوطنه، وسجل بطولات الجنود قبل القادة، والأهالى قبل العسكريين، وحوّل قلمه إلى سلاح يشارك به فى المعركة ويشحذ به الرأى العام لمزيد من الانصهار فى المعركة.. وهكذا شهد الاستنزاف ثم العبور، وجمع كل ما كتبه فى كتاب مهم هو «المصريون والحرب» سجل فيه فصول علاقة المصريين بالحرب منذ أن طردوا الهكسوس وحتى عبروا القناة، وكان من بين ما كتبه نص بديع عن فلاح مصرى عادى انبعث ماردًا أثناء المعارك وتصدى بمدفعه لكتيبة دبابات إسرائيلية فقضى عليها وأصبحنا نعرفه جميعًا فيما بعد باسم «عبدالعاطى صائد الدبابات».. والحقيقة أن أحدًا لم يسجل بطولة عبدالعاطى برشاقة وعمق وفهم جمال الغيطانى الذى خلّد بطولة المصرى العادى الذى يقدم حياته طائعًا لمعنى اسمه الوطن دون مكسب أو مقابل.. وقد كان محمد عبدالعاطى «١٩٥٠- ٢٠٠١» واحدًا من مئات آلاف قدموا كل ما لديهم دون انتظار مقابل.. ليصبح رمزًا ومعنى لأشياء كثيرة.. فى السطور التالية ننشر ما كتبه الغيطانى عن محمد عبدالعاطى صائد الدبابات ونحن ما زلنا فى شهر العبور.. رحم الله الكاتب والمكتوب عنه وجزاهما خيرًا بقدر ما أحيا وطنهما وقدما له.

                                                                                                                    وائل لطفى

اسمه عبدالعاطى من الشرقية، وحاصل على دبلوم المدارس الثانوية الزراعية، ويبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا، من مواليد ١٩٥٠، واحد من آلاف ينتمون إلى جيل يقدم أغلى التضحيات من أجل مصر، جند فى القوات المسلحة منذ عام ١٩٧٠، وقبلها كان يعمل موظفًا كأى واحد من الموظفين الذين تزدحم بهم دوائر الحكومة، هل جال واحد عندما رأى عبدالعاطى يذهب إلى المدرسة الزراعية طالبًا، أو عندما رآه يمشى فى شوارع منيا القمح. أو يتسلم بعض الخطابات ويرد على البعض الآخر فى المصلحة، هل تصور أحد أنه سيدمر للعدو الإسرائيلى ثلاثًا وعشرين دبابة، وأنه سيحطم ثلاثة وعشرين مدرعة مع رجال موقعه، هذا ما قام به عبدالعاطى ورجاله، عبدالعاطى المرح، صاحب الوجه المصرى جدًا والأسنان ذات البروز الخفيف والفلجة الخفيفة، واللهجة السريعة، والحيوية المتدفقة، والرقة إذ يذكر ابنة عمه التى ينوى أن يتزوجها، عبدالعاطى ورجاله من علامات حرب أكتوبر، من العلامات الإيجابية العظيمة فى المقاتل المصرى، ولكى نتبع ما قام به يجب أن نبدأ من يوم السبت ٦ أكتوبر، منذ الساعة الثانية والقوات تتدفق عبر القناة وفى أحد مواقع القطاع الأوسط يجىء الدور على تشكيل من قواتنا، إنهم مجموعة من حملة الصواريخ المضادة للدبابات، منذ لحظة العبور وحتى يوم السبت ٢٢ أكتوبر، يوم وقف إطلاق النار، هذه الأيام تعتبر بالنسبة لعبدالعاطى ورجاله يومًا واحدًا ممتدًا، بدا يوم ٦ أكتوبر وانتهى يوم ٢٢، وكل التفاصيل الزمنية بينهما ملغاة، وهذا شعور وجدته لدى كثيرين من المقاتلين، لقد ألغيت الفواصل الزمنية خلال أكتوبر بالنسبة لهم، عاشوا الحرب ليل نهار، ويذكر أحد المقاتلين الآخرين أنه قضى أيام الحرب بدون أن ينام، أو يتمدد، أو يخلع حذاءه، إن شمولية الأحداث، تعاقبها، ونشوة النصر جعلت الكل ينسون النوم والراحة، كان هناك تعويض آخر، هذا ما شعر به عبدالعاطى ورجاله، أن هذه الأيام تعنى بالنسبة لهم عددًا كبيرًا من الدبابات قاموا بتدميره فوق أرض سيناء.. عبدالعاطى يشعر بثقة لا حد لها فى نفسه، عندما التقيت به رأيت هذا على الفور، وقلت لنفسى، هذه ثقة طبيعية، فأن يدمر إنسان ما ثلاثًا وعشرين دبابة فهذا أمر فوق الواقع، ويتخطى حدود العقل، وإمكانيات التخيل، إنه واقع خاص يصنعه المقاتل المصرى.

 

كان الرجال أيضًا يشعرون بثقة شديدة لا حد لها فى أنفسهم وفى سلاحهم عندما عبروا إلى الشرق، إن نوعية سلاحهم، الصاروخى المضاد للدبابات، تقضى قبل استخدامها خبرة عريضة تكتسب عبر تدريب شاق جدًا، فالسلاح معقد، واستعماله لا بد أن يعتمد على الغريزة وليس التفكير، أى أن المقاتل يجب أن يستخدمه كما يمارس المشى والحديث، وهذا يتم عبر تدريب قاس وطويل أيضًا، فإن التوافق بين أفراد المجموعة لا بد أن يكون تامًا، كان هذا أبرز سمات تلك المجموعة، والتى تشعر بعد قضاء وقت قصير معها أنك بين أصدقاء حميمين، خاصة العلاقة بينهم وبين الضابط قائد المجموعات، عندما جاء المقاتل عبدالجابر، اندفع إليهم، واندفعوا إليه، تعانقوا، بدا كأخ أكبر أو أب، ورأيت فى وجهه صلابة الصعيد الأعلى، لقد علمهم، وقسا عليهم فى التدريبات، لكن فى أوقات الراحة صحبهم إلى الترفيه، نظم لهم الرحلات إلى بعض المعالم المشهورة، اشترك معهم كلاعب كرة، أذكر حوارًا جرى بين المقاتل عبدالعاطى والمقاتل عبدالجابر وأحد كبار القادة، مباريات الكرة اشتركوا فيها معًا قبل الحرب خلال وقت الفراغ، بدا الحوار مرحًا كأنهم مجموعة أصدقاء، لا فرق فى الرتب، ورأيت قمة التطور والتغيير الذى طرأ على العلاقة بين الضابط وجنوده، تأملت «عبدالجابر» إنه واحد من صانعى الرجال الأفذاذ، إنه ينظر إلى الرجال بحب، ذكرنى بأستاذ كان يدرس لنا اللغة العربية فى المدرسة الابتدائية، وكان خلال الحصص يحدثنا دائمًا عن تلاميذه الذين أصبحوا رجالًا، بعضهم ضباط، بعضهم موظفون، بعضهم محامون، يلتقون به فى الطريق، لا يعرفهم، لكنهم يسلمون عليه، يقولون، أنت علمتنا كذا وكذا، تذكرت وجه المدرس خلال هذا الحديث، إحساسه بأنه خلق شيئًا، وتذكرته عندما التقيت به فى الطريق بعد أن صرت رجلًا ونزلت إلى الحياة، لم يعرفنى، لكنه أبدى اعتذارًا، كنت أمامه جزءًا من معنى حياته، لما صنعه، کنت امتدادًا خفيًا له، رأيت هذا فى عينى عبدالجابر تجاه رجاله، ولكن المعنى هنا أعمق وأسمى، لأنه يتعلق بالصراع الدموى ضد العدو، يقف عند الحد الفاصل بين الحياة والموت.

عبدالعاطى ورجاله على بعد ١٧ كيلو من قناة السويس، ثانى أيام الحرب، إنهم يتقدمون جميع القوات، إذ إنهم بطبيعة عملهم لا بد أن يكونوا فى المقدمة يتصدون لمدرعات العدو، هذا يقتضى أيضا نوعية خاصة من الرجال، لا بد أن تكون أعصابهم قوية جدًا وهم يواجهون المدرعات ودوى الطلقات، تتناثر آلاف الشظايا، وتحت هذه الظروف يقوم المقاتلون بتشعيل هذه المقذوفات الدقيقة، التى تستلزم دقة فائقة فى التوجيه، والإطلاق حتى تصيد الهدف.

