ماذا بعد تقرير «بلاسخارت» من الناحية القانونية ؟ بمعنى اخر: ما الاثر القانوني المترتب على تقارير مبعوثة الامم المتحدة «جنين بلاسخارت» التي تقدمت بها الى مجلس الامن الدولي؟
وهل يبقى مجلس الامن الدولي مكتفياً بالاستماع الى تقارير تلو التقارير من مبعوثة الامم المتحدة ام سيقدم على خطوة اخرى ؟ الاجابة على هذه الاسئلة القانونية يلزمنا ان نتبع منهج استدلالي صارم وفق المنطق القانوني الموضوعي البعيد عن التفسيرات السياسية للقانون للخروج بنتائج محايدة على ضوء القانون الدولي , و هذا المنهج يتطلب منا: تحديد المركز القانوني الدولي للعراق , و بيان الالتزامات القانونية التي فرضها مجلس الامن الدولي على منظومة الحكم في العراق و رقابته على تنفيذها, و اخلال منظومة الحكم في العراق بهذه الالتزامات و من ثم بيان الاثر القانوني المترتب على تقرير «بلاسخارت» في ضوء القانون الدولي.
اولاً: المركز القانوني الدولي للعراق:
ابقى مجلس الامن الدولي العراق تحت ولايته و سلطاته استناداً الى قرارات مجلس الامن الدولي 1472 و 1476 و 1483 و 1490 و 1500 و 1511 و 1511 /2003 ولم يخرجه عن الفصل السابع الذي يخول مجلس الامن مواجهة مخاطر و تهديدات قد تظهر من العراق فقد نص صراحة على ان العراق ما يزال يمثل تهديداً للسلم و الامن الدولي و انه يتعامل مع العراق على وفق الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة. ولكن مجلس الامن الدولي حاول منح الثقة للعراق و الفسح المجال للحكام الجدد لاعادة بناءه و تعزيز حقوق الانسان, فبعد عام 2005 و ابتداءاً من قرار 1619/2005 و مروراً بقرار 1700/2006 وقرار 1770/2007 و 1830/2008 و 1883/2009 و 1936/2010 وقرار 2001/2011 و قرار 2061/2012 و قرار 2110/2013 و قرار2169/2014 و انتهاءاً بقرار 2576/2021 , اي بعد انتقال العراق من مجلس الحكم الى حكومة منتخبة انتخاباً ديمقراطياً بدأ خطاب مجلس الامن الدولي يتحول من التأكيد على ان العراق تحت الفصل السابع الى التأكيد على سيادة العراق على كامل اراضيه و وحدته الوطنية ولم يستعمل عبارة “ان مجلس الامن الدولي يتعامل مع العراق وفق الفصل السابع لميثاق الامم المتحدة”. و لكن التأكيد على ان العراق يملك السيادة الكاملة لم يكن مطلقاً و انما مع شيء من التحفظ بهذا الشأن اذ دائماً ما يذيل مجلس الامن الدولي قراراته بشأن العراق بعبارة (إبقاء المسألة تحت قيد نظره الفعلي) و على الرغم من ذلك يمكن اعتبار ذلك تقدم وتطور لافت في طريقة تعامل مجلس الامن الدولي مع العراق , الا ان هذا التقدم في التعامل السيادي مع العراق لم يدم طويلاً اذ رجع مجلس الامن في قراره الاخير رقم 2621/2022 و أكد على ان مجلس الامن يتعامل مع العراق تحت الفصل السابع لميثاق الامم المتحدة , بمعنى ان العراق ما زال تحت الرقابة الدولية و لم يتحرر منها , و منظومة الحكم فيه لا تمتلك السيادة المطلقة في ادارة الحكم فيه و انما هي تحت رقابة مجلس الامن الدولي حول مدى ايفاءها لالتزاماتها الدولية التي حددتها قرارات مجلس الامن الدولي و التي تتمحور حول “بناء مؤسسات العراق و اصلاحها».
ثانياً: الالتزامات القانونية الدولية المفروض على منظومة الحكم في العراق و الرقابة على تنفيذها:
جاءت بعثة الامم المتحدة للعراق بعد عام 2003 مع قوات الاحتلال الامريكي و رتبت قرارات مجلس الامن الدولي ابتداءاً من قرار رقم 1483/2003 و مروراً بقرار 1500 /2003 و انتهاءاً بقرار 2631/2022 و كل القرارات ذات الصلة التزامين اثنين , التزام على الطبقة الحاكمة الجديدة للعراق من جهة , و من جهة اخرى التزام على مبعوث الامم المتحدة في العراق. اما الالتزام المترتب على الحكام الجدد للعراق: فإن مجلس الامن الدولي الزمهم على ان يكونوا خير من يمثل الشعب العراقي من خلال قيامهم بتطوير مؤسسات الحكم النيابي و اعادة بناء العراق و اصلاح مؤسساته الوطنية على اساس مبدأ سيادة القانون الذي يكفل المساواة و الحقوق للجميع , و ذلك بقرار 1619/2005 و تعزيز الجهود الرامية لبناء الشعب العراقي كأمة منتجة تنعم بالرخاء وتعيش بسلام مع نفسها و مع جيرانها و ذلك بقرار رقم 1700/2006 و قرار 1770/2007.
اما الالتزام الذي رتبه مجلس الامن على مبعوث الامم المتحدة في العراق بموجب قرار رقم 1500 /2003 هو تقديم تقارير منتظمة تبين مدى قيام منظومة الحكم الجديدة بتنفيذ التزاماتها الدولية تجاه مجلس الامن الدولي بشأن اعادة بناء العراق واصلاح مؤسساته و تحقيق التنمية الشاملة و المستدامة لتمكين المواطن العراقي من التمتع بخيرات العراق و ثرواته العامة على وفق مبدأ المساواة تعزيزاً لحقوق الانسان و حرياته في العراق. فمبعوثة الامم المتحدة “بلاسخارت” موظف دولي مكلف بواجبات قانونية و تمثل رسمياً منظمة “الامم المتحدة” وبعثتها ملتزمة بالواجب المكلفة به من قبل مجلس الامن الدولي بتقديم تقرير منتظم يبين مدى قيام منظومة الحكم الجديدة تنفيذ التزاماتها تجاه المجتمع الدولي في بناء الدولة العراقية و اصلاح مؤسساتها لتمثل الشعب العراقي بتمكينها من تقديم الخدمات الحياتية التي تطور مسار حياة مواطنيه. و ان توصيف المبعوثة الاممية “جنين بلاسخارت” على انها تدخلت في السياسة العراقية و انتهكت سيادة العراق و اصبحت طرفاً في العملية السياسية هو توصيف مجانب للحقيقة و غير قانوني لان “بلاسخارت” تقوم بمهامها و واجباتها التي عُهدت اليها بموجب قرارات مجلس الامن الدولي ذات الصلة في متابعة تقدم حالة بناء العراق من حيث الاصلاح القانوني و القضائي و الاقتصادي و الاجتماعي و الامني و مراقبة الاحزاب السياسية الحاكمة للعراق في تنفيذ التزاماتهم تلك امام مجلس الامن الدولي , وتصرفاتهم و اعمالهم تحت رقابة مجلس الامن الدولي. و تقارير المبعوثة الاممية منها يستقي مجلس الامن حقيقة حالة العراق في ظل الحكم الجديد , و تعد هذه التقارير ادلة اثبات على ما يحدث في العراق يعتمد عليها مجلس الامن الدولي في كل خطواته المقبلة , كما فعل مع تقارير لجان التفتيش عن الاسلحة في الحكم السابق قبل عام 2003, فعليها استند لاصدار قراره في فرض العقوبات و التدابير الدولية و التشديد منها. هذه التقارير و الاحاطات لا يمكن الاستهانة بها و التصغير من شأنها , و تنبع اهميتها و خطورتها من انها مقدمة الى مجلس الامن الدولي الذي يمثل الجهة التنفيذية لمنظمة الامم المتحدة و المخول من قبل المجتمع الدولي في استعمال القوة ضد اي تهديد يتعرض له السلام و الامن الدوليين.
نقلاً عن "المدى"
