بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تليين موقفها تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا بفعل صعوبة حسم الأزمة عبر الحل العسكري.

وفرضت واشنطن عقوبات على روسيا مع بدء الحرب في فبراير/شباط الماضي ودعت الاتحاد الأوروبي وباقي دول العالم إلى اتخاذ خطوات مشابهة.

وحاولت تضييق الخناق على روسيا عبر إنهاء استيراد الغاز منها وفرض عقوبات تخص قطاعات حيوية عدة في خطوات لدفع روسيا إلى تغيير سياستها.

موقف متغير

لكن مع إطالة أمد الحرب، بدأ الموقف الأمريكي بالتغير نحو التلميح إلى أهمية الحوار بين روسيا وأوكرانيا، وهو نهج سبقته إليها تركيا ودعت إليه منذ بدء الصراع.

وكشف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عن أن واشنطن "لا تعارض" الحل الدبلوماسي لإنهاء الحرب في أوكرانيا.

جاء ذلك خلال مؤتمر صحفي عقده بلينكن مع نظيرته الفرنسية كاثرين كولونا في 21 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عقب محادثاتهما في العاصمة الأمريكية واشنطن.

وقال إن واشنطن "ستدرس كل وسيلة تعزز الدبلوماسية مع روسيا لإنهاء الحرب في أوكرانيا". غير أنه في المقابل أشار إلى أن موسكو "لا تبدي" حالياً أي نوايا تؤشر على استعدادها للمسار الدبلوماسي.

وأضاف أن اتصالات المسؤولين الأمريكيين بنظرائهم الروس "ستستمر" في سبيل إنهاء الحرب الدائرة.

وفي اليوم نفسه، بحث وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، هاتفياً مع نظيره الروسي سيرغي شويغو، أهمية الحفاظ على خطوط الاتصال بين واشنطن وموسكو خلال الحرب الأوكرانية.

وأعلنت روسيا بدورها في 8 نوفمبر/تشرين الثاني، أنها ليس لديها "شروط مسبقة" لإجراء مفاوضات مع أوكرانيا لإنهاء الصراع الجاري، لكن "يتوجب على كييف إبداء حسن النية".

وقال نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودنكو: "لا توجد شروط مسبقة من طرفنا، باستثناء الشرط الأساسي، وهو أن تظهر أوكرانيا حسن النية".

وجاء تصريح المسؤول الروسي تعليقاً على وضع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي "احترام ميثاق الأمم المتحدة والتعويض عن الخسائر" كشرطين للتفاوض مع روسيا.

وأضاف رودنكو أن "روسيا أبدت دائماً استعدادها لإجراء محادثات سلام".

وتابع بأن "أوكرانيا مررت قانوناً يمنع إجراء محادثات مع روسيا. هذا خيارهم لكننا دائماً أعلنَّا عن استعدادنا لمثل هذه المفاوضات"، لافتاً إلى أن أوكرانيا هي من وقفت المحادثات.

مسارات ودلائل

وتتحرك واشنطن حالياً ضمن مسارين هما تقديم الدعم العسكري إلى أوكرانيا والبحث عن مخرج دبلوماسي ينهي الحرب. ويعد الخيار الأخير الأكثر تفضيلاً للعديد من الدول على رأسها تركيا التي تبنته من البداية ودعت إليه، وحاولت تطبيقه على الأرض من خلال جمع الفرقاء على نقاط مشتركة مثل تحرير الأسرى واتفاقية الحبوب.

ومع أنه أحد أبرز المؤيدين لزيلينسكي، تشير بعض التحركات إلى سعي الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى حوار مع نظيره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ومن المؤشرات، نفي المسؤولين الأمريكيين علمهم المسبق بالتخطيط لاغتيال داريا ابنة ألكسندر دوغين القومي الروسي البارز المقرب من بوتين.

ورحب الكرملين في أكتوبر/تشرين الأول، بتقرير استخباري أمريكي أفاد بأن قرار عملية التفجير التي استهدفت الصحفية داريا دوغين ابنة المفكر دوغين في 20 أغسطس/آب الماضي صدر عن مسؤولين في الحكومة الأوكرانية.

وقال التقرير الذي نشرته نيويورك تايمز إن أفراداً من الحكومة الأوكرانية متورطون في التفجير؛ وإن الولايات المتحدة لم تكن لديها معرفة سابقة بالأمر، ولم تقدم أي معلومات استخبارية أو أي مساعدة أخرى، وإنها كانت ستعارض العملية لو عُرضت عليها.

وفي 6 نوفمبر/تشرين الثاني، ذكرت صحيفة واشنطن بوست أن الولايات المتحدة تشجع أوكرانيا سراً على التلميح بالانفتاح على التفاوض مع روسيا.

نقلت الصحيفة عن مصادر أن طلب المسؤولين الأمريكيين لا يهدف إلى الضغط على أوكرانيا للجلوس إلى طاولة المفاوضات، وإنما محاولة محسوبة لضمان أن تحافظ كييف على دعم دول أخرى.

وأضافت الصحيفة أن مسؤولين من الولايات المتحدة وأوكرانيا أقروا بأن رفض الرئيس زيلينسكي إجراء محادثات مع بوتين تسبب في قلق في أجزاء من أوروبا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، إذ تشعر تلك المناطق بأن تكلفة الحرب عالية على قطاعي الغذاء والوقود.

دور تركيا

وفي 22 يوليو/تموز الماضي شهدت إسطنبول توقيع "وثيقة مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من المواني الأوكرانية" بين تركيا وروسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة.​​​​​​​

وتضمّن الاتفاق تأمين صادرات الحبوب العالقة في المواني الأوكرانية على البحر الأسود (شرق أوروبا) إلى العالم لمعالجة أزمة نقص الغذاء العالمي التي تهدد بكارثة إنسانية.

وقال الرئيس التركي إنه اتفق مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين على إرسال الحبوب والأسمدة إلى الدول الأكثر احتياجاً في إفريقيا مجاناً.

وأشار إلى أن "الصومال والسودان وجيبوتي ستكون على رأس الدول التي ستستفيد من ممر الحبوب". وهذا الاتفاق إلى جانب الحراك الدبلوماسي الذي تجريه تركيا لحل الأزمة يلقى إشادة دولية واسعة.

ويقول المحلل السياسي التركي أحمد الأسمر: "على الصعيد الخارجي، بدأت الولايات المتحدة بإعادة تقييم للموقف مع تأكدها من استحالة الضغط على روسيا عبر الخيار العسكري".

وهذا ما ظهر من خلال الاتصالات المعلن عنها بين روسيا والولايات المتحدة، حسب ما أوضح الأسمر لـ TRT عربي.

وشدد على أنه "تبين أن الأزمة مستمرة ويصعب حلها عبر العمل العسكري، ولذلك اتجهت واشنطن إلى الحل الدبلوماسي".

وبيّن أن بعداً داخلياً في أمريكا، زاد من التوجه نحو هذا الخيار، ويتمثل في تقدم الجمهوريين في الانتخابات النصفية.

ولذلك فهو يتوقع أن يكون للجمهوريين "موقف مغاير لسياسة البيت الأبيض الحالية تجاه الحرب، وإعادة تقييم للأوضاع بخاصة أن روسيا أصبح موقفها قوياً مؤخراً"، وفق تقديره.

وبعد أشهر على بدء الحرب، تلعب تركيا دوراً حيوياً في محاولة إقناع الطرفين بإنهاء الصراع بالطرق الدبلوماسية.

وكان هذا أحد أبرز الدوافع وراء زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى لفيف الأوكرانية في أغسطس/آب الماضي، حيث التقى نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.

وبيّن المجلس الأطلنطي للدراسات أن القيادة التركية تحرص على الاستفادة من نجاحها الدبلوماسي في صفقة الحبوب لتقديم اتفاق نحو سلام دائم.

حتى أن بعض المسؤولين الأتراك اقترحوا أن يشكَّل مركز التنسيق المشترك الذي أنشئ في اسطنبول كإجراء لبناء الثقة بين الأوكرانيين والروس.

وتقول مجلة فورين بوليسي الأمريكية: "لطالما سعت أنقرة إلى الاستفادة من موقعها الاستراتيجي على مفترق الطرق العابر للقارات بين أوروبا وآسيا، وكذلك تأكيد مفهوم الاتصال، وهي اليوم تحقق نتائج ذات مغزى".

من الناحية الوظيفية، تعمل تركيا كممر عبور حيوي للموارد الرئيسية مثل إمدادات الطاقة والغذاء، وقد أصبح هذا الممر أكثر أهمية نظراً للاضطرابات الاقتصادية والتجارية للحرب الروسية في أوكرانيا، وفق تقدير المجلة.

وأردفت أنه من الناحية المؤسسية، تعد تركيا عضواً حيوياً في الكتلة الأمنية للناتو ولكنها تعمل بشكل مستقل، وأحياناً تتعارض مع، موقف شركائها الأمريكيين والأوروبيين، بما في ذلك علاقتها مع خصومها الغربيين مثل روسيا وإيران.

وبدوره، يقول مركز سيتا التركي للدراسات: "وسط المواجهة بين الغرب وروسيا ، والتي من المتوقع أن تستمر لفترة طويلة، يبدو أن أهمية تركيا الاستراتيجية قد أعيد اكتشافها".

ففي واشنطن والعواصم الأوروبية، تحسن تصور تركيا بالفعل. ومن المتوقع أن يكون لهذا التطور تداعيات استراتيجية كبيرة بمرور الوقت. ومع ذلك، فإن قوة تركيا المتنامية ليست متجذرة فقط في موقعها الجغرافي أو حقيقة أنها تجد نفسها على مفترق طرق لصراعات متعددة.

وبدلاً من ذلك، فإن المكانة الدولية للدولة هي نتاج للسياسة الخارجية النشطة التي التزمت بها في السنوات الأخيرة، حسب تقدير المركز.



TRT عربي