ظهرت خمس دبابات معادية فى اتجاه الشرق من طراز إم - ٦٠، كان تجهيز القواذف معدًا، ويقول عبدالعاطى:

- رحت واكل أول دبابة.. وبعدين الثانية والثالثة..

حدث هذا فى سرعة فائقة، لم تمر ثوان حتى ظهرت ٨ دبابات معادية فى اتجاه الجنوب، الرجال يعملون معًا، اندمج كيانهم كله فى الموقف، إن الثانية الآن تمثل عاملًا حاسمًا، إما أن ينتقل الإنسان إلى الظلال، أو يبقى فى الضوء، انطلقت المقذوفات لتدمر خمس دبابات، ثلاث.. انتهت دبابات العدو. 

وهنا تقدم رجالنا لاحتلال تبة عالية، يمكنهم من خلالها التحكم فى جميع المواقع المحيطة بهم، وطبيعة الأرض فى سيناء، حيث دارت معاركهم ضد الدبابات غير مستوية، تعلو الكثبان، تهبط الأرض، تبدو الصحراء وحشية مليئة بالأسرار، مزدحمة بالمفاجآت، بمجرد ارتقائهم التل، ظهرت دبابات ثلاث من طراز إم- ٦٠ احدث الدبابات الأمريكية لدى العدو.

وجه عبدالعاطى مقذوفاته إليها، علت أعمدة النيران. وبدا على فولاذ الدبابات الحيرة والهزيمة، بدت أجساد الدبابات الضخمة وكأنها حيوانات معدنية خرافية فقدت توازنها، رأی عبدالعاطی ورجاله جنود العدو يتركون دباباتهم، ويتجهون بسرعة إلى مواقعهم، كانوا كثيرين، بمفردهم فى العراء بعد أن جردهم رجالنا من دروعهم الفولاذية، وهنا تقدم إليهم رجال المشاة ليأسروهم بينما كان رجال عبدالعاطى يجهزون معداتهم استعدادًا للقاء جديد.

فى الليل تقدموا للتمركز فوق كثيب عالٍ يعد من أقوى الهيئات المحاكمة، أى المواقع المتحكمة فى المنطقة، ومع أول ضوء ظهرت دبابات فى اتجاه الشرق، يقول عبدالعاطى ببساطة، وأنقل هنا نفس كلماته:

- كلت واحدة.. وزميلنا الثالث كل واحدة.

وخلف الدبابات الفردية، ظهرت عرية مجنزرة للعدو تحمل ٢٠ فردًا. كانت مندفعة بسرعة جدًا وهنا لأدع بطلنا يتحدث:

- ضربتها صاروخ، ولأن درعها أقل من درع الدبابة فى الصاروخ خد راحته فيها قوی.

وقدامنا لقينا عامود نار عالى جدًا، وهج النيران والحرارة ماغطاش على لون الدم.. اللى مات مات واللى أسرناه أسرناه..

وبين الرجال وقف المقاتل «عبدالجابر» مع أن موقعه فى الخطوط الخلفية. كان يصيح:

- برافو يا أبطال.. الله أكبر.. الله أكبر يا بطل.. الله أكبر.

وعندما أصيب إصابة صغيرة فى فخذه، رفض أن يخلى، أن يغادر الموقع، ربط الجرح، ومشى يتنقل بينهم، يعرج عرجا خفيفًا.

فى اليوم الثالث، هجموا بغزارة.

من الشرق ظهرت عشر دبابات، كلها من طراز إم- ٦٠ مندفعة بأقصى سرعة، أمام عبدالعاطی ٤ مقذوفات جاهزة، وهنا نلاحظ مدى دقة أعصابه، وعدم استسلامه للواقع، إن الحرب لم تكن فقط ضد دبابات العدو، إنما ضد الواقع أيضًا.

استقر كل مقذوف فى دبابة، دمرت ٤ دبابات، واشتعلت دبابتان أخريان، كانت الدبابات كثيرة، وكان الجهد شاقًا. والدبابات تطلق داناتها بغزارة، ضد النقطة التى تمركز فوقها أبطالنا. وفوق معصم أحد الرجال مرت دانة دبابة، أحدثت به بعض الحروق البسيطة بتأثير اللهب، وهنا راح بطلنا يقوم بتجهيز المقذوفات بنفسه وإطلاقها. طبعًا تم كل ما وصفناه بسرعة شديدة استغرقت وقتًا ربما أقل من الزمن اللازم لقراءة الوصف. دمر بطلنا دبابتين، وهنا استدارت بقية الدبابات، مولية الفرار، عكس الفولاذ رعب الإنسان، علت سحابات الغبار، وتذكرت هجمة للطيران المعادى، ست طائرات فانتوم، انطلقت صواريخنا، أسقطت خمس طائرات، بقيت طائرة واحدة، هبطت، علت، دارت ودارت دورات بلا معنی، عکس حديدها رعب الطيار، كان ينقصه شىء واحد، أن يفتح العجلات وينزل فوق الرمال، قال قائد الدفاع الجوى فى المنطقة إن عودته إلى قاعدته تماثل تمامًا إسقاطه.

إذ إن روحه اهتزت إذ رأى تدمير خمس من طائرات التشكيل الذى كان منضمًا إليه سوف تنتقل إلى زملائه، علت سحابات غبار. بينما ولت الدبابات الباتون الفرار. ولا بد أن قائد هذه الدبابات أبلغ قيادته أنه يواجه فرقة بأكملها من المقاتلين المصريين، ولا بد أنه نصحهم بتجنب الهجوم على هذه المنطقة وهكذا أثبت المقاتل المصرى أن البطولة الفردية، والعنصر الإنسانى، مستمران فى الحرب الحديثة، هكذا أوقف عبدالعاطی ابن «منيا القمح» قلاع العدو الفولاذية ودمرها. إن النشوة التى كان يتحدث بها عبدالعاطى عن سير المعارك التى كانت تحركه كى يصحبنى إلى حيث الدبابات الإسرائيلية المدمرة، تعكس حالة الانتصار التى سادت المقاتلين، حالة من الطهر والتطهير من رواسب تراكمت طوال ست سنوات كان لها تأثيراتها السلبية على الإنسان المصرى. ولكن بالقتال وبالدم تم تطهيرها، وهكذا بالعنف بالحرب يحمى الإنسان المصرى حضارته، يبيد الرواسب، يتخطى المعوقات داخل روحه، لا أنسى أبدًا وقفتنا على حافة قناة السويس، ننظر بأسى إلى الضفة الشرقية، والعلم الإسرائيلى، والمواقع المعادية، والفارق الرهيب بين وقفتنا فوق أرض سيناء، نتأمل جثث العدو، ودباباته المحترقة، ونخطو فوق أرض كان العدو موجودًا بها منذ ساعات، إن هذا يغير كل شىء فى حياة الإنسان بدءًا من آماله فى المستقبل حتى الطريقة التى يصافح بها الناس، وعلاقاته بهم. إن العنف، الحرب التحريرية هى المطهر، هى الطريق إلى حماية الحضارة، ومن هنا ضرورة استمرار روح القتال، ليس استمرار الاشتباك فهذا يستغرق وقتًا محدودًا والنتيجة فيه تحسم بسرعة، ولكن الزمن الممتد قبل وبعد الاشتباك هو ما يجب أن تسوده روح القتال، حتى تفاصيل الحياة اليومية، إن قاعدة الصواريخ تعمل ٢٤ ساعة، تظل عيون الرجال مفتوحة لا تغلق، ولايهدأون، بينما يستغرق الاشتباك مع طائرات العدو ثوانى معدودات، بعد خمسة أيام من انقطاع الدبابات الإسرائيلية عن مهاجمة هذا الاتجاه ظهرت دبابات إسرائيلية فتحت نيرانها فى اتجاه مواقع رجالنا، يبدو أن الاستطلاع المعادى رصد مواقعهم، تخندقت هذه الدبابة فى خور، فى الوقت نفسه جاءت دبابتان حاولنا الالتفاف حول الموقع، وتصدى الرجال لهاتين الدبابتين، وبقيت هذه الدبابة، سيطر على عبدالعاطى وزميله اهتمام شديد، أمسك بالنظارة، مسح بها التبة المواجهة، كان برج الدبابة فقط هو الظاهر، وماسورة المدفع، انتظر أن تتحرك، والمعروف أن أقوى جزء فى الدبابة هو البرج. ولكى يضرب مقذوف فى اتجاه العدو لا بد أن يتأكد ١٠٠٪ من إيجابية الإصابة، وبقيت الدبابة ثابتة لا تتحرك، تضرب داناتها فى اتجاه الرجال، تحتمی بالموقعين اللذين استقرت بينهما، عند آخر ضوء كانت قد أطلقت ٣٠ طلقة، وعرف عبدالعاطى بعد الدانات التى أطلقتها أن ذخيرتها فرغت، وفعلًا، طلع أحد أفراد طاقمها فوق البرج، بدأ يأخذ الذخيرة الفارغة، وبرغم أنها كانت تقف فى وضع من أصعب الأوضاع بالنسبة لضربها. أطلق عبدالعاطى عليها صاروخًا، كان الليل قد بدأ الخطو واحتاج الأمر إلى دقة متناهية من عبدالعاطی ليستقر الصاروخ فى جسد الدبابة تمامًا.. وانفجرت، وفوق رمال سيناء ترقد جثث الدبابات متفحمة، تلخص صورة من الصراع بين العقل المصرى والعقل الإسرائيلى، بين إرادة التحرير وقوة العدوان.

 

قال أحد المقاتلين، لحظة بدء إجراءات تسليم هذا الموقع الإسرائيلى المنيع على الضفة الشرقية للقناة.

- بسقوط هذا الموقع يكون أقوى التحصينات الإسرائيلية قد سقطت فى أيدى قواتنا.. صمت قليلًا، ثم قال.

- إنه لم ير موقعًا حصينًا كهذا من قبل.

وتتجه أنظار المقاتلين إلى لسان بور توفيق، حيث يبدو الموقع الإسرائيلى وكأنه جبل صغير فوق الأرض. كل مقاتل ينظر فى شراسة بالضبط كشراسة القتال الذى دار بين جنودنا والعدو المحتمى خلف هذه الجدران الصلبة. أسبوع طويل من القتال والخطر لا يوشك على نهايته، وفى الليل التقطت قواتنا إشارة لا سلكية خرجت من الموقع إلى قيادة العدو، يطلب فيها القائد أن يسلم موقعه عن طريق الصليب الأحمر. ها هو مندوب الصليب الأحمر يعبر القناة فى قارب صغير، انفجارات مدافعنا تجىء من الشرق، لقد اتخذت قواتنا احتياطات عديدة، جنودنا يحاصرون الموقع من جميع الجهات، أو بتعبير أحد المقاتلين «إنهم يركبونه». فوق صحراء سيناء تبدو كتل غامقة متحركة. دباباتنا، وعربات تتحرك بسرعة. رجل الصليب الأحمر يصل إلى حافة الموقع. يرافقه بعض جنودنا، يظهر فردان من أفراد العدو، ثم عدد آخر من قمة الدشمة بعد أن رفعوا غطاءً مستديرًا يشبه أغطية البالوعات، كأن الأرض تلفظهم بعد أن ضاقت بهم، يتحدثون قليلًا مع ممثلى الصليب الأحمر. ينزلون القارب، الأرض لا تزال تلفظ أعدادًا أخرى، بمجرد خروجهم يتهالكون جالسين، ومن بعيد كنت أكاد أصغى إلى لهفتهم الوحشية إلى الضوء والشمس بعد أسبوع قضوه سجناء الموقع والظلام والذعر، كنت قد ابتعدت عن تجمع الصحفيين الذى وقف يرقب الحدث، آثرت الوقوف فوق نقطة عالية بين جنودنا من أفراد القوة التى تحاصر الموقع، هذه هى اللحظات الأخيرة بعدها يفك أسر الأرض الحبيبة منذ ست سنوات، كل مقاتل يقف هنا ينظر إلى الموقع، يتذكر أحد زملائه الذين استشهدوا فى الهجوم عليه، هذه اللحظات التى يتم خلالها الآن عملية التسليم دفعت دماء غالية ثمنًا لها. إن الرجال يتجمعون غير عابئين بطيران العدو وخلال الدقائق التى استغرقها الحديث بين فردى العدو وقائد التشكيل المصرى ورجل الصليب الأحمر. قائد الموقع الإسرائيلى يرفع يده بالتحية للعلم المصرى، أراه يقف فى وضع انتباه أمامنا.

أحد المقاتلين من أبناء صعيد مصر، سنوات طويلة مضغ خلالها رغبته فى الثأر، اندفع يهاجم هذا الموقع، المقاومة عنيدة وقاسية. كانت التحصينات القوية تساعد العدو على التمركز خلفها، والبقاء أطول وقت ممكن، كان مدفع رشاش يطلق النيران بإصرار، وأمسك مقاتلنا بقنبلة يدوية، صاح زاعفًا..

- أنا جاى لك.

 

أحد القادة كان يسرع إذ يجيئه نبأ استشهاد أحد جنوده، أو إصابة أحدهم بجرح. يحمله فوق كتفه بنفسه، يذهب به إلى نقطة الإسعاف. كان إذا علم أن جنديًا من جنوده جرح أو استشهد يضم قبضته، يضرب الحجر بحنق. ثم يبدأ فى تخطيط خطوط نحيلة كأصابعه فوق تراب الأرض أو رمالها. هذا القائد الشاب يقف الآن. إنه يرقب إجراءات التسليم. لقد انهمرت الدماء والتضحيات، كان يمكن للجنود اقتحام الموقع وإبادة من فيه، لكن مادام قائده طلب الاستسلام عن طريق الصليب الأحمر فلا بد من هذه الإجراءات التى تتم الآن. بعد قليل يرتفع العلم المصری فوق الموقع، الاستعدادات تتم لحمله إلى الضفة الأخری، مقاتل يخرج بعلم ملفوف من الموقع، الأرض تميل ميلًا خفيفًا، يرفعه إلى أعلى، على امتداد ذراعيه، يقول أحد الواقفين.

- بعد دقائق سيرفع العلم المصری فوق النقطة القوية.. الآن وإلى الأبد.

يسكت قليلًا، ويقول.

- إننى على استعداد للاشتباك معهم ليلًا ونهارًا.. ولو نفدت ذخيرتى أتمنى لو أن جسمی طلقة يوجهها زملائى من خلال مدفع.

يشير مقاتل آخر، إلى أفراد العدو الذين تجمعوا كالقطيع.

هؤلاء الجبناء لم يقابلنا واحد منهم بوجهه قط.. هذه النقطة القوية من أشد التحصينات تعقيدًا، انظر كم من الأفراد كان يقيم بها أكثر من أربعين فردًا. كل هؤلاء استسلموا وأظهروا الجبن، هل تتصور حجم هذه النقطة، إنها أشبه بمستعمرة صغيرة، لو أن ثلاثة منا فقط داخل نقطة كهذه لما استسلموا قط إلا فى حالة واحدة..

الموت.

سبعة وثلاثون أسيرًا..

منكسوا الرءوس، عيونهم ذائغة، ممزقوا الثياب، ملامحهم غريبة، خليط متناقض مع الأرض المحيطة بهم، من الممكن أن أذهب إلى اليمن، حضرموت، السودان، المغرب، صحراء الربع الخالى، إلى مسقط، إلى عمان، أينما ذهبت سأجد وجوهًا تبدو متلائمة مع واقعها المحيط بها، حيث الملامح عربية واللغة واحدة. والأصول الخفية، لكن هؤلاء يبدون كمجموعة سائحين تمشى فى حى شعبى، منهم إفريقيا، خليط كالعصابة، قطيع، يتلاحقون القادم من أمريكا، بولندا، أوروبا، جنوب بجوار بعضهم. يطلبون الماء فى شراهة والسجائر، وتقدم إليهم السجائر والمياه، هنا تتجسد صورتان متناقضتان، صورة دائمًا كانت تتكرر فى تاريخ الحضارة المصرية، حضارة عمرها سبعة آلاف سنة تدفع عن نفسها بالعنف خطر مجموعة شراذم، جنودنا يرون فيهم أشباه آدميين بعد أن خرجوا من وراء الجدران القوية والجلب والمدافع والدبابات، حاخامهم يحتضن کيسًا أحمر اللون عليه رسم نجمة داود، جنودنا يحملون خمسة جرحى، يدفعون بهم إلى عربات الإسعاف تنقلهم بسرعة إلى مستشفى السويس، أحد الجرحى يرتدى زيه المدنى تحت ردائه العسكرى، قميص أحمر اللون، وجورب برتقالی، صندل بلاستيك، أزياء الباقين مختلطة أيضًا. أحد الأسرى يقفز متلهفًا ليلتقف سيجارة ألقيت إليه، كل منهم يبالغ فى إظهار آيات الذلة والمسكنة.. فجأة تتحول الأنظار، تسرى حركة بين المقاتلين.

 

قوة من المقاتلين، تمضى إلى الموقع، من فوق النقطة العالية يبدو طابورهم صاعدًا فى خط مائل، منذ أن لمح الرجال علمهم يخفق فى الهواء والتكبير والهتاف بحياة مصر يهدأ، الموقف فوق الواقع، الموقع أصفر اللون، والبحر غامق الزرقة، والسماء تشهق صافية، الطيران تسقطه الصواريخ والأسرى مستسلمون، مشهد لا يمكن أن يتكرر إلا فى حروب التحرير الوطنية، طابور الرجال ما زال متجهًا إلى أعلى منطقة فى اللسان، طابور عرق وجهد وتدريبات قاسية، ومعاناة وجراح، وعزم وإصرار، طابور يتقدمه قائد التشكيل يرفع العلم خفاقًا، يسری شعور ملتهب بين المقاتلين، آه.. لكم يود كل مقاتل لو عاش زميله أو صاحبه الذى استشهد دفاعًا عن كل ما يمثله هذا العلم ليرى تلك اللحظة، الرجال يحفرون الأرض، يثبتون الصاری. تلتهب الصدور.. التأثر يدفع الدمع إلى العيون، الصيحات ترجف الأرض، الفراغ ومياه القناة والصخر تتصاعد إلى أعماق السماء والتاريخ..

الله أكبر.

الله أكبر.

تحيا جمهورية مصر العربية.

تحيا جمهورية مصر العربية.

تحيا جمهورية مصر العربية.

يرفع قائد التشكيل يده بالتحية العسكرية. الحناجر لا تهدأ، الله أكبر.. تحيا مصر، تبادلوا العناق. الوطن كله هنا فوق الموقع الذى حرر، دباباتنا تبدو من هنا مندفعة إلى الشرق.

لحظة رفع العلم تتجاوز كل شىء، تعلو فوق الحياة نفسها، تصل الحلم بالواقع، تجسد الأمنيات التى كانت مستحيلة التحقيق، تقصی الخوف وخطر الموت، وفداحة الثمن وتغسل الإنسان، الحناجر تردد، الله أكبر، الله أكبر، من فوق رمال سيناء، من مواقع لا نرى من فيها، يعلو صوت جنودنا، الله أكبر، فتبدو الأرض وكأنها تزعق مهللة، والسماء تحنو وتحمى، تحيا مصر، تحيا مصر، تحيا مصر، وشيئًا فشيئًا تتوحد الأصوات فى صوت جماعی، رهيب.

بلادى.. بلادى.. بلادى.

لك حبى وفؤادى.

بينما يخفق العلم راسخًا، صلبًا.

وكانت الساعة، تمام الواحدة والنصف من ظهر اليوم السابع للحرب.

من كتاب «المصريون والحرب»

تاريخ الخبر: 2022-10-17 21:21:50
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 51%
الأهمية: 60%

آخر الأخبار حول العالم

براهيم دياز يتألق ويسجل هدفين لريال مدريد ضد غرناطة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-11 21:25:58
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 69%

براهيم دياز يتألق ويسجل هدفين لريال مدريد ضد غرناطة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-11 21:26:06
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 60%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية