نهر السين

سيفكر فى أن يستهل قصته «عين الطائر»، بمشهد بانورامى، وبأقل عدد ممكن من الكلمات، سيصف المدينة الرمادية، وهى تتثاءب فى حضن صباح صيفى طازج، منذور للكسل واقتناص مباهج الحياة، سيفكر هذا الرجل الأربعينى، الغارق فى عزلته الباذخة فى فوائد السفر، وسيضحك وحده، وهو يستحضر ما رواه سائق سيارة أجرة؛ حيث انتقم جيرانه من أولئك الغرباء.. بمنعهم من الخروج من الشقة المفروشة؛ حبسوهم- هناك- بوضع عمود على الجدار، وربطوا المزلاج مع القطعة الخشبية، بحبل متين...

سوف يتخيل شاب فى منتصف العمر/العهر- هنا.. والآن- أن تلك الشقة تربض أسفل عمارة صغيرة من ثلاثة طوابق قبالتها مقهى متواضع، سينزوى فى ركنها القصى شاب فى منتصف العقد الرابع، سيبدو مكتئبًا دومًا، وكأن كل هموم العالم ملقاة بين يديه.

سيحك ذقنه، كأنما يحلب الكلمات، كما كانت تفعل جدته مع بقراتها، قبل أن تغادر الشمس سريرها المخملى.. سيكتب بخط مائل عن استغاثات البنات وخوفهن من الفضيحة، والكلام البذىء، الذى سيقذفه فى وجوههن رجال الشرطة بلا شفقة، سيفكر الرجل الغارق فى حقول قصصه، المنتشى بتغاريد الطيور، وكأن تلك الطيور آخر الناجين من طوفان المدن، وسيواسى نفسه أن هذا العالم مائل بالفعل، وهو منزوٍ فى ركن قصى، فى مقهاه المفضل، سيضع هاتفه البليد جانبًا، سيرتشف آخر قطرة من ليل قهوته، سينظر إلى الفتاة الجالسة فى الشرفة، تلك الشرفة التى تقبع فى الطابق الأول من بناية ذات ثلاثة طوابق، تملكها امرأة عجوز وحيدة،  سيلعنها المؤلف الضمنى على لسان بطل قصته الجديدة: «عين الطائر».

ستداعب الفتاة، التى ستبادله النظرات الصامتة شعرها، وبكثير من الأسى، سيكتب عن اللحظة، التى امتدت فيها أصابع بطل قصته: «عين الطائر»، وهو يمسد شعره، كأنما يبادلها الغزل، سينظر إليها طويلًا تلك النظرة، التى تدوم دهرًا فى لقاء خاطف لا يتعدى خمس دقائق، هى الشىء الوحيد المتاح فى عالم محاصر بالمتاريس، السياجات والكثير من الأكاذيب والمقاصل، وبخط مائل سيكتب: «ماذا يحدث؟ لا شىء..  ومن أين تسلل هذا الحداد الطويل؟ كل ما فى الأمر أن شهد نظرتك كان خطوتى الأولى فى منحدر الدموع».

سيمد الرجل الأربعينى يده، سيمسد ما تبقى من شعر داهمه الصلع مبكرًا، كما داهم الحزن قلبه منذ نعومة مشاعره، لهذا يستوطن الشجن نصوصه الأخيرة، ولن يبالى بطل قصته الثلاثينى بحديث رواد المقهى خلفه، وهم يتحدثون عن طفولة المكان فى حسرة.. عن حقول القمح، التى كانت تمتد حتى طريق سيدى بوزيد، وبمزيج من الشفقة والسخرية، سيشير أحدهم إلى بيت السيدة الحيزبون، سليطة اللسان وابن أختها، ستلعلع قهقهاتهم كالرصاص الغادر، الذى سيندلع فى آخر هذه القصة، وهم يتحدثون عن سطول الماء، التى كانت تنهمر فوق أجسامهم، حين يعبرون من تحت الشرفة، وهى تنظف يوميًا البيت، ودون أن تلقى نظرة إلى الخارج، تسكب السطل دون أن تطل، كأنما تتخلص من لعنة ما أو نحس ما.

سيفرك عينيه، وهو يحدق فى الشرفة، وسيرنو إلى المرأة العجوز الجالسة هناك مشدوهًا، وهى تنظر إليه- بل إلى الجميع- نظرات مريبة، كأنما تدين اقتحامهم عالمها الخاص، وبلا مبرر درامى، سيقحم الشاب الثلاثينى مشهد اعتذارات متكررة؛ دائمًا يعتذر العسكرى للجيران وللمارة بأن عقل خالته.. عقل طفل، ويؤكد لهم أن قلبها أنقى من دمع العيد، وسيعلق أحدهم ساخرًا بأن هذه العمارة هى التى جعلته يتحمل جنون خالته/أمه بالتبنى كل هذه السنوات، وسيقلد هذا الظريف حركته، وهو يعرج.. سيطوح برجله اليمنى فى الهواء عاليًا، بشكل بهلوانى، لأنه لا يستطيع أن يثنى ركبته اليمنى، بعد حادث قنص، وهو ينظف البندقية، وستلعلع قهقهاتهم، مرة أخرى، مثل سرب حجل أفزعه طلق نارى مفاجئ، ولأن الضحك يعدى.. ستضحك فتاة الشرفة العشرينية، وهى ترنو إلى الشاب، الذى يحاول التسلل إلى بستان قلبها، بينما سيتحسس الآخر شعره، وسيحدق فى كفه، بعد أن أحس بلزوجة دافئة فوق قمة رأسه، وسيغمغم: «هذا الطائر مريض دون شك».

 من علٍ، سيتلصص عليهم، سيسمع حتى حواراتهم الداخلية، سيتراجع إلى الخلف، وهو يتمطى كقط قبالة الإسفلت، متأملًا الشرفة المسيجة، سيسمع السارد العليم ضجة فى الجوار، من خلفه بالضبط.

سيتراجع الشاب الأربعينى إلى الخلف، سيرنو إلى البناية ذات الطوابق الثلاثة، التى سيتحدث عنها رجال تهالكت أجسامهم فوق الكراسى، كأنما يستمتعون باستراحة اليوم السابع، بعد أن فرغوا من أعمالهم: 

- العسكرى تبنته خالته المجنونة، لكى يؤنس وحدتها، وهو آخر من باع حقله هنا.. باع بالثمن الذى شاء. أتذكر جدًًا كيف كان يتصدى لعمال شركة التجهيز ببندقيته، ليمنعهم من الاقتراب من حقل القمح.

- مسكين... هربت زوجته مع شاب صغير، بعد إعاقته..

- السياج يعيق النظر، يحول دون رؤيتها من فى الخارج.

ستتعالى ضحكاتهم مرة أخرى وأخيرة، بينما سيفكر الشاب الثلاثينى فى إنزال الطائر من عليائه، سيجعل الأعرج ينتقم من خيانة زوجته وسخرية الآخرين، وهم يلوكون خبر سمعته ليل نهار، سيرنو من شرفته فى الطابق الأخير، مثل إمبراطور مهزوم، وفى تعالٍ غير خفى، سيغيب دقيقة خلف إطار الباب، وسيتطلع الشاب الأربعينى إلى الشرفة فى دهشة، والرجل يصوب فوهة بندقيته فى اتجاه رصيف المقهى، وشتائمه البذيئة تغمر المكان، وهو يأمر بناته بالدخول. 

سيخرج الشاب الثلاثينى من تلك القصة، وسيطلق ساقيه للريح لاعنًا من ابتكر المقاهى، سيتداخل الواقع والخيال أمام شاب فى منتصف العهر، لا يصلح أن يكتب، كما لو كان نبيًا بلا نبوة وبلا أتباع.. سيحدق فى المرأة الحيزبون، التى ستقف أمامه، وبلا مقدمات، ستنهال بكفها على خده، بكل ما تبقى فى جسمها من قوة، وهى تزمجر: «لماذا تتلصص علىّ من ذلك «الثقب»؟». فى غمرة صدمته، سيحاول أن يجد تفسيرًا لما سيحدث.. سيتذكر تلك النظرات المتبادلة بينهما، طيلة صبيحة صيف طازجة، وهو الساكن الجديد فى الحى، فى غرفة فوق سطح بيت واطئ، بعد أن سكبت سطلًا من الماء القذر فوقه، وهو يمر من تحت شرفة البيت المسيجة، وهو يبحث عن حجرة للإيجار المؤقت، بعد أن وصلته دعوة لاجتياز اختبار ما، وبكل بساطة، رجل مثله مهموم بأعباء هذا الموت، الذى يعيشه الآخرون، لن ينشغل بمعرفة حكاية سطول الماء، التى تنهمر ليلًا ونهارًا... سيجلس، ذات ظهيرة قائظة، على كرسى منزوٍ فى مقهى أغلب رواده بدو، حتى تجف ثيابه، وستجف بسرعة بالفعل. سيحاول بعضهم أن يبسط له ما حدث، هكذا سيجد نفسه شخصية ضمن قصة عبثية، على الرغم من أنه لا علاقة له باليوم السابع ولا بالحنين الريفى، بيد أن ملامحه تخبئ رائحة حقول القمح، وتشى بحسرة الهاربين من حافة الحياة، لكنه لم يعرف لماذا سيطلق ساقيه للريح، والجسد الواهن للمرأة، التى لم يكن يحبها أى أحد يتهاوى أمام طاولته، غارقًا فى دمائه، وقد صار مثل الغربال. سيتحسس خده، بينما صدى الصفعة ما زال يتردد فى أذنه، ولن يستطيع أن ينسى نظراتها المذعورة، وهى تطل من خلف سياج غرفة بالطابق الأرضى.

إلى سندباد القصة والحياة

الكاتب الكبير أحمد بوزفور 

تاريخ الخبر: 2022-12-17 18:21:54
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 47%
الأهمية: 58%

آخر الأخبار حول العالم

36 رياضيا في فريق اللاجئين بأولمبياد باريس

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 21:26:14
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 60%

36 رياضيا في فريق اللاجئين بأولمبياد باريس

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 21:26:19
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 54%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية