حدثان استأثرا بالاهتمام في أوروبا في غضون الأسبوع المنصرم سيكون لهما ما بعدهما، زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز للصين، والتغيير الذي عرفته قيادة حزب التجمع الوطني، بتخلي مارلين لوبين عن قيادة الحزب، وتولي الفتى جورادن بارديلا شؤون التنظيم اليميني المتطرف.

لنترك الحدث الأول الذي سوف تكون له انعكاسات على بناء الاتحاد الأوروبي الذي تزداد شقوقه تصدعاً، ولَنبقَ في تولي الشاب جورادن بارديلا قيادة حزب "التجمع الوطني" الفرنسي ذي التوجه اليميني المتطرف.

ليس الحدث عادياً، ولا يدخل في الترتيبات المعهودة للأحزاب، من تغيير القيادات والهيئات المقررة وتجديد النخب، بل التأهب لمعارك قادمة، بجيوش محاربة، في سياق ملائم، هو زحف اليمين المتطرف في أوروبا كافة، شمالها وغربها ووسطها وجنوبها.

الرياح مواتية لليمين المتطرف في أوروبا، مثلما برز جلياً في الانتخابات التشريعية السويدية و الإيطالية، أو حزب فوكس الاسباني.

والتجمع الوطني الذي حصل على نتائج معتبرة في الرئاسيات الفرنسية الأخيرة، مارس/آذار المنصرم، حين نازعت مارلين لوبين الرئيس الحالي ماكرون النهائيات، وكان يمكن لنتائجها أن تكون أحسن، بل أن تتولى شؤون فرنسا لولا علاقتها السابقة ببوتين وحصول حزبها على قرض من بنك تابع للدولة الروسية مما أساء إلى صورتها في سياق الحرب الدائرة رحاها، إذ وظفه ماكرون ضدها في النقاش الذي جرى بينهما .

وظهر اختراق الحزب أيضاً في الانتخابات التشريعية التي جرت في يونيو/حزيران، وبدا القوة الأولى، لأن قوة الرئيس هي ائتلاف لأحزاب، كما المجموعة اليسارية المنضوية تحت لواء الوحدة الشعبية الجديدة البيئية والاجتماعية المعروفة بحروفها اللاتينية الأولي NUPES هي ائتلاف أحزاب.

ينبغي الأخذ بالحسبان أن التجمع الوطني في مد تصاعدي، وهو لذلك يحتاج إلى وجه جديد، ودفق جديد من دماء شابة، يمكنه أن يبني على رصيد متراكم.

وطبعاً لا يمكن الاستهانة بالسياق الجديد في إيطاليا، مختبر أوروبا، وفوز إخوة إيطاليا التي تشارك التجمع الوطني مرجعياته وأدبياته وهو ما يمكن أن يعطي الاتجاه اليميني المتطرف في فرنسا قوة دفع مع التجمع الوطني.

بيد أن هذا السياق الملائم، كان يشكو من معوقات أضحت عراقيل، وهي أن الحزب الفرنسي اليميني كان يظهر كأنه شأن عائلي، انتقل أو انتُزع على الأصح من الأب جون ماري، منشيء الجبهة الشعبية.

ورغم أن مارين، ابنة جان ماري، غيّرت اسم الحزب إلى "التجمع الوطني" حتى تقطع مع التنظيم الذي أنشأه والدها، ونأت عن الخطاب الحاد لأبيها، كان يُنظر إلى الحزب بصفته شأناً عائلياً، مع ما ترتب عن نزاع ما بين الأب وابنته من تداعيات على الحزب.

استطاعت مارين أن تنأى عن ظل أبيها، وتبلغ ما لم يبلغه والدها، من التنافس في رئاسيتَيْن، وتعطي للحزب نوعاً من القبول لدى الطبقة السياسية، وتنقله من اتجاه هامشي، إلى اتجاه ينسكب في الاتجاه العام.

بيد أنها تدرك أنها بلغت أقصي ما يمكن أن تعطيه، ولذلك رأت أن تسلم المشعل إلى جوردان بارديلا، من صنعته على يديها. فهل يتغير الحزب أو توجهاته؟

ينبغي أن نُذكّر أن حزب الجبهة الشعبية، الأصل للتجمع الوطني نشأ بالأساس محاولة للثأر من ضياع "الجزائر الفرنسية"، ومؤاخذة الطبقة السياسية على التفريط فيها، كان ذلك هو الهاجس الأول قبل أن يتحول إلى استعداء للمهاجرين، وبقي هذا العنصر قائماً مع مارين في نزوع الحزب الكسنوفوبي (العداء للغير)، وتوجهه الإسلاموفوبي ومرجعيته الهوياتية.

خليفة مارلين، جوردان، يتميز بأصول (بالمعنى المُحاسبي) منها أنه ليس من عائلة لوبين، ولو أنه قريب من مارين، وثانياً أنه لا يحمل دماء فرنسية نقية، أو ما يسميه الفرنسيون بفرنسيّي الأرومة de souche، فهو ينحدر من أصول إيطالية وجذور أمازيغية من الجزائر. وبهذا يمحو الانتقاد الذي يؤاخذه خصوم الحزب عليه ، بأن يظهر أنه منفتح، مع زعيم من غير فرنسيّي الأرومة، وأن الحزب ينفتح للمهاجرين، الذين اندمجوا أو من يقبل للاندماج.

ولكن هذه الحجة واهية، لأن ما يحدد توجهات الأشخاص ليس جذورهم ولكن الأفكار التي يؤمنون بها، فجوردان بارديلا نتاج قح، أو عصير صاف، حسب التعبير الفرنسي لليمين المتطرف، في توجهاته ضد المهاجرين، ومن دعاة الإسلاموفوبيا، والآخذين بنظرية الاستبدال الكبير، وينقم على المسلمين (الفرنسيين) أنهم أنشؤوا "جمهورية إسلامية" في ضواحي باريس. واللافت أن الذين يكونون أشد وطأة في توجهاتهم المتطرفة هم غير الأصلاء.

ومن العناصر الإيجابية في اختيار بارديلا بالنسبة للحزب أنه شاب لم يبلغ الثلاثين من عمره، مما يجعله أكثر جاذبية لشرائح واسعة، ويمثل قصة نجاح، وهو الأمر الذي انعكس في نسبة التصويت المرتفعة ضد منافسة على رئاسة الحزب، مما يمنحه شرعية، وهامشاً كبيراً للعمل.

طبعاً لن تتغير أدبيات الحزب، أو القواعد الناظمة له، من نزوع هوياتي وتوجه كسنفوبي ينطبع بالإسلاموفوبيا. إلى ذلك يؤمن بارديلا بنظرية الاستبدال الكبير، والخطورة التي تمثلها، ويحذر من زحف الأسلمة، وينادي بالحزم في مواجهة الهجرة.

ما ينبغي الإشارة إليه، هو أن أفكار اليمين المتطرف ليست حكراً على حزب التجمع الوطني، فهي توجد في شكل هلامي سعى "إيريك زمور" أن يستقطب جزءاً منها وأخفق، وتوجد في اليمين التقليدي، وتوجد حتى في الوسط، الذي يدفع بـ"الانفصالية الإسلامية"، وتوجد في البنية الأمنية للدولة، في الجيش والدرك والأمن، ولذلك من شأن الوافد الجديد أن يستقطب التوجهات الهلامية أو المشتتة، وعليه فإن المتضرر الأكبر من زلزلة جورد بارديلا هو إيريك زمور، الذي لا يُتوقع أن ينهض من كبوته، والرئيس ماكرون الذي يجتاز ظروفاً صعبة جراء الوضع الاقتصادي الهش.

ولن يسَعَ الرئيس الحالي، إلا أن يزايد على زعيم اليمين المتطرف في الجانب الهوياتي والأمني والاجتماعي.

وفي جميع الحالات فالسياق الجديد في فرنسا ليس جيداً بالنسبة إلى المسلمين الفرنسيين، ولا إلى المهاجرين عموماً. يعرف خطاب الإسلاموفوبيا مع بارديلا قفزة نوعية أقل فجاجة من خطاب زمور، ولكنها أشد نفاذاً.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي