قوى الثورة.. الانتقال والارتداد


قوى الثورة.. الانتقال والارتداد

خالد فضل

المشهد السياسي السوداني مرتبك ومربك، وتكتنفه تعقيدات عويصة، لعل قول الفيتوري ينطبق عليه بحذافيره: الغافل من ظن الأشياء هي الأشياء.

المصطلحات نفسها واللافتات صارت باهتة لأنها لا تدل على المسميات بصورة دقيقة.

ثمّ توصيف سائر، يقسم الحراك السياسي إلى (كويمات)، كوم قوى الثورة، كوم قوى الانتقال، ثم هناك كوم قوى الانقلاب والارتداد.

تخيّل معي بائع الخضار في سوق بحري، يفرش خضاره كويمات كويمات، الصورة عادية، لكن ما غير عادي أن تفحص كوم الطماطم لتشتريه فإذا به خليط من بصل وفجل و(عنكوليب) وطماطماية كدة!!.

القوى الموسومة بـ(قوى الثورة) قعّد توصيفها بدقة الجنرال البرهان من عجب!!  قائد الانقلاب نفسه، قال ذات صباح مخاطباً جنوده في قاعدة عسكرية شمال الخرطوم بحري (قوى الثورة هي القوى التي شاركت في إزاحة نظام المخلوع البشير)، في الحقيقة هذه القوى لا يمكن ضبطها كذلك بدقة؛ ببساطة لأنّ غالبها (غير منظم) فشباب المقاومة والنساء والصبيان والأطفال وهم الفئات الغالبة في تسيير المواكب وحشد الاعتصام المهيب قبل سقوط البشير وبعده، هذه القوى البشرية الهائلة لا يمكن بأي حال نسبتها إلى تنظيم مفرد أو حتى تحالف وحيد؛ ليكن قوى إعلان الحرية والتغيير، فأولادي مثلاً، وقد خرجوا في أول موكب في الحي يوم 20 ديسمبر 2019م، متأكد 100% أنهم لا يعرفون اسم تنظيم سياسي واحد، ولا ينتمون إلى أي منظومة سياسية أو فئوية، ولم يسمعوا بإعلان الحرية والتغيير من أساسو؛ لكنهم مع ذلك خرجوا ضد تسلّط البشير وقهر الكيزان وهربوا مع الهاربين بعد أن امتلأت صدورهم بـ(عبق) البمبان، هم وأضرابهم ملايين السودانيات/ نين، هكذا رفضوا حكم الجبهجية، ونشدوا التغيير الديمقراطي السلمي، ولسان حالهم يقول (ياخي سيب الكيزان يغوروا من وشوشنا ولكل حادثة بعد ذلك حديث) هولاء ما يزالون هم عصب القوى الثورية الحي، ولا نظلم أبداً شباب المقاومة خاصة في الخرطوم، والصبيان/ الصبايا الذين/ اللاتي ما فتئوا يقدمون الأرواح والدماء، ويقولون (لا شراكة لا مساومة لا تفاوض)، حقهم أصيل فيما ينشدون، وأي تسوية سياسية يجب فرضاً أن تحظى بقبولهم هم أولاً.

ولأنّ شباب المقاومة كما أسلفنا لا ينتظمون في منظومة واحدة؛ من الطبيعي أن تنشب بينهم تباينات في الموقف من المسألة الواحدة، فنجد مثلاً لجان مقاومة أحياء أم درمان القديمة يوافقون على الاتفاق الإطاري الذي جرى حفل توقيعه في القصر الجمهوري قبل أقل من اسبوعين، بينما لجان مقاومة محلية كرري تعلن وقف أي تنسيق سياسي وميداني مع من يوافق على ذلك الاتفاق، فيما أبدت بعض لجان المقاومة في الولايات مواقف متباينة حول بعض المسائل مثل اتفاق سلام جوبا، الأطراف محقة في مواقفها دون شك، لأن طبيعة تكوين هذه اللجان تقوم أصلاً على فرضية (الاتفاق على هدف مشترك) وسبل متعددة لبلوغه أو هكذا تبدو لي الخطة السليمة، فكل شخص ديمقراطي يستوعب أنّ حقه متساوٍ مع حقوق الآخرين. ولكل شخص الحق الكامل بالتالي في التعبير عن موقفه بـ(السلمية) التي تمثل السلاح الأمضى في دحر الطغيان والعنف، وبناء المستقبل المنشود.

كوم قوى الثورة ما يزال يستوعب كل أطراف قوى إعلان الحرية والتغيير- المجلس المركزي، وبعض مكونات ما سمي بالتوافق الوطني- مؤخراً الكتلة الديمقراطية- كما يشمل بالضرورة الحزب الشيوعي وبعض تجمع المهنيين، وكل المنظومات تحت لافتة (التغيير الجذري)، يشمل هذه المنظومات في العاصمة والولايات كذلك، وهي اللافتة الأكبر عدداً فعلاً والأكثر فاعلية، والأوسع انتشاراً أفقياً.

وبالطبع لا يسلم هذا الكوم من (الداء) السوداني المزمن، وباء الانقسامات والتنافر وفقدان الثقة، وهي الأجواء المثالية لنشاط قوى الارتداد والانقلاب، أتصور أحياناً أنّ صعود خطاب التخوين والتجريم المتبادل بين مكونات قوى الثورة ينطلق من مواقع الردة، ويتغذى من ثدي قوى الظلام، وبدون شك بين صفوف الثوار (مندسون)! المشكلة أنّ المندس يملك تخطيطاً دقيقاً وخبيثاً ويلعب على أوتار محسوبة، وغير المندسين يعملون بـ(حسن نية) وهدفهم عظيم لكنهم عرضة لتخذيل الأشرار، وإرث 30 سنة من الدغمسة والكبت والترهيب والترغيب والاختراق ليس سهلاً على كل حال.

كوم قوى الانتقال، وهو مصطلح ورد في الاتفاق الإطاري تحديداً؛ وإن كان د. عبد الله حمدوك رئيس الوزراء الانتقالي المستقيل كان قد استخدمه في أكثر من مناسبة، هذه القوى وقفت ضد انقلاب البرهان/ حميدتي في 25 اكتوبر2021م، ومن أبرزها تنظيم حزب المؤتمر الشعبي وفريق من أنصار السنة وفريق من الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، هولاء بكل تأكيد أحرزوا تقدماً في مواقفهم وفي مسار بناء الدولة المدنية غض الطرف عن الاتفاق أو الاختلاف مع أطروحتهم الفكرية أو السياسية، فالدولة المدنية الديمقراطية هي التي تستوعب كل المشارب والمدارس السياسية، المختلف قبل المتفق، وعند حلول موعد التصويت والانتخاب لشغل مناصب الحكومة والهيئة التشريعية (الحشاش يملأ شبكتو)، هذه هي سمات ما ننشده من الدولة المدنية الديمقراطية- وبالمناسبة طبيعة دولة هكذا لابد أن تكون علمانية- وعلى المزايدين باسم الإسلام السياسي أن يسألوا الأخ المسلم أردوغان في تركيا.

أها عندما نأتي لتفحص الكيمان نجد أنّ قائد الانقلاب ونائبه قد بصما على الوثيقة المطروحة مع توقيعات مكونات من قوى الثورة، وأنّ بعض قوى الثورة تقف في ضفة المناوئة لتلك الوثيقة، بعض قوى الثورة تتشابك خطوطها وتنتظم مع بعض مكونات قوى الارتداد؛ كما في تحالف بعض أعوان المؤتمر الوطني مع مناوي وجبريل.

أها هنا تتعقد المشاهد، وتختلط الكيمان فلا يدري المرء أبطاطساً اشترى أم باذنجان، دكوة أم شمار! هنا تسهل مهمة قوى الانقلاب بصراحة، لأنّ الأجواء المرتبكة توفر لهم فرصة عظيمة لبث سمومهم، وتعكير المناخ العكر أصلاً، فما هو غير معقول مثلاً أنّ المعارضة للاتفاق الإطاري تنطلق بصورة أساسية من المعسكرين المتقابلين: معسكر بعض مكونات قوى الثورة، ومكون المؤتمر الوطني ومن لفّ لفه، لا بد من تأمل عميق في هذه الحالة، صحيح كلا المعسكرين ينطلق في معارضته من قاعدة مختلفة، لكن بالمحصلة الأخيرة يتفق الطرفان على إسقاط الاتفاق، وعندئذٍ سيكون جزء كبير من مكون قوى الثورة قد خرج من توصيفه كـ(قوى ثورية) في عرف الثوار، أما من جانب قوى الردة فإنّ سعادتها لا توصف من هذه الهدية المجانية (تعميق الإنقسام بين قوى الثورة)، فهل تنعدم فعلا خيوط الوصل بين مكونات القوى الثورية لهذه الدرجة ؟؟ ولعل شواهد الاستفادة من هذه الوضعية قد بدأت فيما يمكن تفسيره بنكوص البرهان عن الاتفاق في خطابه الأخير في المعاقيل، ولا ننسى أن المكون العسكري لم يشهد انقسامات عميقة بين مكوناته مثلما تشهد القوى المدنية، وذلك لطبيعة التراتبية المهنية التي توفّر قدراً من الضبط بين منسوبيه. هذه وضعية لابد من أخذها بجدية ونحن نفكر ونعمل على مقاومة الديكتاتورية وهزيمة الانقلاب وإسقاط التسوية.

تاريخ الخبر: 2022-12-17 18:23:36
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 55%
الأهمية: 67%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية