ومن يحرس الحرس؟... «1»


ومن يحرس الحرس؟… «1»

مهدي رابح

العنوان أعلاه واصله باللاتينية- Quis custodiet ipsos custodes?-هو مقطع مأخوذ من الهجائيات المشهورة للشاعر الروماني (جوڤينال-Juvenal) التي تناول عبرها نقداً لاذعاً لعهد الرعب والاستبداد الذي عاشه في ظل حكم القيصر دوميتيانوس (81- 96م)، وهي تعبّر أيضاً عن معضلة أبدية اصطلينا بشرّها لمدى عمر دولتنا الفتية وتتمثل في المبدأ الجدلي التاريخي الذي يعبّر عن أزمة السلطة المطلقة وحقوق الأفراد وكيفية ضبط العلاقة بين هذين العاملين.

من الذي سيحرس الحرس؟ ومن الذي سيحاسبهم ومن الذي يضمن ألّا يتجاوزوا حدودهم؟.!

وإن وضعنا من يحرس الحرس، فمن سيضمن أن يكون هؤلاء بدورهم– أي حرس الحرس– على قدر الثقة؟! ومن سيراقبهم؟! وهكذا تستمر الدائرة الجهنمية إلى ما لا نهاية..

ولنكون أكثر دقة فإن سلسلة المقالات هذه ستتناول التمظهرات المادية لمحنة العلاقات المدنية- العسكرية في السودان والتي تشكل أهم أسباب أزمة الدولة السودانية وتجلياتها أيضاً، وسنحاول عبرها كذلك تلمس آفاق الحلول أو على أقل تقدير تحريك الحوار الضروري والعاجل حول هذه القضية المحورية.

الجملة المركزية في الخطاب العسكرتاري الذي تروّج له الطغمة الانقلابية المختطِفة للدولة حالياً وداعميهم من سماسرة السلطة من المدنيين والتي يتم ترديدها بصورة شبه آلية ومملة عبر المنصات الإعلامية التابعة لهم والخبراء الاستراتيجيين وجوقة متلقي العطايا الآخرين هو أن الإصلاح الأمني والعسكري خط أحمر لا يجب على المدنيين تخطيه لأنه شأن يخص العسكريين فقط لا غير، وهي في حقيقة الأمر تعبّر تماماً عن جوهر هذه الأيديولوجيا الزائفة المخاتلة والتي تسعى إلى إعادة تعريف طبيعة المجتمع بتقسيمه إلى عسكريين ومدنيين ومن ثم ترسيخ مفهوم أن المنظومة الأمنية والعسكرية كحزمة مؤسسات ليست فقط مستقلة عن الدولة بل وكوصية عليها تعلو فوق كل أطرها الضابطة بما فيها القانون والدستور والرقابة الشعبية وبالتالي وضمنياً تصوِّر المنتمين لها كشريحة من المواطنين من الدرجة الأعلى أي العسكريين/ النظاميين (ويمثلون أقل من 1٪ من عدد السكان) أي أعلى شأنا من المدنيين/ الملكية القابعين في الدرجة الأدنى (أكثر من 99٪ من السكان) والمشروعة استباحة حقوقهم الاقتصادية والسياسية بل قد يصل الأمر إلى التنكّر حتى لحقهم في الحياة أن أبدو رفضاً ومقاومة لهذه التراتبية (119 شهيدا منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021م) وهي مشروعية- أي الاستباحة الكاملة- مستمدة حصرياً من القدرة على فرضها في الواقع بالقوة باستخدام أدوات القمع المتعددة ثم الافلات من العقاب.

كيف يمكن تغيير هذه العقلية الراسخة والتي تقف على الأرضية الصلبة ذات الـ54 طبقة من سنوات الحكم الديكتاتوري العسكري العضوض؟، كيف يمكن أن نغير هذا الخطاب بصورة كاملة وإعادته إلى نسقه المنطقي، أي تحميله حقيقة أن المنظومة الأمنية والعسكرية هي حزمة مؤسسات خدمية تابعة للدولة، مثلها ووزارة الصحة والسكة حديد، وأن العاملين فيها هم موظفين محترفين يتلقون أجراً شهرياً مقابل القيام بمهام محدّدة ليس من ضمنها الحكم أو المنافسة التجارية، وأن الشعب هو المالك لهذه المؤسسات وأن ما يجب أن يمنع من حدوثه هو العجز عن توفير السلعة الوحيدة المناط بهذه المؤسسات تقديمها لهذا الشعب وهي الأمن، والتي تتضمّن الحفاظ على حقهم في الحياة، وأن الخط الأحمر الحقيقي الذي يجب عدم تخطيه أو المساس به هو حق المدنيين الأصيل في الخوض في لب قضايا الإصلاح الأمني والعسكري لأنها تمس كل جوانب حياتهم، ماضيها، حاضرها ومستقبلها.

يجب أيضاً وتمهيداً لذلك، أي قبل تناول قضية أزمة المنظومة الأمنية والعسكرية بمستوياتها المختلفة، التشريعية المؤسسية والثقافية، الاعتراف أن 54 عاماً من الحكم العسكري أورثت ليس فقط نمطاً من السرية التامة على سلوك هذه المؤسسات بل نمطاً من الحظر الذاتي الذي فرضه المدنيون على أنفسهم رضوخاً لخطاب التهديد المغلف والذي تقف جثامين مئات آلاف الضحايا شاهدة على جديته وخطورته، والذي ما انفكت النخبة التي تدير هذه المؤسسات تطلقة مستندة، بجانب الشواهد المذكورة، على رصيد ذاخر من ثقافة الوصاية الأبوية المتوارثة والراسخة في مجتمعاتنا وعلاقات السلطة التي تتناقض كلياً مع مفهوم الفردانية بل ترفضها وتستهجنها وعقل جمعي يقيني للشريحة واسعة من الجمهور (المدني بالطبع) يقبل بما يشبه التقديس بكل الحدود التي ترسمها السلطة العليا، بالأخص ان كانت سلطة تستمد شرعيتها من القوة الجبرية.

ونختم هذا المقال التمهيدي الأول بسؤالين؛ الأول مفتوح أطلقه في السبعينات عالم الاجتماع البروفيسور إدوارد شيلز في كتابه “العسكر والتطور السياسي في الدول الناشئة”:

“لماذا يحكم العسكر مجتمعات لم تشكل فيها العسكرية والنجاحات في الحروب قيمة عليا؟، وتحتفظ فيها الجيوش بميزانيات كبيرة دون أن تخوض حروباً، فيما يخضع الجيش للحكومات المدنية في دول خاضت حروباً كبرى، وكانت فيها العسكرية من مناقب النخبة المحمودة، ومع ذلك لم يحكمها الجيش مباشرة، أمريكا، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا وغيرها؟”.

وسؤال ثانٍ لكنه بلاغي هذه المرة:

“هل تعلم أن السودان على رأس قائمة الدول الأفريقية التي شهدت محاولات انقلابية منذ استقلالها بمجموع سبعة عشر، ست منها ناجحة؟.”

يتبع…

تاريخ الخبر: 2022-11-14 18:23:20
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 49%
الأهمية: 61%

آخر الأخبار حول العالم

هذه أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق هدنة في غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:25:24
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 66%

دورة مدريد لكرة المضرب: الروسي روبليف ي قصي ألكاراس حامل اللقب

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:24:39
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 51%

هذه أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق هدنة في غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 12:25:18
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية