السودان الراهن السياسي.. سيناريوهات المرغوب والممكن والمستحيل «1- 4»


الرأي اليوم

السودان الراهن السياسي.. سيناريوهات المرغوب والممكن والمستحيل «1- 4»

صلاح جلال

«1»

* تمر البلاد بمنعطف سياسى حاد وحرج في إطار أزمة مركبة سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية، تحول سياسي من الشمولية إلى الديمقراطية متعسر، وأزمة اقتصادية بلغت حد وضوح ملامح الانهيار العمودي،  تضخم جامح وكساد شامل أوقف الإنتاج، وحلول أمنية غير مُجدية لتحدٍّ سياسي كبير، واقع إثنوجهوي متفجر وقابل للعنف، مشهد مقلق لكل الحادبين من أبناء الوطن، والمشفقين من الأشقاء والجيران والأصدقاء.

المدخل لتناول هذا المشهد لابد أن يمر عبر مفاهيم نظرية مهمة لبناء مرافعة موضوعية، منها معنى الثورة، وهي عملية خروج على النظام الدكتاتوري السلطوي دستور ومؤسسات وسياسات لطرحها جانباً، وتأسيس نظام جديد مغاير في التوجهات والسياسات بشرط رئيسي فيه استجابة واستلهام لمبادئ وشعارات الثورة (حرية- سلام- عدالة).

كيفية الاستجابة لتحقيق هذه المبادئ هي بداية الاختلاف والانقسام بين نخب الثورة حيث تتنازعها بين نخبة إصلاحية ونخبة ثورية جذرية، ونخبة محافظة، الثورات الناجحة هي التي تتمكن من المساومة الموضوعية بين هذه النخب ذات التوجهات المتباينة، لخلق التوافق العريض الذي يحافظ على وحدة قوى الثورة، هناك ثلاثة عناصر تلعب أدواراً رئيسية من خلال تحركاتها في نجاح وإخفاق الانتقالات المركبة، أولها النخبة السياسية وكيفية توفيقها بين الحالة الثورية والإدارة الإجرائية لشؤون الدولة، وفق الدستور وصحيح القانون، ثانيها الجيش والخلط بين دور الوصايا والرعاية للانتقال الديمقراطي، ثالثها العالم الخارجي وتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، وفق موقع الدولة الجيوبولتيكي مما يخلق تدخلات حميدة تساعد الانتقال وضارة تعيق التحول الديمقراطي، وهذه تحتاج لضبط ومراقبة حاسمة لسلوك النخبة وقدرتها على قيادة عملية الانتقال وامتلاكها أو التبعية والانصياع للأجندات والمؤثرات الخارجية، مما يقود إلى إرباك العملية الانتقالية.

«2»

* كذلك هناك بعض العوامل الجانبية ذات التأثير على سير الانتقال نحو الانفتاح أو الانسداد السياسي وضيق الأفق، منها ضبط توقعات الجماهير الثورية من عملية التغيير، فيما يتعلق بمصالحها الاقتصادية والسياسية وكيفية تحقيق شعارات الثورة، وهذه ترتبط بسلوك النخبة السياسية أيضاً وثقافتها السائدة بين الانتقام والتسامح، منها من يتملق الشارع العام بالمزايدة، والشعارات الشعبوية على تطلعاته، أمام تيارات الحلول الموضوعية للأزمات بالتدرج والتقسيط المطلوب، والقيام بشيطنتها وتقزيمها لصالح التطرف.

كذلك قضية كيفية بناء التوافق العريض وتكتيكاته الإيجابية لترسيخ الانتقال، والتي يجب أن تقوم تقوم على التحالف بين المعتدلين من  قوى الثورة، مع المعتدلين من قوى النظام السلطوي السابق، الذين يقبلون التغيير الثوري وقواعد الانتقال الديمقراطي، ويعلنون الانضمام له، ولا تكون عليهم إتهامات وتجاوزات  تتعلق بالفساد، وانتهاك حقوق الإنسان، أو قضايا قانونية منظورة أمام محاكم الثورة، مقابل تحجيم المتطرفين والمهيجين الشعبويين وسط قوى الثورة والثورة المضادة.

دروس مستفادة من تجارب الانتقال في أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا، ذكر عدد من الباحثين ملامح عمومية كان لها دور إيجابي في معادلة الاستقرار والانتقال الديمقراطي منها *تأسيس تحالف توافقي ديمقراطي عريض ملتف حول فكرة الدولة الموحدة لتقليص مخاطر التنازعات الإثنوجهوية والهوياتية التي تهدد الانتقالات الديمقراطية في ظل الخروج من حروب أهلية طاحنة واتفاقات سلام متأرجحة.

هناك عامل أخير هو دور أنواع المثقفين الذين يتناولون الشؤون العامة في ظل المد الثورى وهم ينقسمون، بين مثقف ثوري متطرف تدعمه أيديولوجيا ووعي من خلال تجربة تاريخية واحدة للثورة لا تصلح قواعدها للتعميم تقود لوعي أرثوذكسي يخلق بيئة لجدل النقاء الثوري، والتخوين وسيادة ثقافة المؤامرة بين النخب، ومثقف إصلاحي، وآخر محافظ.

بعد هذه المقدمة النظرية والتحليل لواقع الانتقال الديمقراطي في السودان الذي تتنازعه ثلاثة سيناريوهات تعرفت عليها بعد طواف واسع على قيادات النخب السياسية والثقافية والمجتمعية والأمنية والاستماع إليها والتعرف على مرئياتها خلال شهرين متتابعين من المقابلات خلاصتها السيناريوهات الآتية، السودان  بين الرغبة والممكن والمستحيل وهي كالتالي:-

«3»

* الأول سيناريو التغيير الجذري

يتبناه الحزب الشيوعي ومشايعيه من بعض لجان المقاومة وقوى المجتمع المدن

يهدف بوضوح لتغيير جذري يزيح القوى العسكرية والأمنية، وقوى إجتماعية واسعة يصفها بالرجعية والهبوط الناعم Soft Liners مضاف إليها إلغاء كل قوى الثورة المضادة من الفلول، وكل من شارك في نظام الإنقاذ وحزبه المحلول، هذا السيناريو نماذجه التاريخية في محيطنا الأفريقي تجربة يوغندا موسفيني وإثيوبيا ملس زيناوي وتشاد إدريس ديبي وليبيريا جونسون تيلور.

هذا السيناريو لا يمكن تحققه على أرض الواقع دون حرب أهلية شاملة، من خلال قوى كفاح مسلحة قائمة أو فتح معسكرات لتسليح الشعب ليهزم القوات المسلحة والاجهزة الأمنية، ويزيل الطبقة السياسية غير المرغوبة، ويقيم النظام الجذري المنشود.

هذا سيناريو بعيد عن الواقعية أقرب للخيال لغياب مقوماته حالياً حتى وإن صحت كل فرضياته واندلعت الحرب الأهلية يقتضيها بالحد الأدنى عشرة أعوام أو يزيد للسيطرة وصناعة البديل والاستقرار، وإذا جاءت الطوبة في المعطوبة يمكن أن يقود لتحلل الدولة، وينتهي لفراغ مشابه لما حدث في الصومال التي استغرقت عودتها بعد الحرب الأهلية لحالة الدولة ما يقارب الثلاثين عاماً.

هل السودان مستعد ويحتاج لهذا السيناريوا المكلف الآن؟ وهل القوى الاجتماعية التي تتبنى هذا السيناريو مؤهلة سياسياً واقتصادياً وإجتماعياً لإكماله وتحقيقه على أرض الواقع؟، أم هو حالة نوستالوجية ورغبوية لتجارب إقليمية وعالمية في واقع مغاير، وظرف تاريخي مختلف!!!

أخشى أن يكون هذا السيناريو جزءاً من أحلام اليقظة المحفوفة بالمخاطر غير المحسوبة، وركوب موجة المزايدة على الجماهير بدافع النقاء الثوري الذي ينتهي لتوريط الحركة الجماهيرية في مأزق تاريخي أكبر من الانسداد القائم، فالحزب الشيوعي سيكون مؤهلاً لقيادة حركة تغيير بهذا العمق عندما ينجح في بناء مؤسسة ذات عمق شعبي واسع، تؤمن ببرنامجه وتوجهاته وتكون الأداة الحاسمة لتحقيق التغيير الجذري المنشود، فاقد الشئ لا يعطيه، حزب معلق وسط البرجوازية الصغيرة ذات الطابع الإصلاحي والنفس القصير وفق المفهوم الماركسي، تطرح تصوراً يقوم على أحلام البروليتاريا والطبقة العاملة افتراضياً وتطلعاتهم للتغيير الجذري، فلنعالج استقامة النص نظرياً وفكرياً ثم نأتي بعده للمتون.

اقترح على القوى السياسية والاجتماعية المتبنية لهذا السيناريو الخطير الحالم المستحيل الآن، التراجع عنه بالخروج إلى مربع جديد واقعي وعملي يقع في إطار الممكنات المقبولة يعيد قوى شعارات التغيير الجذري للتوافق الوطني العريض.

«4»

* السيناريو الثاني وهو حالة الانقلاب الراهنة بغض النظر عن أسبابها الذاتية والموضوعية، التي تتراوح بين رد الفعل والطموح والمخاوف والأطماع، في سياق الانتقال الديمقراطي الذي تمت مصادرته، هذا الانقلاب بعد ما يقارب العام من وقوعه واضح أنه يعيش مأزقاً عميقاً، فهو مشلول وعاجز بالكامل عن إنتاج أي فعل سياسي يدفعه إلى الخلف أو الأمام Stucked، نتيجة لمعارضة داخلية ورفض شعبي واسع، وعدم قبول وضغوط إقليمية ودولية، وأزمة اقتصادية مستفحلة، كل هذه المعطيات لا تلعب لصالح استمرار الانقلاب، وتقول بعدم إمكانية تعويمه، وهو في وضع لا يُغري أي قوى سياسية وإجتماعية مسؤولة وذات وزن لمشاركته في هذا الفشل والعزلة المجيدة التي يعيشها، بالتالي سيناريو الانقلاب على الانتقال الديمقراطي خيار غير قابل للتعويم والتسويق مهما كانت المبررات، يجب على قيادة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وضع حد لهذا السيناريو الفاشل، وتجاوزه بالنزول لمربع جديد، يقوم على التفاهم مع القوى المدنية، من خلال اتفاق واضح ومشهود لإكمال الانتقال المدني الديمقراطي، يحفظ للأجهزة الأمنية مكانتها، ويحافظ على وحدتها، ويخرجها بشرف واحترام من العمل السياسي، لتشرف من موقعها الأمني على قيام انتخابات ديمقراطية حرة وشفافة وعادلة، من خلال ميثاق شرف بين المدنيين والعسكريين للطمأنة المتبادلة.

«5»

* السيناريو الثالث وهو سيناريو العودة لإكمال التحول المدني الديمقراطي، باستخدام كل الضغوط الممكنة من خلال التصعيد الشعبي، وتعبئة الشارع الثوري وتوحيده، وتوظيف الضغط الإقليمي والدولي المؤيد للقيم الإنسانية المتمثلة في الحكم المدني والديمقراطي، وتحقيق السلام، واحترام حقوق الإنسان، هذه القيم التي أصبحت مشتركات عالمية Universal تناضل الشعوب والحكومات الديمقراطية والمنظمات العالمية من أجل إقراراها من خلال الاعتماد المتبادل والمناصرة المشتركة.

الآلية لهذا السيناريو لابد من عملية سياسية واضحة المعالم، تحقق أهداف وتطلعات الجماهير الثورية والقوى الوازنة للتغيير، تقوم العملية السياسية على التفاوض المباشر بين فرقاء الساحة السياسية والعسكريين، للوصول لتوافق واسع لتشكيل حاضنة موضوعية عريضة، تستبعد حزب المؤتمر الوطني المحلول بقانون ونص الوثيقة الدستورية، لإكمال الانتقال الديمقراطي لأجله المتفق عليه، ونهايته الطبيعية الإنتخابات الحرة مكتملة أركان التحضير المؤسسي والدستوري والقانوني.

«6»

* هذا هو السيناريو المجدي نظرياً، والممكن عملياً، والمقبول محلياً ودولياً، والأقل تكلفة ومخاطر على البلاد، لكنه يواجه صعوبات عملية في تشكيل جبهة التوافق الوطني العريضة، من خلال مكوناته المدنية المعلنة فالحرية والتغيير المجلس المركزي تمتلك النصاعة الأخلاقية في مقاومة الانقلاب ولكنها غير كافية وحدها لتشكل حاضنة موضوعية لتحقيق أهداف الانتقال، الممثلة في الاستقرار السياسي والتحول الديمقراطي ومواجهة تحديات الاقتصاد والسلام، لذلك على قوى الحرية والتغيير إجراء تغييرات ضرورية لتكون بديلاً مجدياً لاستلام السلطة من بينها توسيع إطارها السياسي، وإعادة توحيد نفسها مع كل مكوناتها المنقسمة عنها وتوسيع المشاركة المؤسسية داخلها، بدل الاحتكار القائم على أسماء ووجوه محدودة في كل المناشط، حتى يرى الشعب السوداني وجهه فيها كمعبر سياسي عن أهدافه المعلنة، كما يجب العمل على تشكيل أكبر قاعدة ممكنة للشارع الثوري من خلال حشد لجان المقاومة كقوى شبابية وازنة في الشارع المناهض للانقلاب، في إطار منصة تنسيقية موحدة يحكمها إعلان سياسي مشترك، والانفتاح على قوى سلام جوبا، وتطمين القوى الإجتماعية من إدارات أهلية وطرق صوفية والتفاهم معها حول قضايا الانتقال وتحدياته واقتراح دور إيجابي لهم في توحيد الشارع الوطني العام، بالإضافة للقوى السياسية التي لم تشارك في الثورة غير حزب المؤتمر الوطني المحلول ممثلة في الاتحادى الأصل والمؤتمر الشعبي ومجموعات السلام مع النظام المخلوع، ولكل الذين اتخذوا موقفاً صحيحاً من الانقلاب وقدّموا رؤية نقدية لمشاركتهم لتجربة الإنقاذ الماضية.

إذا تمكّنت قوى الحرية والتغيير قيادة هذه الإصلاحات المطلوبة بضمير سليم، بعيداً عن النظرات الضيقة، القائمة على الإقصاء والاستحواذ والطموحات الشخصية للاعبين، سنجد أنفسنا أمام سيناريو قابل للتطبيق، من خلال أدوات السياسة المعروفة والمجربة- التنازلات- المساومات- الصفقات- المواثيق.

تاريخ الخبر: 2022-10-24 03:22:44
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 56%
الأهمية: 57%

آخر الأخبار حول العالم

مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال الـ 24 ساعة الماضية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 00:26:28
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 53%

مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال الـ 24 ساعة الماضية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 00:26:34
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 61%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية