وليد الخشاب: الغربة قدر يومي.. وفؤاد المهندس من أعظم نجوم السينما المصرية (حوار)

وليد الخشاب، واحد ممن يملكون العديد من المواهب مثله مثل صلاح جاهين وغيرهم، هو أستاذ ومنسق الدراسات العربية بجامعة يورك، كندا منذ عام 2007، ومدير جماعة الدراسات العربية الكندية، وفي عام 2003 حصل على الدكتوراة من جامعة مونتريال في السينما والأدب المقارن وعنوانها "الميلودراما في مصر".

بورتريه ل دكتور وليد الخشاب مع الأصدقاء من مصر

في 2004 أدار تحرير كتاب: "العرب: الخروج من الأزمة؟" المنشور في دار كورليه الفرنسية، وأتبعه بستين فصلاً في كتاب ومقالاً أكاديمياً حول الثقافات العربية والإسلام، لا سيما قضايا الهوية الثقافية والحداثة، لا سيما في السينما والأدب والثقافة الدارجة.

نشرت دراساته بالعربية والفرنسية والإنجليزية في دورهام ومونتريال وباريس وإسطنبول والقاهرة، وفي مجال النقد الأدبي والثقافي، نشر كتاباً من تأليفه، وأدار تحرير ثلاثة كتب، بالإضافة إلى عشرات الدراسات النقدية المنشورة باللغة العربية في العديد من الدوريات الثقافية (مثل "الطريق" و"القاهرة" و"أخبار الأدب" و"مرايا") أو السيارة (مثل "الأهالي" و"الأهرام" و"الحياة" و"الكواكب" و"الفن السابع"،)، وكذلك الدوريات المحكمة (مثل "فصول" و"ألف"). كمترجم رؤيوي عتيد، نشر وليد الخشاب العشرات من القصائد والدراسات المترجمة من وإلى الفرنسية. ترجم إلى العربية لاكان وتودوروف ونشر الترجمة العربية لكتاب زومتور العمدة: "مدخل إلى الشعر الشفاهي"، بالإضافة إلى رواية وديوان لمنى لطيف.

بورتريه للمفكر دكتور وليد الخشاب

لوليد الخشاب أربع مجموعات شعرية: الموتى لا يستهلكون (2001) التي (2013) قمر مفاجئ (2015) كشك اعتماد (2019)، الدستور التقت الدكتور وليد الخشاب وكان هذا الحوار الذي يأتي في جزأين.

بورتريه للمفكر والباحث الصوفي دكتور وليد الخشاب

15 عاما على بداية عملك كمنسق وأستاذ للدراسات العربية بجامعة يورك بكندا.. ليتك تحدثنا كيف كانت بدايات الرحلة؟

رحلتي إلى كندا بدأت بمصادفة، وانتهت مدرساً ومنسقاً للدراسات العربية، أولاً بجامعة كونكورديا في مونتريال عام 2004، ثم انتقلت عام 2007 إلى جامعة يورك في تورنتو أستاذاً ومنسقاً للدراسات العربية. 

حصلت على منحة لدراسة الدكتوراة في الأدب المقارن والسينما بجامعة مونتريال وفي نيتي العودة لجامعة القاهرة لمواصلة عملي بها ومساهمتي في الحياة الثقافية والأكاديمية بمصر. 

وكان أحد العوامل التي حسمت أمري في السفر هو ما رأيته من تواطؤ بين جهات متعددة تركت الدكتور نصر حامد أبو زيد يدفع ثمن أبحاثه المجددة في مجال الدراسات التراثية بجامعة القاهرة، ودفعته للهجرة المؤقتة. تأكدت وقتها أنني لن أتمتع بحرية البحث العلمي بالقدر الذي أتمناه إلا في الغرب. لم أعثر على منح مناسبة إلا منح الفرانكوفونية في كندا، رغم أنني كنت أفكر في فرنسا أولاً. ثم تشاء الظروف أن أذهب إلى كندا ومعي أسرتي، ثم أن أقرر الاستقرار في كندا، وأن تعرض علي وظيفة مدرس للدراسات العربية بجامعة كونكورديا. 

ترددت أولاً لأنني كنت أسعى إلى وظيفة في الدراسات السينمائية، ثم قبلت، في انتظار العثور على ما كنت قد خططت له. وها أنا ذا منذ 2004 واحد من أقل من عشرة أساتذة للدراسات العربية في كافة أرجاء كندا. أسست قسم الدراسات العربية في جامعة كونكورديا، ثم انتقلت إلى جامعة يورك حيث أعمل منذ خمسة عشر عاماً.

ومن خلال تلك الوظيفة بحثت وحاضرت في السينما، لكن ايضاً في الأدب والتراث والثقافة الدارجة.

 وكيف نرى الحصاد اليوم علميا وفكرياً وإبداعياً؟

ما زال هناك الكثير لأتعلمه والكثير الذي أود إنجازه. لكن الأهم أن معياري في البحث العلمي صار الاستمتاع بالبحث والعمل. ولهذا تشجعت وانطلقت في دراسة مجال الكوميديا واخترت العمل على منجز النجم المحبوب فؤاد المهندس. وأعكف حاليا على كتابة كتاب عن فنه وتفاعله مع المجتمع لا سيما في الحقبة الناصرية، رغم أن دراسة الكوميديا دراسة أكاديمية جادة لا تحظى بالقبول الذي تحظى به الفنون "الجادة" مثلالتراجيديا في المسرح أو الأدب الروائي بشكل عام. 

لقطة تجمع وليد الخشاب والشاعر الكبير زين العابدين فؤاد

لو ألقيت النظر إلى الوراء، لوجدتني قد نشرت ستين فصلاً في كتاب ومقالاً علمياً في مجالات متعلقة بالأدب والسينما والأدب المقارن والدراسات الإسلامية ودراسات الثقافة الدارجة والدراسات الثقافية، عدا عشرات المقالات في صحف ثقافية أو في الصحف السيارة. أشعر بامتنان للظروف التي سمحت لي بالانطلاق في مجالات عدة، وأدرك أن الزمن لن يسعفني لأكتب كل ما كنت أتمنى كتابته، لهذا أحاول التركيز على مجموعة مشاريع أعتبرها أساسية في أبحاثي، لأطمئن على إنجاز ما أستطيع منها على الوجه الأكمل. من هذه المشاريع دراسة السينما والمقدس، أو تعانق السينما والتصوف، وهو ما طرقته في دراساتي عن المخرج الإيراني الفذ محسن مخملباف والمخرج الإيراني الشاعر عباس كيارستمي، وعن مجاز البساط في السينما، وعما أسميته "السينما الصوفية". المشروع الثاني هو تعانق السينما والحداثة في العالم العربي، وهو ما طرقته في دراساتي عن الميلودراما وعن فكرة القرين والازدواج في السينما، وعن ظهور بعض الآلات الحديثة في السينما مثل السيارة والدراجة النارية. المشروع الثالث عن تحليل بعض القصص القادمة من التراث المقدس المشترك بين أكثر من دين، مثلما في دراساتي عن الإسكندر الأكبر في القرآن، أو صورة السيدة مريم بين القرآن والأناجيل.

لقطة ل وليد الخشاب مع شادى أصلان

عن ماهية التنوير والذي حاضرت فيه كثيرا داخل وخارج مصر حتى من خلال دراسات هامة نشرت بأهم الدوريات المصرية والعربية، كيف ترى موقف المشروع الفكري المصري من قضايا التنوير حالياً؟

صورة للدكتور وليد الخشاب واقتباس التنوير

التنوير بحر لا قرار له. تدربت في قسم الأدب المقارن بجامعة مونتريال، في وسط ما بعد بنيوي ناقد لفكرة الحداثة والتنوير كما تبلورت في الغرب.ينطلق كلٌ منالنقد ما بعد البنيوي والنقد ما بعد الماركسي والنقد ما بعد الحداثي من نقاط مختلفة تجتمع على أن مشروع الحداثة الغربي، أو مشروع التنوير، قد خرج عن مساره في الغرب وأدى إلى دعم أنظمة شمولية دموية وباطشة، مثل الفاشية والنازية والبيروقراطية السوفييتية. 

كل هذه الشموليات كانت تمثل وقت ظهورها محاولات لتسريع التحديث وبسط أفكار التنوير بالقوة على مجتمعات أوروبية كانت تفتقر لمقومات الحداثة المتقدمة الموجودة في بلاد أوروبية أخرى مثل فرنسا وإنجلترا. 

وفي الغرب، يرى أنصار التنوير أن الفاشية كانت -بتعبير تودوروف- تحويرا للتنوير. بينما يرى نقاد التنوير في الغرب أن فكرة التنوير نفسها هي التي تمهد فكريا لطغيان الفرد ولعبادة الفرد والشمولية، باعتبار التنوير فكرة مرتبطة بدعم سلطة العقل، ومعادلها سلطة الدولة التي يمكن أن تتغول، وأنه معتمد على مركزية الفرد سواء الحاكم أو المثقف، مما يمهد لاستبداد الفرد أو الرأي الواحد. من المثير أن نرى تياراً فكرياً قوياً في الغرب يرى مثالب التنوير وارتباطه بزيادة سلطة الدولة، إلى درجة تؤدي إلى تحول الدولة إلى آلة للقمع. بينما في عالمنا العربي، نرى في التنوير أفقاً مثاليا نطمح إليه، لأنه يمثل نقيض الظلامية الفكرية والتعصب الديني والتسلط السياسي. الفارق بين صورة التنوير عند معتنقي ما يسمى بالنظرية النقدية في الغرب - أي النقد ما بعد البنيوي- وبين صورة التنوير في العالم العربي، عند معتنقي فكرة الدولة المدنية، هو الفارق بين الوقوع في معسكر الأغلبية أو معسكر الأقلية. في الغرب، عندما بلغ التنوير ذروته في جهاز الدولة وتمتع بتأييد غالبية الناس، تحول إلى آلة مدمرة. أما في العالم العربي، فبسبب انخفاض ضوء التنوير، ووقوعه في معسكر الأقلية، بينما غالبية الناس يجهلونه أو يرتابون فيه، يراه المثقفون الحداثيون أملاً في تبديد ظلامية الرجعية واليمين المتطرف.

صورة أو لقطة تجمع وليد الخشاب بزوجته الكاتبة/ الفنانة داليا السجيني

لا أظننا نستطيع التحدث عن مشروع فكريمصري ولا عن وجود موقف موحد من التنوير في مصر. لكن هناك تياران عاليا الصوت، أحدهما محافظ ينظر للتنوير بريبة ويراه نوعاً من الغزو الثقافي، وثانيهما تحديثي يرى في التنوير طوق النجاة من الفاشية التي تستخدم مفردات دينية. أنتمي إلى تيار أقلية بينهما يتمنى أن ينشر الاحتكام إلى العقل لا إلى النقل، دون أن يستخدم العقل كسلطة تبرر تسلطاً فردياً أو جماعياً أو حزبياً أو حكومياً. لكنه تيار يسمي نفسه نقدياً، لا تنويرياً.

 في ظل الحروب والاضطهادات العرقية وصراع الهويات كيف وما هي رؤيتك لمستقبل الحرية في الإعتقاد الدينى وكذلك رؤيتك لمستقبل الليبرالية في الفكر سواء في مناطق الحداثة أو ما بعدها؟

صورة للدكتور وليد الخشاب محاضرا بالجامعة الكندية كونكورديا بمونتريال

في منطقتنا العربية والشرق الأوسط عموما في العصر الحديث، للأسف لنا فضل الريادة في صعود اليمين المتطرف الديني، أي اليمين المتطرف الذي يستخدم مفردات دينية، والذي نطلق عليه عادة اسم التطرف الديني أو الإسلام السياسي. بدأ هذا الصعود المحزن منذ ظهور أيديولوجيات أصولية/إصلاحية شديدة التزمت في الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر، مروراً بإنشاء جماعة -أو على وجه الدقة- حزب الإخوان المسلمين في مصر، في مطلع القرن العشرين؛ ومنذ اندلاع المجازر التي ارتكبتها تركيا بحق الأقليات المسيحية الأرمنية بالأساس في مطلع القرن نفسه، ثم إنشاء الجمهورية الإسلامية في إيران في الربع الأخير من القرن العشرين. اليوم نرى حروباً أهلية ذات غطاء ديني في سوريا والعراق وليبيا، ونرى تربصاً بالحريات، بما فيها حرية الاعتقاد في كل مكان بالعالم العربي، سواء من بعض الحكومات أو من تيارات محافظة أو تيارات متطرفة في المجتمع.

لكن رأيي أن المشكلة الكبرى بالنسبة لعالمنا العربي هو أن التحديث قد تم بتسارع، أدى إلى إقلاق قطاعات كبيرة في المجتمع، ودفعها إلى الأصولية كوسيلة للتمسك بما يعرفه الناس ويطمئنون إلى قيمه وإلى حمايته الرمزية، في وجه الحداثة التي رابهم تحررها الزائد (من وجهة نظرهم) أو مساواتها بين فئات لم تكن متساوية في قيمهم التقليدية. فالحداثة ساوت بين المسلم والمسيحي، وبالتالي "انتقصت" من شعور المسلمين بالتميز، وساوت بين الرجل والمرأة (ولو نظرياً) مما أشعر الرجال بتهدد مكانتهم القيادية في المجتمع، وأدخلت التشريعات الحديثة "الوضعية"، فأقلقت رجال الدين والفقهاء الذين كانت لهم اليد العليا في سير الآلة القانونية والشرعية. كل هذه الاهتزازات في البنية التقليدية في المجتمع، دفعت بالملايين نحو الأصولية أو على الأقل إلىأحضان التيارات المحافظة. سخرية القدر هي أن الشكل الذي اتخذه تفاعل الجماهير مع الأصولية والتطرف كان شكلاً سياسياً مستورداً من الغرب، وهو قالب خطاب وممارسات وسياسات اليمين المتطرف. 

فحزب الإخوان المسلمين مثلاً نقل ممارسات اليمين المتطرف الأوروبي التي تجلت في فرق الشبيبة حاضنة الميليشيات، ومعادلها المصري كان فرق الجوالة الإخوانية، وفي الخطاب الأخلاقي المتزمت والعنف تجاه الأقليات الذي تبناه الإخوان المسلمون، وهو المعادل لخطاب الأحزاب الفاشية والنازية الأوروبية. لاحظ أن تلك الأحزاب قد وصلت إلى الحكم في أوروبا بالتزامن مع إنشاء حزب الإخوان في مصر.

لقطة / صورة تجمع وليد الخشاب بالروائي الراحل بهاء عبد المجيد

ماذا عن المستقبل؟ بالتأكيد لا يبدو مضيئاً فيما يتعلق بالحريات وبالذات حرية الاعتقاد. لن تنتعش حرية الاعتقاد إلا في ظل تحسن في مستوى المعيشة في الوطن العربي. في غياب مستوى معيشة معقول، لا "يسند" المرء المكافح المكدود إلا التمسك بأفكار وعقائد ملهمة تعزيه. وأقوى هذه العقائد -للأسف- هي عقائد اليمين المتطرف، لسهولة منطقها (بل وسذاجته) ولتمتعها بالاحترام الذي تستمده من استخدام مفردات الدين. في الغرب ينتعش مبدأ حرية الاعتقاد لأنه معادل لحرية السوق. فكما يخلق السوق في الغرب ظروفاً تجعل المواطن/ المستهلك يتصور أنه حر في شراء ما يرغب فيه لتنشيط الشراء والاستهلاك، يخلق المجتمع ظروفاً تجعل المواطن يتصور أنه حر في اعتناق المعتقدات التي يرغب، بحثاً عن المتعة الروحية أو السلام النفسي. ويضيف الدكتور والناقد التنويري والفني الجمالي وليد الخشاب.

لكن بعد زمن يطول أو يقصر، لا أشك أن التوترات بين أتباع الديانات الإبراهيمية الكبرى: اليهودية والمسيحية والإسلام في عالمنا العربي سوف تخفت. فالأديان ظواهر تاريخية، تبدأ في لحظات معينة وسياق محدد، وتنتهي أو تتحور في ظروف أخرى. اليوم مثلاً نقول "الديانة المصرية القديمة" بينما هي في الواقع مجموعة من الديانات المختلفة والمتصارعة أحيانا. لكننا بعد مرور قرون على نشأة عبادة رع وعبادة أوزير وعبادة ست وعبادة آمون، أصبحنا نركز على المشترك بين هذه الديانات وننسبها إلى جذر مصري واحد. لا شك عندي أنه سوف يأتي اليوم الذي يتحدث فيه الناس عن اليهودية/ المسيحية/ الإسلام بوصفها ديانة الكتاب أو الديانة الإبراهيمية، بدلا من "الديانات الكتابية" أو "الديانات الإبراهيمية"، لأن ما يجمع بين هذه الديانات أكبر مما يفرق بينها، ولأن أصولها واحدة ومروياتها واحدة في جوهرها.

ولماذا فشلنا نحن كعرب في استيلاد نظرية تجمع مابين المعاصرة وما بعد الحداثة للحفاظ على الهوية الحضارية للأمة المصرية؟

النظرية مهمة لكن ربما يسبقها في الأهمية "التطبيق" أو الممارسة. 
أنا مثلك أتحدث عن فشلنا كعرب في استيراد أو اقتباس الحداثة، ناهيك عن استيلادها، لكن ما حدث هو استيراد لخطابات ومنتجات وممارسات قادمة من سياقة معين في أوروبا تدعمه ثورة صناعية وتوسع استعماري وتسيد للأفكار الليبرالية من ناحية والاشتراكية من ناحية أخرى. هذا الاستيراد أوصل تلك المنتجات والمنجزات الثقافية في عالمنا العربي في سياق مختلف تماماً، يفتقر إلى جدل الليبرالية والاشتراكية، وإلى الوفرة الاقتصادية التي تتيح للناس أنيتطلعوا إلى ما هو أبعد من الحصول على لقمة العيش التي هي بيد الحاكم الأوحد. 

بالتالي كان الطبيعي أن التحديث في العالم العربي صار رهنا بإرادة الدولة وحدها وبمصادفات تكوين النخب الحاكمة، وليس لوجود قاعدة اجتماعية تجعل التحديث الثقافي أمراً مفروغاً منه، لتلازمه مع تحديث إداري واقتصادي وتكنولوجي. ومع ذلك، فللإنصاف لا أرى صواباً مطلقاً في الحكم بإخفاق مشروعات الجمع بين المعاصرة والتراث أو بين الحداثة والهوية التاريخية الحضارية في العالم العربي. 

هناك مشروعات نجحت لفترة ما ولم تستمر، لانتهاء الاستقرار الاقتصادي المصاحب للتحديث، مثل مشروع الزعيم جمال عبد الناصر الذي انتهى بالإخفاق، ليس بسبب هزيمة 1967 في رأيي، بل بسبب الإنهاك الاقتصادي الذي تسببت فيه الحروب المختلفة في الستينات وحتى انتصار 1973.

 لولا انهيار الدخول في مطلع السبعينات ما وجد اليمين المتطرف أرضا خصبة ينمو فيها في مصر، الذي وفر للناس تعزية سهلة وغير مكلفة مالياً عن انخفاض مستوى المعيشة.

وهناك مشروع -أتابع نجاحه باهتمام- يجمع بنجاح بين الأصالة والمعاصرة في الخليج، لا سيما في الإمارات وفي الكويت، وهو مشروع يعتمد في ثباته على عوائد النفط. وأتمنى له الاستمرارية، وإن كان الاقتصار على تمويل التحديث من النفط يهدد الاستمرارية، نظراً لأن النفط نفسه تاريخي، بدأ انتعاشه في لحظة معينة وسوف ينضب يوما ما في حياة أولادنا. لذلك فمحاولات الخليج الاعتماد على السياحة وعلى الاستثمار المالي خطوة في اتجاه إيجاد مصادر أخرى لتمويل الحداثة. في الخليج نشاط ثقافي قوي، ربما لم يتجذر بعد وما زال يعتمد على عقول من خارج الخليج، لكن هذا لا يعيب المشروع، لأنه في اضطراد. لكنه يلفت النظر لنجاحه في وضع الخليج على خارطة العالم. اليوم العالم كله يضرب بدبي المثل في الرفاهية، وفي الوفرة المالية، مثلما كان يضرب المثل بسويسرا أو بمونت كارلو بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك ترى أهل البلاد يجمعون بين ممارسات تكنولوجية واستهلاكية قريبة من نظائرها في الغرب، بل وتتجاوزها، مع تمسكهم بعادات وخطابات تقليدية شديدة القدم، سواء في الملبس أو المأكل أو التعاملات الاجتماعية. بهذه المقاييس، هذا مشروع ناجح في الجمع بين التحديث والهوية السابقة على التحديث، حتى لو كان يتوسل بنمط استهلاكي أنقده في الغرب كما أنقده في بلادنا.

حدثنا عن ماهية الشكل والمضمون فيما يخص سينما اليوم وفي مصر بالتحديد.. ولماذا  كان الاختيار لكيان وكاراكتر فؤاد المهندس تحديداً فيما قدمت من طروحات نقدية وبحثية؟

فؤاد المهندس واحد من أهم صناع الإنتاج الثقافي في تاريخ العالم العربي الثقافي. منذ طفولتي وأنا أعشق أفلامه، وسرعان ما وضح لي أني أفضل فؤاد المهندس على إسماعيل ياسين، ربما لأنني كنت أحضر العروض الأولى لأفلام فؤاد المهندس في السينما وأنا طفل في السبعينات. لكن مع نضجي العمري والفكري، صرت أفهم تعقيد عمل فؤاد المهندس كفنان ورهافة صنعته. فهو ليس مجرد مهرج بالمعنى السلبي للكلمة، لكنه "بهلوان" بالمعنى الاحترافي المبهر: راقص بمعمى ما، مغني أداؤه سليم، ورياضي في لياقته، وشيك في تمثيله. اخترت أن أبحث في أفلام المهندس منذ عشر سنين، وأتوج بحثي بعمل كتاب عن فنه يصدر قريباً إن شاء الله، لأنني أرى في أعماله في الستينات تجلياً لأفكار كانت مكبوتة ومبعدة من التفصل في الفضاء العام في الفترة الناصرية، بينما تبوح أفلام فؤاد المهندس في بهذا اللاوعي الناصري المكبوت، وتعترف بتغول الدولة في عهده، وبوجود ما يشبه الجريمة في حق المجتمع بسبب العنف الرمزي الذي مارسته بعض أجنحة النظام آنذاك. كل هذا يبدو مثيراً، لأننا عادة لا نأخذ الكوميديا مأخذ الجد، بينما تؤكد أفلام المهندس أن الكوميديا -بفضل الاستخفاف بها- كثيراً ما تحمل خطابات طليعية، وناقدة، وجريئة ثقافياً ومجتمعياً.

هل يمكننا أن نعثر اليوم على أعمال كوميدية بنفس مستوى الصنعة العالي في أفلام المهندس؟ نعم بكل تأكيد، وأفلام أحمد حلمي دليل على ذلك. لكن هل تتفاعل تلك الأفلام مع الواقع اليومي للمصريين مثلما كانت تفعل أفلام فؤاد المهندس، ولو على طريقتها الخاصة؟ الإجابة: لا. القيمة الثقافية والاجتماعية والسياسية لأفلام فؤاد المهندس -رغم ما يبدو على سطحها من تهريج- هي في الواقع ما يضع هذه الأعمال في مصاف كلاسيكيات الكوميديا العربية. يندر أن نجد مثيلاً لهذا التفاعل الثقافي مع المجتمع -بمعنى مناقشة تغيرات المجتمع وهمومه، دون خطابة مباشرة- في كوميديات القرن الحادي والعشرين.

غلاف الكتاب الأيقوني الاقتباس من الأدب إلي السينما للخشاب وسلمى مبارك

بعد أكثر من 3 عقود كنت فيهم محاضرا ومدافعاً عن التنوير في الشرق قبل الغرب، ما هي رؤيتك عن موقف أو وضعية وقوام أو صورة المثقف العربي في مرايا الآخر الغربي؟

في الخمسينات والستينات من القرن العشرين كانت هناك صورة للمثقف العربي مرتبطة بتصورات الغرب -والتي استوردناها- عن دور المثقف السياسي والثقافي في مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية وما بعد الاستقلال. فالمثقف مهموم بقضايا الوطن ومعبر عنها وشارح لها حين يخاطب الجماهير "العادية" أو حين يتوجه إلى الغرب. وما زال الغرب أحيانا أسيراً لتلك النظرة، فيصطفي بعض المثقفين والكتاب العرب ليؤكدوا المواضعات الغربية عن المجتمعات العربية. فهناك -على سبيل المثال- المثقفة النسوية التي تُستَدعَى للحديث عن مشاكل المرأة في العالم العربي -وهي مشاكل حقيقية- لكن توظف في الإعلام الغربي للتأكيد بشكل غير مباشر على مشروعية سياسات التدخل الأمريكي في المنطقة بدعوى حماية حقوق المرأة. 

وهناك المثقف الذي يُستَدعَى لانتقاد التطرف الديني في المنطقة العربية -وهذه مشكلة حياة أو موت بالنسبة لنا- لكن يوظفها الإعلام الغربي للتأكيد على تخلف المجتمعات العربية. للأسف، لم يعد هناك في الغرب تصور واضح للمثقف العربي الناقد للغرب وللعرب على السواء، ولم يعد هناك تصور عن مثقف عربي "يحمل هموما" شاملة تخص الأمة جمعاء. بل هناك في الغربتصورات تفتيتية عن المثقف العربي الذي يناضل من أجل قضية ما باستخدام مفردات يفهمها الغرب جيدا، وينحصر هذا النضال في جزئية فئوية، مثلما في حالة المثقف الذي ينتقد تغول الخطاب المتطرف، أو في حالة المناضلة النسوية التي تنشغل بقضايا تفاصيلية مرتبطة بالهوية الجندرية، وهما نموذجان يدعمهما الغرب في تصوراته عن المثقفين العرب. 

لكن يغيب عن الغرب اليوم الالتفات لشخصيات تحاكي نموذج إدوار سعيد مثلا، أي المثقف الراسخ واسع الثقافة، الذي ينطلق في خطابه من موقف جماعيلا فئوي، ليس فقط لأن زمن هذا النوع من المثقفين يتوارى، لكن لأن هذا التصور للمثقف العربي ينذر بكشف تناقضات الخطابات الغربية عن المجتمعات العربية. 

فهي تتعامل مع العالم العربي كوحدة متماسكة، ثم تفتت هذه الوحدة بخطابها عن اضطهاد الأقليات الجنسية والجندرية والعرقية، وهو اضطهاد موجود بالفعل، للأسف، لكن التركيز عليه يشي بمنطق الحق الذي يراد به باطل. فهو تركيز يوحي بأن مشاكل العالم العربي في التفاصيل، تفاصيل مشاكل المرأة، تفاصيل مشاكل المثليين، تفاصيل مشاكل ذوي البشرة السمراء، إلخ. لكن لا إتاحة لتصورات أخرى عن مشاكل تعصف بجميع الفئات، مثل المشاكل الاقتصادية أو المشاكل الناجمة عن الهيمنة الغربية والتدخل الاستعماريوشبه الاستعماري في شئون المنطقة.

صورة / لقطة ل وليد الخشاب المسافر مع غرابة الأفكار التنويرية

حدثنا عن مفاهيم الخلاص ونشوة التجلي لوحدة الفنون والآداب إنطلاقا من مشوارك المعرفي الخصيب.. وهل ينتهى طموح المثقف/ الكاتب مع الانتهاء من كتابة نصه؟

رحلتي مع الغربة قدرٌ يومي، نظريات الحداثة المادية تستخدم تعبير "الاغتراب" لتعبر عن إحساس العامل في آلة الرأسمالية الحديثة، والتي تجعل العامل يشارك بجزء بسيط في منتج يتدخل في صناعته أطراف متعددة، بعد أن كان العامل في العصور الوسطى يتولى صنع المنتج الكامل المتكامل بنفسه. ربما يشعر المعلم -وهي مهنتي- بقدر قليل من الاغتراب، مقارنة بغيره من عمال الفكر والثقافة، لأنه يصنع "منتجه" بنفسه بقدر كبير. فهو الذي يخطط للدرس ويجمع مراجعه ويتولى التدريس والتصحيح بنفسه. لكن أعيش غربة من نوع آخر في كندا، حيث إني أدرس ثقافة العالم العربي في عالم غير عربي. ومع ذلك هي غربة منتجة، تسمح لي بإلقاء نظرة ناقدة على ثقافتي العربية، لأنني لا أعيش منغمساً في أرضها طوال العام، مما يتيح لي مسافة يشغلها النظر والنقد. ثم إنها غربة تحثني دائما على بناء الجسور الناقدة -لكن المُحِبة- بين العالم الغربي والعالم العربي.

الاغتراب بهذا المعنى هو وعي بهوة بين الإنسان وما تصنعه يداه، والغربة وقوف على الهوة الفاصلة بين أرض العرب وأرض الغرب جغرافياً وفكرياً، لكن البحث العلمي من ناحية، والفنون والآداب من ناحية أخرى، تملأ مثل هذه الفجوات والهوات، الشعر مثلاً يتجاوز الحدود السياسية والثقافية، وخاصة -في حالة ما أكتبه- إن كان مكتوباً في البرزخ بين بحرين ثقافيين، بين الغرب والشرق مثلاً.

تاريخ الخبر: 2022-10-25 12:21:23
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 50%
الأهمية: 67%

آخر الأخبار حول العالم

هل يمتلك الكابرانات شجاعة مقاطعة كأس إفريقيا 2025؟

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-29 00:25:42
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 69%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية