في معنى السعادة (٢)


أشرنا في المقال السابق إلى مشكلة تعريف معنى السعادة، وفي هذا المقال نستعرض بايجاز لبعض أوجه تناول مفهوم السعادة فى الفلسفة وعلم النفس. ولنبدأ بالمجال الفلسفى والأخلاقى لأنه تاريخيا يعد بمثابة المجال الحيوى للجدل حول السعادة، حيث دأبت فلسفة الأخلاق على السمو بالسعادة ووضعها فى مرتبة عليا وربطها بأهداف سامية، وتحديدا الخير والفضيلة بالمعنى الفردى والمنفعة العامة بالمعنى الجماعي. فالسعادة ينالها أولئك الذين لديهم رؤية وقدرة على تحديد أهداف سامية فى الحياة. ومع ذلك تظل طرق السعادة متفرقة بين الذاتى والعام، فكما يعرفها المعجم الفلسفي [مجمع اللغة العربية] فإنها مذهب أخلاقى أساسه أن السعادة غاية النشاط الإنساني، وبوصفها مطلبا أقصى للإنسان فإنها تبدو فى صور شتى وهى مذهب اللذة الفردية ومذهب المنفعة العامة، كما أن السعادة ذات طبيعة عقلية كما يصورها أفلاطون، وهي أيضا طمأنينة النفس والابتعاد عن كل ما يسبب الما أو قلقل أو خوفا.

ولأن تحقيق السعادة، من المنظور الأخلاقى، يتطلب اتباع مسارات الخير والفضيلة، فإن من يطلبها عليه أن يضع الأهداف المناسبة لحياته بحيث تتوافق مع هذه المعايير، وعلى هذه الأهداف أن تكون متناغمة بقدر الإمكان، وربما يتطلب الأمر، تجنبا لعدم الاتساق، وضع هدف أسمى من كل الأهداف واتباعه كمرشد فى طريق الوصول إلى السعادة، وهو المقصود بالخير والفضيلة. وهذا المنظور للسعادة، يتأسس على الفصل بين ما هو حسى دنيوى حيث تكون المتع والشهوات العابرة، وما هو روحى وعقلى حيث يكون الخير وتكون الفضيلة سبيل قاصدى اكتمال السعادة وديمومتها. وفى هذا السياق نقتبس من موسوعة الفلسفة الإسلامية “أن السعادة عند فلاسفة الإسلام تعني: “الخير الحقيقى للإنسان، وهى الغاية الحقيقية التى يسعى إليها كل إنسان من وراء علمه وعمله، فهى الغاية المطلقة، وليست وسيلة لتحقيق غاية أخرى”.

وهذا التمييز بين الجسدي الدنيوى، والروحى العقلي، يرتبط برسم حدود بين الذاتى الجزئي (أي ما يخص آحاد الناس)، والعام المجرد (أى ما يتسامى على الرغبات الذاتية للأفراد ويمثل المنفعة العامة أو التسامى الروحى). ويحتل مفهوم المنفعة العامة موقعا مركزيا في الكثير من الآراء المرتبطة بالعدالة والسعادة. والنظر إلى السعادة من منظور الذات الفردية يعنى أن كل فرد له خيره وسعادته الخاصة، التي قد تتعارض مع المنفعة العامة. ومن ناحية أخرى، فإن السعادة الذاتية تتحقق باستكمال نقصان ما لدى الفرد مثل تمنى اكتمال الصحة للمريض، أو رغد العيش للفقير، أو الوصل بين المحبين والعاشقين، كما يتضمن ضمان النجاح أو حتى الانتصار على الخصوم. أما السعادة السامية فهى تلك التى تترفع على الجزئى وتكتمل بالخير والفضيلة كعموميات وفق تصورات الجماعية الأخلاقية.

كما أن المنظور الأخلاقي بربطه بين السعادة والخير والفضيلة، يجعل منها حالة مثالية وفى تناقض مع جوانب أخرى من المفترض أن تحقق السعادات الفردية وتتمثل فى الرغبات والمتع والملذات، وهذه مسألة يمكن قبولها أخلاقيا، لكن يصعب تحقيقها نفسيا واجتماعيا، ولذلك يتطلب الأمر دعم مفهوم السعادة بمفاهيم أخرى مثل القناعة والرضا والزهد وحتى جهاد النفس. وهذا التوجه إذا كان مبررا فى الفلسفة الأخلاقية، إلا أنه قد لا يكون مبررا فىمجالات أخرى معنية بالسعادة وخاصة علم النفس، والذى ينطلق مما هو ذاتي ويبتعد من التجرد والمثالية.

فالبنسبة لعلم النفس، ثمة محددات للسعادة ولكن بدون افتراض مفهوم مسبق أو مجرد، والاستعاضة عن ذلك باستشكافه من خلال ما يراه الأفراد معبرا عن سعادتهم، بغض النظر عن مدى توافقه مع معايير الخير والفضيلة التى تحكم المنظور الأخلاقي. ومن تعريفات السعادة، كما وردت فى موسوعة علم النفس والتحليل النفسى أنها “شعور بالعافية والهناء والسرور، وكان فرويد يرى أن الناس تحاول الحد من الحزن وزيادة فرص السعادة، ومن ثم فإن الناس يحكمهم مبدأ اللذة، ولو أن السعادة شئ صعب التحقيق، لأن ظروف الناس الخارجية والداخلية غالبا ما تفرض نفسها عليهم، وحتى لو استطاع الناس السيطرة على ظروفهم والحصول على اللذة لمدة طويلة، فإن اللذة تحقق لهم الرضا والإشباع وليس السعادة، ويرى فرويد أن الإنسان مهدد من قبل جسمه هو نفسه الذى يهرم ويشيخ، وكثيرا ما يكون مصدرا من مصادر الحزن..”.

وعلى ما يبدو أن ما يشغل علماء النفس ليس صياغة تعريف شامل جامع للسعادة، فالتعريفات والمقاييس متعددة لدرجة أنها تشمل كل شئ يُنظر إليه على أنه إيجابى وممتع وصحى، بل إن ما يشغلهم هو إيجاد طريقة منهجية وموضوعية لقياس هذا الكل الإيجابي الذى يمكن أن يشكل فى مجموعه تلك الحالة التى يسميها الأفراد “سعادة” أو “طيب الحال”. وهو الأمر الذي يشوبه صعوبات بسبب الخلط بين هذه الحالة المسماة “سعادة” وعدد كبير من الانفعالات أو الأحاسيس مثل الفرح، اللذة، المتعة، النشوة، الهناء، الغبطة، وما نسميه اعتدال المزاج والصحة الجسدية والحياة الهانئة والهادفة. وإلى جانب كونها فى الغالب أحاسيس ذاتية فردية، فهى أيضا وقتية. هذا بالإضافة إلى عدم وضوح الحد الفاصل بين السعادة من ناحية والرضا والإشباع من ناحية أخرى. وهذا الأمر له أهميته لأن الرضا والإشباع كثيرا ما يتم اللجوء اليهما بوصفها محددين أساسيين لقياس السعادة.

.

وهذا يأخذنا إلى قضية أخرى وهى قياس السعادة، والتى هي موضوع علم النفس بالأساس، ومؤخرا باتت مسالة اجتماعية وتنموية وسياسية، حيث يتم تصنيف المجتمعات على مقياس مفترض للسعادة. فهل يمكن بالفعل قياس السعادة كميا وكيفيا كما توحى بذلك تقارير السعادة التى ظهرت على الساحة العالمية مؤخرا؟ هذا ما سيتم تناوله في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال.

تاريخ الخبر: 2022-11-14 09:21:44
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 47%
الأهمية: 55%

آخر الأخبار حول العالم

مهمة غير مسبوقة.. الصين تغزو الجانب البعيد من القمر

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-04 09:21:54
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 53%

سعر صرف الدولار مقابل الجنيه اليوم

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-04 09:21:52
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 52%

غادة عبد الرازق: ندمانة ولو رجع بيا الزمن مكنتش هخش التمثيل

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-04 09:21:59
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 67%

أول تعليق من نيشان بعد إعلان ياسمين عز حصولها على حكم ضده

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-04 09:21:57
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية