تأثير الحرب الروسية في أوكرانيا على مستقبل الطاقة النووية وقمة المناخ


جادل مقال، كتبته بالاشتراك مع د. نورا يوسف منصوري، الزميلة الباحثة بمركز الملك عبد الله لدراسات وبحوث البترول، نُشر قبل مؤتمر الأطراف الأممي للمناخ «كوب 26» بأن الطاقة النووية تقنية ناضجة وآمنة وموثوقة جداً، مع انبعاثات ضئيلة من غازات الدفيئة، وتقارَن بشكل جيد بجميع التقنيات البديلة المنخفضة الانبعاثات المنتجة للكهرباء. ونظراً لضرورة خفض انبعاثات غازات الدفيئة لتجنب التغيرات المناخية الكارثية، ينبغي إبقاء خيار الطاقة النووية مفتوحاً؛ إذ يمكن الحصول على الفوائد المناخية لزيادة الطاقة النووية العالمية من دون تأثيرات ملموسة على السلامة أو الأمن أو تكاليف الطاقة. لكن التوسع في الطاقة النووية يتطلب القبول السياسي ومن الرأي العام كذلك، خاصة في الدول الصناعية، وهو ما لم يكن متوفراً في العديد منها، حيث ما زالت قطاعات مؤثرة من المجتمع المدني فيها ترى -بصورة مغايرة للحقائق- أن محطات الطاقة النووية تشكل مخاطر عالية. وسيتطلب التوسع أيضا أداء اقتصادياً أكثر اتساقاً، والحفاظ على سجل عمليات مأمون وتحسينه باستمرار، بما في ذلك من خلال تعزيز نظام الأمان النووي الدولي.

وقبيل عقد مؤتمر «الأطراف 26»، كانت دول عديدة تناقش خيار زيادة استخدام الطاقة النووية لأسباب مناخية، وبدأت بلدان -كانت مترددة سابقاً- بقبول فكرة مفادها أن إدخال الطاقة النووية سيساعدها على تحقيق أهدافها المناخية. وكانت الصين وروسيا تتابعان بشدة برنامج بناء جديد وتسعيان لتوسيع صادراتهما من محطات الطاقة النووية، في حين أن التخلص التدريجي من الطاقة النووية كان ما زال يشكل الاستراتيجية الوطنية في دول مثل ألمانيا وسويسرا. وفي البلدان الرئيسية الأخرى التي تستخدم الطاقة النووية بتوسع، مثل فرنسا، كان هناك نقاش بشأن الحد من الاعتماد على الطاقة النووية، لتنويع إمدادات الطاقة، بيد أن البيان الختامي للمؤتمر لم يشر إطلاقاً إلى الطاقة النووية.

وعقب اندلاع الحرب في أوكرانيا أصبح الاعتماد الشديد لبلدان أوروبية عديدة على النفط والغاز الروسيين قضية رئيسية. ولمواجهة ذلك أقر الاتحاد الأوروبي تدابير تحد من واردات الغاز الروسي وإيقاف واردات النفط منها... على أن روسيا مزود عالمي رئيسي لمحطات الطاقة النووية ومعدات وخدمات الوقود في العالم. وهي تنتج نحو ثلث إمدادات العالم من غاز اليورانيوم اللازم لعمليات التخصيب ولديها نحو 43 في المائة من القدرة العالمية على التخصيب، وغالباً ما توفر التمويل المطلوب.

ولا شك أن الآثار العالمية للحرب على برامج الطاقة النووية وخططها الحالية والمستقبلية المحتملة ستكون سياسية وتقنية، بعضها قصير الأجل، لكن بعضها الآخر قد يؤثر على انتشار أوسع للطاقة النووية مستقبلاً، ومن ثم تحقيق هدف خفض انبعاثات غازات الدفيئة.

وقد أدى اندلاع الحرب إلى تغيير سريع في السياسات النووية لبلدان عديدة، مع تزايد الإدراك بأهمية أمن الطاقة. وتجسد ذلك خاصة في التطورات داخل أوروبا، إذ وافق البرلمان الأوروبي على تشريع يتضمن تصنيف الطاقة النووية ضمن التقنيات المستدامة. وقُدمت الحجج المؤيدة في رسالة وقعها وزراء الطاقة من 10 دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي للإبقاء على الخيار النووي. وفي بلجيكا، نُقض قرار التخلص التدريجي من الطاقة النووية من خلال تمديد عمل محطات الطاقة النووية عشر سنوات. كما عكست كوريا الجنوبية سياسة التخلص التدريجي منها. وأعلنت المملكة المتحدة خططاً لبناء ثماني محطات نووية بحلول 2030. ودعا الرئيس الفرنسي إلى إنشاء 6 - 8 محطات جديدة للطاقة النووية، في انعكاس واضح لاقتراحه عام 2017 بإغلاق 14 مفاعلاً لتقليل اعتماد البلاد على الكهرباء النووية. وفي اليابان، يدعم رئيس الوزراء إعادة تشغيل محطات الطاقة النووية المتوقفة عن العمل لتحقيق الاستقرار في أسعار الطاقة وإمداداتها. والواقع أن قانون خفض التضخم في الولايات المتحدة مؤخراً، الذي يوفر دعماً مهماً للطاقة النووية، مُرِّر بسهولة أكبر؛ بسبب زيادة الوعي بتحديات أمن الطاقة. كما طرحت دول مثل بولندا ولاتفيا خططاً طموحة لإنشاء محطات نووية لأول مرة.

ومع ذلك، لا تزال المعارضة للطاقة النووية راسخة في بعض البلدان، مثل ألمانيا وسويسرا. وبينما أعلنت ألمانيا تمديد ترخيص عمل اثنتين من المحطات النووية الثلاث المتبقية، لا يزال موقفها المناهض للطاقة النووية قائماً.

وكما يتضح من الأمثلة أعلاه، فإن لأمن الطاقة أولوية الآن في جدول الأعمال السياسي في العالم، وعززت حجته، مقترنة بالحجج المناخية القائمة، الدوافع السياسية والتقنية لتوسيع نطاق الطاقة النووية.

بيد أن إحدى القضايا الحاسمة المفتوحة هي مدى استعداد المؤسسات المالية لتمويل بناء محطات الطاقة النووية الجديدة. فمنذ منتصف الثمانينات، ولا سيما منذ مطلع الألفية، تجنبت تلك المؤسسات تمويل مشاريع الطاقة النووية. وكانت الأسباب الرئيسية هي المعارضة الاجتماعية والسياسية لتلك الطاقة والقلق إزاء العوامل البيئية وعوامل الحوكمة التي تحدد استدامة استثماراتها، والافتقار كذلك إلى المعرفة الصائبة بفوائد المشاريع النووية نسبة لمخاطرها. وقد يؤدي إدراج الطاقة النووية في تصنيف التكنولوجيا المستدامة في أوروبا إلى خفض ملحوظ لتحفظات الرعاة الماليين للمشاريع النووية.

وقبيل مؤتمر «الأطراف 26»، كانت المساهمة في التخفيف من حدة التغير المناخي التي ستنتج عن زيادة استخدام الطاقة النووية عالمياً جلية، لكن غير كافية. غير أن عودة ظهور أمن الطاقة في سياسات الطاقة الوطنية والتغيرات في السياسات النووية الموصوفة أعلاه، والتي نجمت عن الحرب الروسية في أوكرانيا، أسهمت في تسريع وتيرة التقدم التقني في تصاميم المفاعلات الجديدة، والبدء في نشر المفاعلات النمطية الصغيرة (SMRs)، وفي توحيد وتنسيق النظم التنظيمية للسلامة النووية. كما ساهمت الحرب في تخفيف حدة المعارضة للطاقة النووية، والاعتراف عموماً بأن جميع التقنيات القادرة على توفير الطاقة النظيفة، بشكل مستدام وواسع، يجب النظر إليها على قدم المساواة إذا كان على العالم أن يفي بأهداف المناخ لاتفاقية باريس ومؤتمر «الأطراف 26».

ورغم القلق من أن دولاً أوروبية تخرج هدف «كوب 26» عن مساره من خلال العودة إلى الفحم ليحل محل الغاز الروسي، فإن الزخم يتزايد نحو تعزيز القدرة العالمية للطاقة النووية، وإدراك أهميتها في مسار انتقال الطاقة. لكن لكي يتحقق الوعد بـ«نهضة» نووية، هناك حاجة للواقعية وتجنب الإفراط في الوعود بين صانعي السياسات وممثلي الصناعة، وضرورة مواصلة العمل لمواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية والفنية، والتحكم في تكاليف المنشآت النووية الجديدة، والحفاظ على الأداء الاقتصادي المتسق، وتسريع تعزيز أنظمة السلامة عالمياً.

من السابق لأوانه أن نستنتج أن نهضة نووية أخرى قد بدأت، لكن يجب متابعة ما إذا كانت هذه التحولات ستؤدي إلى تغيير دائم وبمستوى كاف للإسهام في تحسين أمن الطاقة العالمي والتعجيل بالانتقال إلى صافي الانبعاثات الصفرية. وبدلاً من ذلك، وكما حصل عقب حادث فوكوشيما، فقد تواجه الطاقةَ النووية أحداثٌ غير متوقعة ربما تخرجها عن مسارها. ومن أمثلة ذلك إطلاق كمية ملموسة من النشاط الإشعاعي نتيجة للأنشطة العسكرية في منشأة نووية، وهو ما يشكل مصدر قلق حالياً في محطة زابوريجيا الأوكرانية.

وعموماً سيمثل الأمر إغفالاً جدياً إذا لم تؤخذ هذه التحولات الرئيسية في وجهات النظر والتغييرات في السياسات المتعلقة بخيار الطاقة النووية في الاعتبار في مناقشات مؤتمر «الأطراف 27». وتستحق الطاقة النووية الاعتراف بها صراحة في البيان الختامي للمؤتمر بوصفها تكنولوجيا إمداد نظيفة مهمة في إطار انتقال الطاقة نحو الاستدامة وتصفير الانبعاثات وتشجيع البلدان على النظر في اعتماد سياسات واستراتيجيات تمكن الطاقة النووية من المساهمة كمكون مهم من أي مزيج عالمي مستقبلي لموارد الطاقة، جنباً إلى جنب مع مصادر الطاقة المتجددة والوقود الهيدروكربوني الخالي من الكربون.

*نقلاً عن صحيفة "الشرق الأوسط"

تاريخ الخبر: 2022-11-04 12:18:34
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 80%
الأهمية: 87%

آخر الأخبار حول العالم

بانجول.. المغرب والـ “إيسيسكو” يوقعان على ملحق تعديل اتفاق المقر

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-05 18:25:06
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 62%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية